السيمر / الأثنين 01 . 05 . 2017
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
اليوم الخامس عشر للإضراب ….
صورة إضراب الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين عن الطعام في مختلف السجون والمعتقلات الإسرائيلية ليست صورةً جامدة لا تتغير، وليست على حالٍ واحدةٍ لا تتبدل، وليست كئيبةً كما يُتَصورُ، ولا مملةً كما يتعمد العدو وصفها، والأسرى ليسوا حزنى ولا باكين، ولا هم منعزلين في زوايا غرفهم، ولا منفصلين عن الواقع حولهم، بل إن صورتهم تتميز بالحيوية الدائمة والحركة الدائبة والتطور المستمر، وتشهد في كل ساعةٍ أحداثاً جديدةً، تغير المشهد وتبدل الصورة، تعزز في قلوبهم الأمل وتقرب إليهم النصر.
المعتقلون خلايا نحلٍ نشطٍ يعملون في كل السجون والمعتقلات، يتبادلون الرسائل، ويتصلون بقياداتهم في الخارج، ينسقون معهم المواقف، ويخططون للمستقبل، ويصيغون البيانات المشتركة، ويعلنون السياسات العامة، ويوضحون مواقفهم مما يجري معهم وحولهم، وكأنهم في مركز عملياتٍ أو قيادة أركانٍ، إذ الكل منهمكٌ في عمله، ومشغولٌ في مهمته، يعملون بكدٍ ونشاطٍ وحيويةٍ وأملٍ، دونما استسلامٍ للأسوار المحيطة بهم، ولا للأبواب المغلقة عليهم، ولا للسجانين المتربصين بهم، ولا للعيون المفتوحة عليهم، ولا لوسائل التجسس المنصوبة حولهم، التي تصورهم وتسجل أصواتهم وترصد كل حركاتهم.
يخطئ من يظن أن بقية الأسرى والمعتقلين غير المنخرطين في الإضراب، يقفون متفرجين ولا يشاركون إخوانهم في معركتهم، ولا يقفون إلى جانبهم في مواجهتهم، بل إنهم على العكس من ذلك مسؤوليةً وانشغالاً، إذ يحملون المهام الصعاب، ويقومون بالتكاليف المجهدة، ويبادرون للقيام بكل صغيرةٍ وكبيرةٍ، كونهم أقدر على التحمل، وأصبر على الجهد، فتراهم ينوبون عن إخوانهم في كل ما يتعلق بمهام المعتقلين اليومية في غرفهم وزنازينهم، ويبادرون لإجراء الاتصالات وجمع المعلومات وتدوين الأحداث وصياغة المواقف، في محاولةٍ منهم للتخفيف عن الأسرى المضربين، وحمل بعض الأعباء الدورية نيابة عنهم، فضلاً عن أنهم يحرصون على عدم تناول الطعام أمامهم، ولو كانوا مرضى وفي حالٍ صحيةٍ تلزمهم بتناول الطعام.
هذه الصورة المفعمة بالحيوية والنشاط، والمليئة بالأمل واليقين، لا تقتصر مشاهدها المتجددة داخل أسوار السجون، وفي عتمة الزنازين وجوف الإكسات العميقة حيث العزل الإنفرادي والإقصاء المتعمد، رغم أنهم صناع الحدث، وأبطال الساحة ورجال الموقف، لكنها تتجاوز السجون إلى خارجها، وتخترق أسوارها إلى خارجه الذي يغلي كالمرجل ويمور كما البحار، وتجتاز حدودها الضيقة إلى العالم الرحب الفسيح، حيث تتردد أصداء إضرابهم في كل أنحاء الدنيا، ويسمع بهم من أراد العدو أن يبقيهم بعيداً عن جرائمه، وعمياً عن سوء أفعاله، فقد أجبر الأسرى بصمودهم وثباتهم وإصرارهم العالم كله على التضامن معهم أو الحديث عنهم، إذ نجحوا في فرض قضيتهم على كل نشرات الأخبار، التي باتت تفرد مساحاتٍ كبيرة من برامجها لتغطية تطورات قضيتهم، وتسليط الضوء على معاناتهم.
الصور والمشاهد الخارجية التي تواكب إضراب الأسرى والمعتقلين، ليست كلها واحدة أو متشابهة، بل هي مختلفةٌ ومتباينة، فهي في فلسطين وعموم الدول العربية والإسلامية مختلفة عن الصورة التي ترسمها حكومات دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فهي صورٌ بيضاء ناصعةٌ، وأخرى سوداء قاتمة، مؤيدة ومناصرة لهم، أو معارضة ومناوئة لتحركاتهم، الأولى يبديها الشعب الفلسطيني كله وترسمها الأمة العربية والإسلامية، والأخرى يحاول العدو فرضها وتضليل العالم بها، ويضغط على الدول والحكومات لتصديقها والقبول بها، ولكن الصورة الأولى أنضى وأنصع، وأبلغ وأصدق، بينما الثانية معتمةٌ مظلمةٌ فاسدةٌ مضللةٌ، يبدو فيها الظلم ويغيب عنها العدل، وتظهر عليها سمات الحقد والكراهية، والعنصرية والعدوانية.
فقد أعلن المئات من مناصري الشعب الفلسطيني ومن المناضلين الأمميين تضامنهم مع الأسرى والمعتقلين، وأيدوهم في إضرابهم المفتوح عن الطعام، وشرع الكثير منهم في الإضراب عن الطعام مثلهم، أو شرب الماء والملح تضامناً معهم، ومنهم المناضل اللبناني الشهير جورج عبد الله، المعتقل منذ قرابة العشرين عاماً في السجون الفرنسية، الذي أعلن إضراباً عن الطعام لمدة ثلاثة أيامٍ تضامناً مع الأسرى الفلسطينيين وذويهم، وغيره كثير من قدامى الأسرى والمحررين في الخارج، الذين انظم إليهم مئات الفنانين والسياسيين والإعلاميين والمثقفين، وعشرات النشطاء الدوليين في لجان كسر الحصار وغيرهم من المشاهير.
أما الشيخ رائد صلاح فقد ارتحل بكليته وحنجرته، ومن قبل بقلبه وعقله إلى بوابات السجون الإسرائيلية، التي كان فيها قبل أيامٍ قليلةٍ معتقلاً ومعزولاً، فوقف على بوابة سجن مجدو متضامناً مع إخوانه الأسرى خلف القضبان، ومخاطباً إياهم بشجاعةٍ ورباطة جأشٍ وقوة جنانٍ، أن الفجر آتٍ، وأن الصبح عما قريب سينبلج، وستعودون أحراراً رغم أنف العدو إلى بيوتكم حيث أسركم وأطفالكم.
في حين اعتصم تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات، وأعضاء مجالس الشعب والنواب، والصحفيون ورجال الإعلام، والنقابات العمالية ومؤسسات المجتمع المدني، الذين خصصوا جميعاً جزءاً كبيراً من أوقاتهم لاستعراض قضايا الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية وبيان معاناتهم وعرض مشاكلهم، وكان إلى جانبهم أبناء الأسرى وزوجاتهم وأمهاتهم، الذين شاركوهم الإضراب، واعتصموا تضامناً معهم وأملاً في الإفراج عنهم في خيامٍ كثيرٍ نصبت، ومقارٍ عديدةٍ فتحت لترفع صوتهم، وتسلط الضوء على قضيتهم.
مع بداية اليوم الخامس عشر تجاوز عدد الأسرى المشاركين في الإضراب عتبة ألـــ 1600 أسيراً، وما زالت سفينة الإضراب تمخر عباب التحديات والصعاب، تتحدى العدو وتقف في مواجهته، ولا تبالي بتهديده وعنجهيته، بل يزداد صبيحة كل يومٍ عددهم، وتتضاعف قوتهم، ويشتد تأثيرهم بإصرارٍ على تلبية طلباتهم، وضمان حقوقهم، وعدم القبول بأي سحبٍ أو تراجعٍ عما تم تحصيله سابقاً من الحقوق والامتيازات، فهذه المعركة الأليمة التي يخوضونها بأمعائهم، ويشقون طريقها بجوعهم، ليس لها من خاتمةٍ إلا النصر أو الشهادة.