السيمر / الأربعاء 19 . 10 . 2016
طلال سلمان / لبنان
شهد العلاقات العربية ـ التركية في الأعوام الأخيرة توتراً تزيد من حدّته النبرة الإمبراطورية في كلام الرئيس التركي رجب طيب اردوغان.
في البدء تدهورت العلاقات بين مصر وتركيا نتيجة الموقف الفاضح في انحيازه إلى حكم «الإخوان المسلمين» خلال الفترة القصيرة التي تمكنوا فيها من الوصول إلى السلطة في مصر، في العام 2012. وهي ما زالت حتى اليوم متوترة، وما زالت أنقرة تستضيف عدداً من قيادات تنظيم «الإخوان» وتجاهر بدعمهم، برغم ما أظهره الشعب المصري من رفض لحكم «الجماعة» الذي ثبت افتقاره إلى القبول الشعبي، وما تزال العلاقات بين القاهرة وأنقرة مجمدة عند أسوأ الحدود.
بعد ذلك توترت العلاقات بين تركيا وسوريا التي كانت قد وصلت مع رئاسة بشار الأسد إلى ذروة التعاون، سياسياً واقتصادياً، بحيث سحبت من التداول الأزمة الصامتة والمفتوحة منذ العام 1938 عندما اقتطع الانتداب الفرنسي «القضاء السليب» أي كيليكيا واسكندرون من أرض سـوريا، و«منحه» إلى تركيا لتحييدها، بل اكتسابها إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه العلاقات قد شهدت في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الراحل حافظ الأسد توتراً خطيراً بلغ حافة الحرب نتيجة اتهام سوريا بدعم انتفاضة الأكراد ضد أنقرة. ثمّ سويت الأزمة بالطلب إلى الزعيم الكردي عبد الله اوجلان الذي كان يدعو إلى الكفاح المسلح طلباً لاستقلال الأكراد في تركيا عن حكم أنقرة، أن يغادر. فغادر إلى بعض أنحاء أفريقيا حيث استطاعت المخابرات التركية اختطافه والإتيان به إلى أنقرة، حيث حوكم وحُكم بالإعدام، وما زال في السجن حتى اليوم، لاستخدامه كمفاوض ـ رهينة ـ من أجل تسوية أزمة العلاقات المتوترة بين أنقرة والأكراد.
لذلك كان الانقلاب في الموقف التركي من سوريا مفاجئاً، خصوصاً وقد تزامن مع تفجر حركة الاعتراض في درعا وأنحاء أخرى فيها، إذ تجاوز الاتفاق السياسي بمضامينه الاقتصادية، التي كانت في مصلحة تركيا، حدود المصالح السورية. لكن القيادة في دمشق ظلت تدافع عن تقربها من أنقرة باعتباره «تحولاً لخيرها وتطوراً استراتيجياً يعادل في مردوده المعنوي القرار بمباشرة الحرب ضد العدو الإسرائيلي في السادس من تشرين الأول 1973».. على حد تعبير مسؤول سوري كبير، ذات يوم.
ومع تطور الأحداث الدموية في سوريا، كان التدخل التركي يتزايد ويتطور في دعم قوى المعارضة واحتضانها سياسياً، مع تزكية مباشرة لدور «الإخوان المسلمين» فيها، ثمّ تشجيع بعض «الفصائل» على حمل السلاح، وتدريب مقاتليها وتسليحهم ومساعدتهم ميدانياً في مواجهة الجيش السوري وحلفائه. بل إنها اصطنعت «فصائل» مقاتلة من التركمان وأقليات أخرى فيها، وفتحت أمامهم المعابر، وأمّنت لهم القواعد الخلفية والذخيرة والوقود والغذاء. وغدت اسطنبول «مقراً» لقيادات المعارضة قبل أن تتقدم الدوحة لتشاركها مهمة الدعم والإمداد وتوفير مختلف أنواع التسهيلات. ثمّ لحقت بها الرياض، فيما كانت قيادة الحكم في دولة الإمارات تندفع لتوثيق علاقاتها مع حكومة أنقرة، متجاوزة ما كان بين «أبناء الشيخ زايد» والرئيس السوري بشار الأسد من صداقة وود يعززها أنهم جميعاً من «جيل القادة الشباب».
هكذا انتظمت دول عدة في جبهة معادية للنظام السوري، وقد اجتهدت في استخدام المذهبية للتغطية على حقيقة موقفها السياسي، في استعادة لبعض الصفحات الدموية في التاريخ الإسلامي الحافل بالانشقاقات والصدامات السياسية بغطاء مذهبي.
الجديد والنافر في سلوك القيادة التركية مؤخراً إصرارها على أن يكون لها دور في معركة تحرير الموصل في العراق، وبذريعة مذهبية معلنة تُنصّب أنقرة مرجعية لأهل السنّة حيثما تواجدوا.
ولقد دخل هذه المعركة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان شخصياً، فرفض طلب السلطات العراقية سحب كتيبة من الجيش التركي دخلت شمال العراق قبل حين، بذريعة تدريب قوات البشمركة الكردية، مقرراً أنه يتوجب أن يكون «للسنّة» ممَثّلين بتركيا دور في تحرير هذه المدينة «السنية» وهي العاصمة الثانية للعراق، ومتذرعاً بأن له الحق بالتدخل في الشأن العراقي ليساند «أهل السنّة»، تماماً كما إيران التي تساند «الشيعة» فيه.
ومن أجل تدعيم هذا التوجه المذهبي الذي من شأنه إخراج الحرب في سوريا وعليها من طبيعتها السياسية وتحويلها إلى مشروع حرب طائفية في المنطقة، ظهر إلى العلن مشروع تحالف بين تركيا أردوغان والسعودية وقطر والإمارات، سرعان ما أعلن دعمه للمعارضة السورية المسلحة، ما أدى إلى إفشال مشروع الهدنة على جبهات الحرب في سوريا.
هكذا تتم تغطية المطامع السياسية بالمذهبية، في استعادة غير مبررة لصفحات سوداء من التاريخ الإسلامي، ما تزال قابلة للاستثمار. فليس من خدمة للعدو الإسرائيلي أخطر من النفخ في نار المذهبية وإعادة إحياء مآسي الصراع بين السنّة والشيعة، التي يفترض أن تكون قد استقرت في بطون التاريخ، خصوصاً في ظل انبثاق الوطنيات بعد دهر القهر العثماني وتبلور «العروبة» كمشروع سياسي جامع للعرب في مختلف أقطارهم بروابط الجغرافيا والتاريخ والدين (ولو تعددت مذاهبه، كإرث من الماضي وليس كصيغة للحكم في الحاضر والمستقبل).
على أي حال، نحن الآن أمام تركيا جديدة، ورئيسها الذي يعامل نفسه وكأنه خليفة المسلمين ويحلم باستعادة أمجاد «السلطنة العثمانية»، يعادي مصر ويقاتل في سوريا ويحتل مناطق من العراق ويعلن أنه «شريك» في معركة الموصل حتى لو رفضت الحكومة العراقية، ويتذرع بالوجود الإيراني في العراق ليطالب بحقه في حماية «السنّة»… ويندفع في اتجاه روسيا بعد الاختلال الذي طرأ على علاقة التحالف المكين مع الولايات المتحدة الأميركية وتطلع تركيا إلى الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. وهو مطلب عزيز المنال كما تدل مواقف الدول الأوروبية. فيكون الرد التركي اتهام هذه الدول بالتعصب الطائفي، وربما العرقي أيضاً.
وبديهي أن تثير هذه الممارسات المتناقضة إشكالات عديدة «للسلطان» الجديد، لا يكفي لتغطيتها تحالف طارئ مع بعض الأنظمة العربية النفطية في مواجهة سوريا بالمشاركة في الحرب عليها، سواء تم تمويه هذه الحرب بالاعتراض على ممارسات النظام فيها (بينما حلفاؤه من العرب ملوكاً وأمراء ومشايخ لم يتعرفوا إلى الديموقراطية، ولا هم في وارد اعتمادها أساساً لأنظمتهم القبلية التي تحتكر الثروة والسلاح والسياسة). كما أنها لا تبرر هذا المسلك «الاستعماري» في العراق، بذريعة المشاركة في عملية تحرير الموصل على اعتبار أنها «مدينة سنية»، وكأن تركيا القرن الحادي والعشرين، وذات النظام العلماني (وإن كان الحكم راهنا «إخوانيّ» الشعار والممارسة) هي هي سلطنة بني عثمان والعصر عصرها.
وطالما استمرت الأنظمة العربية بعيدة عن شعوبها وغريبة عن عصرها، فمن البديهي أن تتسابق الدول (كبراها والمتوسطة) إلى استرهانها. وسلوك تركيا أردوغان يصب في هذا النهر.
السفير اللبنانية