السيمر / الجمعة 17 . 06 . 2016
ناجح العبيدي
قيل قديما إن النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة. لوحظت هذه الظاهرة في عهد النقود الذهبية عندما كان الناس يفضلون الاحتفاظ بالدنانير الجديدة والصفراء اللامعة و”يتخلصون” من الدنانير الصدئة والمتآكلة من خلال استخدامها في دفع أثمان ما يحتاجونه من سلع وخدمات.
والآن يبدو أن وجود النقود، وبغض النظر إن كانت رديئة أم جيدة ، يوشك على الانتهاء. فالحلم بإلغاء النقود الورقية والمعدنية لم يعد حكرا على الخبراء الاقتصاديين الحالمين بالمستقبل، بل أصبح مطلبا تبناه سياسيون معروفون، مثل المفوض الأوروبي للشؤون النقدية “غونتر أوتينغر” الذي قال بإن النقود بشكلها الورقي والمعدني ستنقرض قريبا وسنقوم بدفع أثمان مشترياتنا بواسطة تطبيق خاص بالهواتف الذكية. وتلقف الفكرة “جون كراين” رئيس مصرف دويتشه بنك ، أكبر مصرف ألماني و ثامن أكبر مصرف في العالم والذي توقع نهاية وشيكة للنقود الورقية خلال 10 سنوات فقط . ولكن ذلك لن يعني بالطبع اختفاء العملات وتوديع الدولار والدينار والليرة وغيرها إلى الأبد. فالمشروع يهدف إلى إنهاء عمليات الدفع نقدا والانتقال كلية إلى عمليات الدفع البنكية والألكترونية. وفقا لذلك فإن النقود المتداولة ستصبح بالكامل نقودا ائتمانية على شكل حسابات وودائع مصرفية ، أي مجرد أرقام. وفي الحقيقة فإن التعامل بالنقود الورقية (والمعدنية) أصبح منذ سنوات هامشيا ويتراجع باستمرار ، خاصة في الدول المتقدمة. هنا تهمين النقود الائتمانية على عملية التداول حيث تستخدم التحويلات المصرفية والشيكات والبطاقات الائتمانية في دفع الأجور وأقساط القروض وإيجارات المساكن وتمويل المشتريات الكبيرة ، بل وحتى في شراء الحاجات اليومية كالخضار ووجبات الطعام والوقود وغيرها. وبهذا أصبحت عمليات الدفع نقدا لا تشكل سوى أقل من 5% من إجمالي عمليات التداول النقدي.
ولكن حتى هذه الـ 5% المتبقية ينظر إليها البعض كبقايا من زمن غابر لا بد التخلص منها من خلال إصدار قانون يحرم الدفع نقدا. غير أن هذا المشروع يلقى ردود فعل متباينة بين رافض ومؤيد.
الرافضون، أي المتمسكون بالنقود التقليدية ومعظهم من اليساريين، يرون أن إلغائها يصب في صالح البنوك التي ستسيطر على كل شيء. ويضيف هؤلاء بأن مثل هذا الإجراء سيأتي على حساب الحريات الفردية ويمثل خطوة نحو خلق “الانسان الزجاجي” الذي تعرف البنوك عنه أدق التفاصيل. ويحذر أنصار التعاملات النقدية التقليدية من أن اختفائها سيؤدي لا محالة إلى التضخم ، مستندين في ذلك على عالم الاقتصاد الانجليزي الشهير”جون كينز” الذي أشار قبل 80 عاما في كتابه “بحث حول النقود” إلى أنه: “لو اختفت النقود الورقية فإن البنوك ستتمكن نظريا من خلق كميات لا نهاية لها من النقود الائتمانية” . بل ولا يستبعد هؤلاء عودة المستهلك مرة أخرى إلى استخدام المعادن النفيسة.
في المقابل يرى أنصار التخلي عن عمليات الدفع نقدا أن ذلك سيوجه ضربة قوية للجريمة المنظمة وأعمال السطو والسوق السوداء وغسيل الأموال والتهرب الضريبي وكذلك تمويل الإرهاب. فكل منْ يشارك في مثل هذه العمليات غير الشرعية لا يحبذ استخدام البطاقات الائتمانية او التحويلات المصرفية لأنها موثقة وتسهل مراقبتها. ولهذا يفضل هؤلاء عادة التعامل نقدا ، وخاصة بالعملات الصعبة كالدولار. وينطبق هذا أيضا على أبو بكر البغدادي، الخليفة المزعوم لـ”الدولة الإسلامية” . فلو اختفت النقود الورقية سيجد البغدادي نفسه في ورطة كبيرة وسيعجز عمليا عن تمويل “بيت مال المسلمين” وعن دفع الرواتب لمقاتليه. ولن ينفعه في ذلك “الدينار الذهبي” التي أعلنت دولته الإسلامية قبل عام إصداره ، لأن أتباعه لن يقبلوا به ولن ينتظروا في كل الأحوال الحور العين التي يعدهم بها، بل يفضلون الدولار “الكافر”. ومن الملفت للنظر أن الكثيرين من منظري الاقتصاد الإسلامي يشاركون البغدادي في “حلمه” بعودة الدينار الذهبي إلى التداول مرة أخرى بعد غياب طويل. ويستند هؤلاء أحيانا على الرأي السائد لدى قدامي الكتاب المسلمين بأن الله هو من خلق الدنانير الذهبية والدراهم الفضية وجعلها واسطة للتداول. ويعتقد بعضهم بأن آدم أول من أستخدمها وبالتالي لن تختفي إلا مع قيام الساعة.
مثل هذه الحجة قد لا “تزعج ” كثيرا البنوك المركزية التي تعتبر الخاسر الأكبر لاختفاء النقود التقليدية . فالبنك المركزي يجني حاليا أرباحا ضخمة من وراء إصدار النقود الورقية نتيجة الفارق الكبير بين قيمتها الاسمية وتكاليف طباعتها. فعلى سبيل المثال لا تزيد كلفة طبع فئات اليورو الورقية عن ثمانية سنتات للقطعة الواحدة. وهذا يعني أن البنك المركزي الأوروبي يحقق عبر إصدار ورقة مائة يورو على نسبة أرباح خيالية تبلغ 124900 في المائة، وهي نسبة لا تحلم أي شركة في العالم.
ويُسلط مشروع إلغاء النقود الورقية مرة أخرى الأضواء على حلم قديم للبشرية وهو الحياة بدون نقود، أو كما يقول العراقيون بدون “وسخ دنيا” . فقد أكد كارل ماركس في كتبه العديدة عن الاقتصاد السياسي على أن النقود ترتبط بالتبادل السلعي السائد في النظام الرأسمالي، وتنبأ بأن إقامة الشيوعية حيث يسود مبدأ “لكل حسب حاجته” سيعني أيضا إلغاء النقود. وهذا يُشبه الوعد الإسلامي بالجنة حيث يتمتع المؤمنون بـحسب القرآن بـ “قوارير وآنية وأساور من ذهب وفضة” ، وكل ذلك “مجانا” .
وبغض النظر عن كل التوقعات فإن من المؤكد أن العصر “الذهبي” للنقود بشكلها الورقي والمعدني قد ولى إلى الأبد وأن احتضارها مسألة وقت لا أكثر، وأن المستقبل سيكون لصالح أشكال جديدة، وفي مقدمتها النقود الألكترونية.