الرئيسية / مقالات / مع الذكرى الأليمة لجرائم الأنفال / النص الديني كسُلَّم للجريمة … الأنفال مثالاً / 1

مع الذكرى الأليمة لجرائم الأنفال / النص الديني كسُلَّم للجريمة … الأنفال مثالاً / 1

السيمر / السبت 16 . 04 . 2016

د . صادق اطيمش

قبل عدة سنين تقدم سجين محكوم عليه بالسجن لمدة عشرين سنة في احدى المدن الرومانية إلى المدعي العام في تلك المدينة بشكوى قضائية ضد الله . وقد برر حيثية الدعوى هذه بما يلي :
كنت قد تعاقدت مع الله في طفولتي أثناء طقوس التعميد بأن يحفظني الله من كل سوء يعترضني في حياتي . والآن وقد دفعني مسار حياتي إلى إرتكاب الجريمة التي هي شيئ سيئ بلا جدال ، فإن ذلك يعني ان الله هذا لم ينفذ بنود العهد الذي سبق وإن إتفقنا عليه ، وهذا يعني قضائياً ألإخلال بالعهد المتفق عليه ضمن عقد التعميد مما يستوجب إحالة المُخل بالعهد إلى القضاء والإقتصاص منه بسبب ذلك .
المدعي العام ادرج الدعوى في سجلاته ولم يعترض على حيثياتها . إلا انه بعد فترة وجيزة اعاد الدعوى إلى المشتكي رافضاً إتخاذ الإجراءات القانونية للإستمرار بها معللاً ذلك بأن المُشتكى عليه ليس لديه عنوان بريدي ثابت .
المفردة الإلهية التي تناولها الخطاب الديني المسيحي هنا في إجراءات التعميد، وظفها كأسلوب للترغيب في الدخول للدين الذي إمتازت به الأديان الإبراهيمية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام باعتبارها ادياناً لا يلعب الخيار الشخصي في الإنضمام إليها اي دور يذكر . فاليهودي يصبح بالوراثة يهودياً إن ولدته ام يهودية والمسيحي يصبح مسيحياً في سنة ولادته الأولى على الأغلب حينما يتم تعميده في هذا العمر ، والمسلم يصبح بالوراثة مسلماً أيضاً لانه وُلد من صلب اب مسلم . وفي هذه الأديان الإبراهيمية الثلاثة يلجأ الخطاب الديني إلى توظيف المفردة الإلهية الواردة في النص المقدس لتحويل الإنتماء الجبري إلى إنضمام طوعي مشوب بالثواب والعقاب .
الله الذي لا عنوان بريدي له ما أسهل ما يجده الطغاة ، لا ليعبدوه كما يطلب منهم ذلك بل ليوظفوه في تبرير ما يريدون ان يُصبغوا عليه صبغة الدين ، لأنهم يعلمون جيداً إن العقل البشري مهما ضمُر ومهما تحدد في طاقته الإستيعابية لا يمكنه ان ينظر إلى ما يُخطِط له وينفذه الطغاة إلا بعين لا ترى غير الجريمة امامها بكل بشاعتها وبكل ما تعكسه من بدائية الفكر المُخَطِطِ والمُنَفِذ لها .
إلا ان المشكلة لا تكمن هنا بالطاغية الساعي لتثبيت اركان إستبداده بكل ما لديه من قوة وبأس ومال ، مستعملاً كل قوانين الأرض في سبيل ذلك ، بل انها تكمن في مَن يسعى لتقنين هذه الجريمة بقوانين السماء وربطها بتعاليم الإله التي يوحون بأنهم لم يستلموها من غيره ، فيسعون بذلك إلى تحويل دين السماء إلى دين الفقهاء .
أرغب التأكيد هنا بما لا يقبل الشك والجدل بأن التعرض للخطاب الديني الذي يروجه بعض الفقهاء ، وخاصة فقهاء الحاكم ، ومناقشته من على منبر الدين نفسه ، لا يجب ان يُفسَر من قبل البعض ، وكما تعودنا على ذلك في مناسبات عديدة ، على انه يمس جوهر الدين وتعاليمَه . إن محور نقاشنا الآن يدور حول الخطاب الديني الإسلامي ، خاصة ذلك الخطاب الذي يسعى لتحقيق مقولة ” الإسلام دين ودولة ” فيبني على هذا الأساس الدولة الثيوقراطية القمعية او يجعل من توظيف الدين اساساً لمنطلقات الدولة التي تدعي العلمانية إلا انها تسعى إلى تسييس الإسلام او اسلمة السياسة .
هناك الكثير من الآراء الفقهية ووجهات النظر المنطلقة من الثوابت الإسلامية المتعلقة بتأويل وتفسير النص الديني قرآناً كان ذلك النص او سنة ، هذا إذا ما ركزنا على هذين المصدرين الأساسيين للشريعة الإسلامية دون النظر إلى ما تأتي به المصادر الأخرى الغير متفق عليها جميعاً تمام الإتفاق كالقياس والإجماع وغيرها . وبقدر إختلاف هذه الآراء في التفسير والتأويل ينسحب هذا الإختلاف على نوع النص إن كان محكماً او متشابهاً في النص القرآني او كان صحيحاً او موضوعاً في السنة النبوية.
موضوع حديثنا اليوم يتعلق بواحد من النصوص القرآنية التي وظفها الخطاب الديني لأغراض سياسية بلورت فكر وتوجه الإسلام السياسي لدى دكتاتورية البعث الساقط . بالضبط كما يجري توظيف النص الديني اليوم في فكر وتوجه الإسلام السياسي على الساحة السياسية العراقية الآنية وفي الفكر الإسلامي الذي تنشره وتنفذه عصابات الجريمة كداعش والنصرة وكل المليشيات السائرة على هذا الدرب القمعي الوحشي.
يحاول خطاب الإسلام السياسي بكل أنواعه الطائفية ، إذ ان الإسلام السياسي هو طائفي دوماً ، ان يجعل من النص القرآني إحدى آلياته المباشرة التي يمارس من خلالها التاثير على المجتمع . وفي أغلب مجتمعاتنا الإسلامية يجري هذا التأثير من خلال توفر عوامل عديدة أهمها :
1. إحترام النص القرآني وارتباط الغالبية من أفراد المجتمع إرتباطاً روحياً وعاطفياً به.
2- غياب الثقافة العامة كسبب مباشر لنظام القمع الدكتاتوري الذي عاشه المجتمع العراقي، واغلب المجتمعات الإسلامية ، يضاف إلى ذلك تفشي الأمية بشكل كبير في هذه المجتمعات .
3. غياب الثقافة الدينية العميقة وانتشار الفهم الديني السطحي .
4. عدم السماح بوجود البدائل الثقافية الساعية لنشر الوعي الثقافي من خلال المناهج التعليمية الموَجَهة والنشاطات الفنية والأدبية والعلمية الهادفة والتي تسعى لتنوير المجتمع .
5. وأخيراً عدم وجود الحركات الإصلاحية التي بدأها بعض المصلحين الإسلاميين الذين جرى إهمالهم من قبل هذا الخطاب .
وبسبب هذه المعطيات التي تعيشها معظم المجتمعات الإسلامية يسعى خطاب الإسلام السياسي إلى التحكم بتفسير وتأويل وشرح النصوص القرآنية حسب ما يمليه عليه توجهه السياسي محاولاً بذلك تصوير هذه التفسيرات والتأويلات وكانها الحقيقة المطلقة التي يؤمن بها هذا الخطاب ، رافضاً أية وجهة نظر أخرى ، خاصة تلك التي تُبعد هذا الخطاب عما يُخطَط له من أهداف سياسية . هناك كثير من الأمثلة على هذا التصرف والتي لا يمكننا التطرق إليها بإسهاب هنا . إلا ان موضوعنا لهذا اليوم المتعلق بالنص القرآني في مفردة الأنفال يمكن ان يشكل مثالاً واضحاً لنا على مثل هذا التعامل مع النص الذي يعتبره المسلمون نصاً إلهياً مقدساً.

مفردة الأنفال في مدلولها الخطابي اللغوي الديني ، هل لها مدلول إجتماعي نفسي أيضاً؟
عالم الإجتماع العراقي الدكتور علي الوردي يجيب بنعم على هذا السؤال من خلال شرحه لمعنى واهمية الغزو والغنيمة الناتجة عنه لدى البدوي الصحراوي ، وذلك في كتابه القيم حول مجتمع البداوة . فهل سعت دكتاتورية البعث لتحقيق هذا الغرض ، أي الغزو من اجل الغنيمة ، في إطلاقها إسم السورة الثامنة من القرآن على حملة قمع إجرامية ضد شعب بأكمله ؟ وهل كان الدكتاتور بحاجة إلى أن يَغنم ؟ وماذا كان يريد ان يغنم من شعب لا يملك غير كرامته التي هب يدافع عنها عبر نضاله الطويل وتضحياته الجسيمة بسببها ، كونه أكبر شعب على وجه الأرض لا دولة له تضم أوصال ارضه التي قطعتها سياسة المنتصر في الحرب بين قوى الإستغلال العالمي بكل اشكالها وطروحاتها ؟ لا … لم يكن ذلك هدف المخَطِط والمنفذ لجرائم الأنفال في كوردستان العراق . فخيرات العراق التي إستولى عليها هو وعائلته ورهطه جعلته في غنى عما يمكن ان يسلبه من شعب فقير مكافح . وحتى لو اراد ان يغنم الأرض فكان بإمكانه ذلك ، دون إستعمال السلاح الكيمياوي ، فهو صاحب الجيش الذي لم تستطع قوى التحرر الكوردية ان تقف بوجهه طويلاً دون إنسحابها إلى المناطق الجبلية التي تحصنت بها .
لقد بحثتُ طويلاً مفتشاً عن السبب الأساسي لتوظيف هذه المفردة القرآنية في حرب الإبادة هذه . فوجدت أن مفردة الأنفال لم تُذكر في القرآن إلا مرتين وفي نفس الآية الأولى من السورة الثامنة التي عرَّفَت المفردة هذه . وحين التقصي عن سر هذا التوظيف بشكل اعمق تبين لي بأن سبب توظيف هذه المفردة القرآنية من قِبَل الدكتاتور الساقط يخفي وراءه هدف تبرير الجريمة التي خطط لها . إذ انه كان يعلم بحجم هذه الجريمة وما ستجره على الشعب الكوردي من ويلات ومآسي وتدمير قد لا يستطيع الكثيرون من التعامل معها إذا لم يصحبها تبرير ديني يضفي على هذه الجريمة طابع الإيمان والسعي لتنفيذ رغبة إلهية . وهنا يأتي دور فقهاء السلاطين ليفسروا لهذا السلطان بأن الوقوف بوجه الحاكم والثورة عليه هو خروج على طاعة ولي الأمر الذي جاءت به الآية القرآنية رقم 59 من سورة النساء والتي تقول :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
لم يكترث الحاكم هذا بوجود الفقه المقابل الذي يوجب القيام على الحاكم الظالم والخروج عليه كما أفتى بذلك ألإمام ابو حنيفة ، بل أنه إعتمد في التخطيط والتنفيذ لجريمته هذه على الفقه الذي إعتبر ثورة الشعب الكوردي للدفاع عن حقوقه المغتَصَبة ، خروجاً على التعاليم الدينية وبالتالي فإنه من الواجب عليه كحاكم على هذا الشعب بإجمعه ، إذ لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، هذه التقوى التي خرج عنها الشعب الكوردي فحق عليه نص الآية 60 من سورة الأنفال والتي تنص على :
وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
فسورة الأنفال وظفها الطاغية بتأويله لمفهوم النص القرآني الذي أباح له أرتكاب هذه الجريمة ، وما قام به الحاكم يقع ضمن تنفيذ الإرادة الإلهية التي وجدها هذا الحاكم وفقهاؤه في تفسيرهم للنص القرآني .
ولكن هل يكفي ذلك لشحذ همم مقاتليه الذين قد يخرج من بينهم البعض ليشير إلى إسلام الشعب الكوردي والتردد في توجيه السلاح إليه إستناداً إلى ما تعلمه هذا البعض في إصول دينه كالأخوة بين المسلمين وعدم جواز قتل النفس البريئة وهكذا ؟. على هذا السؤال سنجيب في القسم الثاني من هذا الموضوع

اترك تعليقاً