الرئيسية / تقارير صحفية وسياسية / الإدعاء الكردي بأقدمية الوجود في شمال العراق
الكاتب المصري صبري طرابية

الإدعاء الكردي بأقدمية الوجود في شمال العراق

السيمر / الأربعاء 13 . 09 . 2017

صبري طرابية / مصر *

تقدمة:
قبل الخوض في تفاصيل هذه الدراسة أود أن أشير إلي أن معظم الدراسات التي تتناول العلاقات التركمانية الكردية تتسم بغلبة ” الإيديولوجيا ” علي ” الحقائق التاريخية ” وتغليب ” ما هو قومي ” علي ” ما هو علمي ” حيث عمد أغلب الباحثين إلي البحث عن تبريرات واهية لإثبات الحقوق القومية أو الدفاع عن العرق الذي ينتمون إليه ونفي حقوق الآخر المختلف عرقيا، وتغليب الناحية العاطفية علي الناحية البحثية في أبحاثهم وهو ما يكشف بجلاء عن عدم الحيادية في البحث وعدم تقبل الآخر المختلف عرقيا والرغبة في نفي وجوده وهضم حقوقه ومحو ثقافته وتراثه وهويته من الوجود، ولذلك كانت بحوثهم أقرب ما تكون إلي الدعايات المجافية للحقيقة والبعيدة عن الموضوعية، ورغم أنني عربي الهوية إلا أنني لست معني بهذا الصراع إلا من الزاوية العلمية والدراسية البحتة ومن ثم لن أسعي لتغليب هذا علي ذاك من أطراف الصراع، فواجب الأمانة العلمية يقتضي أن أستعرض وبحيادية تامة المحاولات الكردية لتهميش واقصاء التركمان وبالوثائق والتواريخ والأحداث والأشخاص وبما يفتح المجال لحوار يمكن من خلاله تلافي هذه السلبيات مستقبلا لإيجاد أرضية مشتركة وتفاهم متبادل واحترام لحقوق كلا الطرفين.

الإدعاء الكردي بأقدمية الوجود في شمال العراق: –
يدعي الأكراد أنهم أقدم القوميات في شمال العراق ويتخذون من ذلك ذريعة لإقصاء وإبعاد وتهميش التركمان وعدم إعطائهم أي دور في الحياة السياسية في العراق الجديد بدعوي أن التركمان طارئين علي الوطن العراقي وأنهم حديثي الوجود و أنهم من بقايا العهد العثماني، والحقيقة أن نظرية ” الحقوق التاريخية ” للأكراد في شمال العراق من النظريات التي لا تجد ما يؤيدها في المصادر التاريخية والدراسات المعتمدة وإنما فقط تغذيها قوي قومية متعصبة راحت تنقب بين ثنايا التاريخ علي اشارات غامضة صنعت منها ما تعتقد أنه دلائل علي قدم الوجود الكردي وراحت المخيلة الخصبة لهذه القوي التعصبية تسوق لنا ما تراه أدلة علي سرمدية الوجود الكردي في العراق مؤكدة علي أنه سبق وجود كل القوميات الأخري، وعندما كانت تلك المخيلة تصطدم بحقائق التاريخ التي لا يمكن تجاهلها كانت تعمد إلي صنع دراسات تلفيقية توفيقية تقوم من خلالها بلصق اسم الكرد بكل حضارة غابرة لا يمكن إنكار وجودها (كالسومريين والأكديين والبابليين والأشوريين) فتراهم يقولون (الحضارة السومرية الأكدية الكردية) و(جنائن بابل الكردية) و(السبي البابلي الكردي لليهود) وهكذا يسبح البحاثة القوميون المتعصبون الأكراد في نزعة توكيدية للذات وإقصائية للآخر وأحياناً توفيقية تلفيقية تفتقد للمنطق وتعوزها الحجة والدليل وتكشف بجلاء عن تعارض واضح مع الحقائق التاريخية وعلوم الآثار و الأنثروبولوجيا واللغات، إن خرافة الحقوق التريخية للأكراد في شمال العراق ليس لها ما يدعمها من الناحية العلمية أو الواقعية لأنه واذا كان الوجود التاريخي للأكراد بهذا القدم السرمدي فأين هي آثارهم ومعابدهم وتماثيلهم؟ وأين هي قلاعهم وحصونهم وقصورهم؟ واذ لا يوجد شئ من ذلك تتهاوى دعواهم وتضحي أقوالهم بلا دليل، فالدال يدل علي المدلول أو كما يقول العرب: الأثر يدل علي البعير!!!
والحقيقة أن الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية والتي أستمرت لما يزيد عن قرن ونصف كانت قد دعت الي الحذر في استخدام كلمة (كرد) إذ لا يوجد تعريف واحد متفق عليه ولا يعرف علي وجه التحديد ما إذا كانوا هم (الكردوخيين) أو (الكورتيين) أو( الميديين) ويري الباحث مينوريسكي في كتابة:- (الأكراد ملاحظات وأنطباعات) أن الأعتقاد الذي كان سائدا والي وقت قريب والقائل بان الأكراد من ابناء (الكردوخيين) قد تغير في الفترة الأخيرة ويذهب إلي أن الكردوخيين ليسوا من الجنس آلاري وأن الأرجح أن الكورتيين الذين يعيشون في القسم الشرقي من بلاد الكردوخيين هم أجداد الأكراد أما المؤرخ المعاصر ماكدويل والمتخصص في شئون الأكراد فيري أن الأصطلاح (كورتي) كان يطلق علي المرتزقة البارثيين والسلوسيين الساكنيين جبال زاجروس وأنه ليس من المؤكد دلالته لغويا علي عرق معين، ومع توسع الدراسات في القرن العشرين حول تاريخ وأصل الأكراد تراجعت الأفكار القديمة حول أصول الأكراد حتي تلك التي تنسبهم الي الميديين ويسير في هذا الأتجاه المؤرخ (برنارد لويس) والذي يقرر بأنه (لايزال تحديد أصل الأكراد موضع خلاف تاريخي رغم إدعاء معظم أكاديمي الكرد علي الأصل الميدي إلا أن هذا الأدعاء يلقي صعوبة في الإثبات) كما ان الأبحاث الفزيوكونمية (شكل الرأس، لون العين، الشعر، البناء الجسمي) تثبت أن الكرد لايختلفون عن المجتمعات المحيطة بهم (ماكدويل ص ٩) فضلاً علي أن الفروق الواضحة والأساسية في اللغة الكردية تؤيد وتؤكد ما يثار حول تعدد تكوينات المجتمع لكردي العرقية(ماكدويل ص ٩) ويري كبار العلماء المختصين في اللغة الكردية أمثال ” ماكانزي ” و” هادنك” و”ماكدويل” و”مان” أن عشائر ” الكوران ” و” الزازا ” ليسوا من الأكراد ويرجعهما “ماكدويل “إلي الدايلم أو الخيلان ويري بحاثة أخرون ان عشائر ” البرزنجية ” الكردية الكبيرة التي ينحدر منها الطالبانية والخانقا تنحدر من الأصول العربية ودخلوا العراق في القرن الـ١٣ الميلادي (ايدموندس صــ٦٨) وان اليزيديين هم في الأساس من الصابئة العرب (الباحث الأنجليزي لايارد صــ٢٥٢) كما أن الكثيرين من الأشوريين والسريان قد تحولوا إلي اكراد بحكم التجاور والعيش المشترك وهناك الكثير من العشائر الكردية التي تنحدر من أصول أرمنية وأن بعض هذه العشائر تم تكريدهم في السنوات التي تلت القرن السادس عشر الميلادي كعشيرة (ماماكانلي) ” ماكدويل صـ١٢ ” كما أن القبيلة التركمانية كره كيج أو قره كيجلي تعتبر من القبائل التركمانية التي تم تكريدها في التاريخ الحديث نسبياً (ماكدويل صـ٣٧) وتؤكد الدراسات أيضاً علي ان عشيرة (الرواديد) الكردية من أصول عربية وقد نزحت إلي المنطقة الكردية في بدايات العصر العباسي (٧٥٠ ميلاديه) وقد تم تكريدها علي مدار مائتي عام من العيش المشترك وأسسوا خلالها إمارت ” الرواديد “وأن الأصل الكردي لعشائر ” الكوران ” الكبيرة تثور حوله الشكوك”…. فهم لاشك أتراكا وتركمانا وبعد أن استقروا في المدن فقدوا هويتهم وارتباطهم بقبائلهم الأصلية ” ومن العرض السابق يتضح أننا ونحن بصدد دراسة الأصول التاريخيه للأكراد لسنا أمام شعب يتسم بنقاء العرق أو وحدة اللغة فالأكراد هم خليط من الأقوام والعرقيات وان اللغة الكردية هي ايضاً خليط من اللغات الفارسية والعربية والتركية وأن اصل الشعب الكردي مختلف عليه ولا يعرف عما إذا كانوا “كردوخيين ” أو” كورتيين” أو ” ميديين”أو غير ذلك ويلآحظ أننا اهملنا النظر في الدراسات العربية القديمة والتي قررت بأن الأكراد عربا أو فرسا أو بدو الفرس واعتمدنا علي الدراسات الحديثة والتي أكدت علي أن أصل الأكراد لايزال مثار خلاف وهو ما يدفعنا إلي التأكيد علي ” خرافة” الادعاءات بقدم الوجود الكردي في شمال العراق إذ أن الأكراد لم يعرف علي وجه الدقة أصولهم العرقية ولم يثبت صحة إنتمائهم لأي من الأقوام القديمة التي سكنت العراق ومن ثم لا يمكن الإنسياق وراء الدعايات الكردية والتي تزعم بان الاكراد هم من اقدم الشعوب التي سكنت شمال العراق وانهم بذلك اصحاب ” الحقوق التاريخية “في تلك المنطقة لان هذه المزاعم لا يوجد ما يؤيدها علميا بل ان اغلب الدراسات تؤكد علي ان الاكراد من الشعوب التي نزحت الي شمال العراق في الازمنة المتأخرة من غرب ايران وجنوب تركيا، ومن ثم فان محاولة اقصاء التركمان وتهميش دورهم استنادا علي تلك الفرضية لا اساس له من الصحة، كما أن الدعايات الكردية والتي تسعي إلي تهميش التركمان بزعم أن وجودهم طارئ علي العراق وتصف التركمان بانهم من بقايا الإحتلال العثماني وتطلق عليهم اسم ” الجالية التركمانية ” تكذبها وقائع التاريخ التي اكتشفت مؤخرا والتي اثبتت بما لايدع مجالاً للشك بأن التركمان هم أصل الشعب العراقي واقدم عرقياتة إذ ان الدراسات المعاصرة اكدت علي ان السومريين هم قبائل اسيوية تركية وهو ما يعني أن التركمان قد استوطنوا العراق منذ فجر التاريخ فضلاً عن أن التنقيبات الأثرية في اسيا الوسطي ” التركستان ” أثبتت هجرة السومريين من تركستان إلي العراق حيث عثر علي نماذج متشابه من الآثار السومرية وخاصة في جمهورية تركمانستان وبعد دراسة هذه الآثار تبين بشكل قاطع صحة نظرية هجرة الشعب السومري من اسيا الوسطي ” التركستان ” إلي بلاد ما بين النهرين والأصل التركي الطوراني للسومريين وهوما يثبت علي ان التاريخ التركي والهجرات التركية إلي هذه المنطقة تعود إلي ما قبل التاريخ،ويؤيد هذا الاتجاه الدراسات العربية التاريخية المعاصرة “سليم مطر “والتي اكدت علي قدم العلاقة بين التركمان وارض العراق وتري تلك الدراسات أن العراقيين قد اتجهوا منذ القدم بهجراتهم التجارية والتبشيرية نحوا الشرق الاسيوي ابتداءً من ايران ثم اسيا الوسطي حتي الهند والصين وان العراقيين والتركمان خضعا ولقرون للامبراطورية الايرانية الساسانية قبل الإسلام وان الكثير من أفراد الجيش الساساني في العراق كانوا تركماناً فضلاً عن ان المبشرين المسيحيين النساطرة والمانوية العراقيين قد ركزوا نشاطاتهم التبشيرية في مناطق تركستان حتي انتشرت بين تلك القبائل الديانتين النسطورية والمانوية بلغتهما السريانية العراقية المكتوبة بالابجدية الاوغورية التركمانية وهكذا فان التركمان الذين يسكنون وسط وشمال العراق ويشكلون ثالث قومية عرقية بعد العرب والاكراد ينتمون إلي اقدم العرقيات الموجودة علي ارض العراق وقد اكد علي هذه الحقيقة المؤرخ العثماني الشهير “حسام الدين آماسيلي ” في مقال قديم له منشور في جريدة ” اقدام” التركية الصادرة عام ١٩٢٢ عدد ٨٩٣٩ والمقال يقلب رأسا على عقب إتجاهات المؤرخون المعاصرون – وحتي التركمان منهم – والذين يؤرخون للوجود التركماني بسنة ٥٤ هـ إذ يقدم لنا كاتب المقال من الحقائق والدلائل ما يثبت أن التركمان كانوا متواجدين في العراق قبل الفتح الإسلامي لها وكانوا يسكنون عدة مدن ويمتلكون وحدات عسكرية وحصون مهمة في المنطقة وحينما قدم عليهم الجيش الإسلامي بقيادة الصحابي خالد بن الوليد (في عهد عمر بن الخطاب) قام بعقد اتفاقية مع الأمير التركماني “باصلوخان ” والذي اسلم فيما بعد وصار من التابعين واشترك مع الجيش الإسلامي في فتوحاته، وهكذا يتضح لنا أن الوجود التركماني فى العراق سابق على دخول الاسلام إلى أرض العراق، وفي عهد الخليفة المعتصم بن هارون الرشيد زاد نفوذهم زيادة كبيرة وتمكنوا من حكم العراق عبر الامارات المختلفة كالامارة” الزنكية الاتابكية ” و” الدولة السلجوقية “بجانب الدولتين البارانية المعروفة بـ” الخروف الأسود ” و” الخروف الأبيض “اللتين حكمتا معظم أراضي العراق بين عامين ١٤١١ و١٥٠٨ وأن التركمان هم من صميم أهل العراق وأن وجودهم ليس طارئا وأن المحاولات الكردية الرامية إلي اقصاء وتهميش ومحو الوجود التركماني من علي ارض العراق بدعوى انه وجود طارئ وان الأكراد هم سكان العراق الأصليين لا سند لها من الناحية العلمية والتاريخية.

مجزرة كركوك (يوليو ١٩٥٩) وسعي الأكراد لإقصاء وتهميش التركمان فى العهد الجمهورى:-
لم يكن التركمان العزل الذين يستعدون مع بقية أطياف الشعب العراقى للاحتفال بالذكرى الأولى لقيام الجمهوريه يوم ١٤ يوليو / تموز ١٩٥٩م يعلمون أن القدر يخبىء لهم فى ذلك اليوم مجزره دمويه لم يشهد العراق المعاصر لها مثيلا فى بربريتها وبشاعة الطرق التى إستخدمها الجناه فى إزهاق أرواح الضحايا حيث جرى ربط بعضهم بالسيارات و سحلهم حتى الموت كما جرى ربط أرجل بعضهم بالحبال وشدها بواسطة سيارتين فى إتجاهين مختلفين وبعد ذلك جرى تعليقهم على الأشجار وأعمدة الاناره ومنع ذويهم من دفنهم لمدة ثلاثة أيام رغم شدة الحر فى يوليو /تموز.. لقد عبرت طرق القتل والفتك بالضحايا وسحلهم وهم أحياء وتعليق الجثث على الأشجار عن مدى همجية وبربرية القتله ومدى مايحملونه من حقد لفئه من أخلص فئات الشعب العراقى وأكثرها وطنيه وهم تركمان العراق الذين ماسعوا أبدا لشق الصف أو إثارة القلاقل أو خيانة الوطن فى أى مرحله من مراحل التاريخ القديم أو الوسيط أو المعاصر للعراق. ورغم عدم إيمان التركمان بالشيوعيه ورغم إحساسهم بالضيق من تصرفات بعض الشيفونيين الأكراد إلا أنهم لم يسعوا لاظهار أى معارضه لحكومة عبد الكريم قاسم ذات التوجهات الشيوعيه والمتحالفه مع القوميين الأكراد ذوى الأفكار التعصبيه.
لقد كانت أجواء مدينة كركوك مشحونه بالتوتر ومع ذلك حاول التركمان جاهدين تفويت الفرصه على مثيرى القلاقل والفتن وأخذوا يستعدون للاحتفال بذكرى تأسيس الجمهوريه وقاموا بتنظيم مواكب الاحتفالات ونصبوا الأقواس بعدد يزيد على مائه وثلاثين قوسا مزدانه بالأعلام العراقيه وحاولوا تجنب الاستفزازات التى شرعت المنظمات الشعبيه والمقاومه والجبهه الوطنيه فى توجيهها اليهم حيث شرعت المنظمات المذكوره فى حمل العلم السوفيتى هاتفين (جبهه جبهه وطنيه صداقه سوفيتيه عراقيه) (لتسقط التركمانيه) (جبهه جبهه وطنيه لاإنحراف ولا رجعيه) و(لتسقط الطورانيه) وقد قابل التركمان تلك الحركات الصبيانيه بهدوء وضبط للنفس ولم يهتفوا إلا بالهتافات الوطنيه البعيده عن الاساءه للأخرين كقولهم (ماكو زعيم الا كريم) وفى مساء ١٤ يوليو تموز أخذ موكب التركمان مساره المرسوم سلفا داخل شوارع مدينة كركوك وعند وصول الموكب إلى أول شارع أطلس فى المنطقه الواقعه بين مدرسة المتوسطه الغربيه ومقهى ١٤ تموز إنطلقت رصاصه مجهوله أعقبها عيارات ناريه من اسلحه اوتوماتيكيه مما تسبب فى حدوث هرج شديد، ويبدو أن عصبة المتآمرين كانت قد أخذت إشارة البدء فى الاعتداء على التركمان العزل فخرجت من بين الصفوف شاهره الهروات والعصى والأسلحه الحاده والناريه وانهالت ضربا على المواطنين فمات من مات واصيب من أصيب فى حين فر الآخرون الى البيوت لأنهم لم يكونوا يحملون ثمة سلاح يدافعون به عن انفسهم، وبعد ذلك قامت عصبة البغاه بالهجوم على أقواس النصر المعده بمعرفة التركمان وقاموا بتحطيمها وأشعلوا فيها النيران رغم أنها كانت مزدانه بالأعلام العراقيه وفى أقل من ربع الساعه تحولت كركوك الجميله إلى ساحة قتال لايرى فيها غير الحرائق وألسنة اللهب، وقد ترك الجناه ألسنة اللهب تأكل الأخضر واليابس وتوجهوا صوب مقهى ١٤ تموز وأمسكوا بصاحبه الشهيد عثمان خضر وشدوا وثاقه بالحبال وسحبوه إلى الشارع وانهالوا عليه طعنا وتقطيعا حتى أسلم الروح فى حين إنصرف آخرون منهم لتحطيم مافى المقهى من أثاث ومتاع، ثم لفوا حبلا حول رقبة الشهيد عثمان وسحلوه فى الشارع، وانطلقوا صوب مقهى البيات وسينما أطلس وسينما العلمين وقتلوا أصحابهم وربطوهم من رقابهم وسحلوهم فى الشوارع وعلقوهم على فروع الأشجار. وفى نحو الساعه التاسعه مساء تم فرض حظر التجوال على المدينه ورغم إذاعة بيان بذلك من قيادة الفرقه الثانيه إلا أن القرار المذكور لم يطبق إلا على التركمان فقط فى حين بقت عصابات القتله واللصوص من الشيوعيين والأكراد يمرحون فى المدينه ويمارسون اعمال القتل والسلب والنهب وقد قام هؤلاء بمهاجمة مركز شرطة امام قاسم واستولوا على مافيه من اسلحه وعتاد وقاموا بمهاجمة جميع المحلات التجاريه والشركات والبيوت المملوكه للتركمان ونهبوا مافيها من أموال وأحرقوا مالم يقووا على حمله من المنقولات وقد دامت عملية القتل والنهب والحرق حتى الساعه الثالثه صباحا.
وفى اليوم التالى أى ١٥ / ٧ / ١٩٥٩ قامت عصابات القتله واللصوص بمهاجمة دور معينه محدده سلفا بعلامات وإشارات وأكرهوا أصحابها من التركمان على الخروج منها فاذا ماخرجوا الى الشوارع قام أفراد العصابات بتطويق رقابهم بالحبال وسحلهم فى الشوارع وهم أحياء فإذا أسلموا الروح علقوهم على فروع الأشجار كما فعلوا بالمرحوم الشهيد الرئيس الأول عطا خيرالله وبالمرحوم الشهيد قاسم نفطجى وغيرهم، وظلت عصابات القتله تمارس بربريتها وتقوم بسحل التركمان فى الشوارع وتعليق جثثهم على فروع الأشجار طوال يومى ١٥ و١٦ يوليو /تموز حتى وصلت قوات الجيش من بغداد وسيطرت على المدينه وقامت بسحب أسلحة جنود اللواء الرابع الأكراد بعد أن كان القتله قد فرغوا من مهمتهم بنجاح وتحقق الغرض من المجزره باستشهاد ٢٥ تركمانى وجرح ١٣٠ وتدمير الأنشطه التجاريه للتركمان تدميرا كاملا. وفى مؤتمر صحفى عقده عبد الكريم قاسم فى ٢٩ يوليو/ تموز ١٩٥٩ عرض على الصحفيين صور المقابر الجماعيه والبلدوزرات التى توارى الجثث والجثث المعلقه على الأشجار وأعمدة الاناره وعلق قائلا: ” إن هولاكو لم يرتكب فى أيامه مثل هذه الأعمال الوحشيه، ولا الصهاينه فعلوا “!! لكن كلمات قاسم لم تقو على مداواة جراح التركمان المثخنه.. فما جدوى الكلمات والخطب الرنانه امام هذا الحدث الجلل والخطب الفظيع وهل يمكن للكلمات الرنانه أن تداوى الجراح المثخنه لقوميه لم ترتكب جرما واحدا بحق الوطن.. بالقطع كلا.. فلا الكلمات ولا الأيام بمقدورها أن تنسى التركمان شهداءهم البرره الذين جادوا بأرواحهم فداء للوطن.
وإذا كانت أحداث كركوك قد جرت بهذه الطريقه البشعه حيث جرى التخلص من الضحايا وقتلهم سحلا فى الشوارع وما تلى ذلك من تعليق جثث الضحايا على أعمدة الاناره وفروع الأشجار فإن التساؤل الذى يطرح نفسه من خلال قراءاة تلك الأحداث هو: ماهى الجهه أو الجهات صاحبة المصلحه فى قتل التركمان والاعتداء عليهم بهذه الصوره البشعه؟
لقد أجمعت الروايات المختلفه للأحداث على أن الأكراد هم أصحاب الدور الرئيس والأساس فى قتل التركمان والتنكيل بهم لرغبتهم فى تفريغ مدينة كركوك من سكانها الأصليين وضم تلك المدينه البتروليه الهامه لمناطقهم فى الشمال وإقامة دوله كرديه أو كيان كردى فى شمال العراق ونظرا لأن التركمان وقت حدوث المذبحه كانوا يشكلون غالبية سكان المدينه رأى الأكراد ضرورة إرتكاب عملا شنيعا ومروعا يكون له دوى يبعث على الرهبه ويدفع التركمان لترك المدينه والهرب بأرواحهم وهو ذات الأسلوب الذى إستخدمته العصابات الصهيونيه فى تفريغ المناطق الفلسطينيه من سكانها، وكان الأكراد قد منوا بعدة هزائم متلاحقه كان آخرها الهزيمه المروعه التى لحقت بالحركه البرزانيه الثالثه على أرض إيران وبعدها فر الملا مصطفى البرزانى إلى الاتحاد السوفيتى عام ١٩٤٧ ولم يعد إلى العراق إلا بعد إنقلاب ١٤ يوليو / تموز ١٩٥٨ حيث سمح له عبد الكريم قاسم بالعوده واستقبله إستقبال الفاتحين وخصص لاقامته أحد قصوررئيس الوزراء السابق نورى السعيد وأمر بمخصصات ماليه لكل برزانى، وقد وضح فى تلك الفتره سيطرة الأكراد على مجريات السياسه فى العراق فكان (خالد النقشبندي) وهو كردى أحد أعضاء مجلس قيادة الثوره كما ضم مجلس الوزراء لحكومة قاسم وزيرين كرديين هما بابا على شيخ محمود إبن الشيخ محمود الحفيد الزعيم الكردى المعروف و محمد صالح، كما صدر الدستور العراقى المؤقت مقررا ولأول مره ” أن العرب والأكراد شركاء فى الوطن ” دون أدنى مراعاه للقوميات الأخرى وقد إستغل الأكراد هذا الوضع فى تكريس سيطرتهم على مدينة كركوك فتقلدوا جميع المناصب السياسيه والتنفيذيه فى المدينه وسعوا لصبغ المدينه بالصبغة الكرديه مستخدمين فى ذلك كافة الوسائل المشروعه وغير المشروعه، وقد ساعد الأكراد فى ذلك تحالفهم مع الشيوعيين العراقيين، ورغم أن الشيوعيين فى عهد قاسم كانوا خارج سدة الحكم إلا أنه سمح لهم بالنشاط السياسى على أوسع نطاق حيث قفز أعضاء الحزب الشيوعى من ٧٠٠ عضو قبل الانقلاب إلى مايزيد على أربعين ألف عضو خلال شهور قليله، وتحالفوا مع نظام قاسم المنحاز لجماهير الشعب الكادحه والمعادى للاقطاع و للاحتكارات ولشركات النفط حيث أصدر قوانين الاصلاح الزراعى وأمم قطاع البترول وألغى معاهدة حلف بغداد واتخذ مواقف معاديه للامبرياليه الغربيه، وكان أغلب أعضاء الحزب الشيوعى من الأكراد وقد تلاقت المصالح السياسيه للشيوعيين والقوميين الأكراد إذ أن البارتى (الحزب الديموقراطى الكردستانى) كان هو الآخر مصبوغا بالصبغه الشيوعيه حتى أن الملا مصطفى البرزانى كان يلقب بالملا الأحمر، ومن ثم وكما يرى الباحث العراقى حنا بطاطو فقد كان: ” للشيوعيين دور ناشط فى إنفجار الأحداث، ولكن كأكراد، لاكشيوعيين. ولم تكن الأهداف التى سعى هؤلاء إلى تحقيقها أهدافا شيوعيه، بل كرديه. وكانت شيوعيتهم فى معظم الحالات، شيوعيه سطحيه. ويبدو أن ماحدث، فى الواقع، كان أن الأكراد طوعوا كل المنظمات المساعده للحزب الشيوعى لخدمه أغراضهم، أى لخدمة نزاعهم القاتل مع منافسيهم التركمان ” وهكذا كرست أبواق الدعايه الكرديه والشيوعيه جل إهتمامها للطعن فى وطنية التركمان، فهم طورانيون وعملاء لتركيا وشركات النفط والسنتو مع أن التركمان كانوا من أخلص فئات الشعب العراقى للثوره، ولم يرفع التركمان إلا الأعلام العراقيه والشعارات الوطنيه على العكس من الأكراد والشيوعيين الذين دأبوا على رفع الأعلام الشيوعيه الحمراء والولاء للاتحاد السوفيتى
وبلدان الكتله الاشتراكيه ورفع شعارات نحو” إتحاد فيدرالى و صداقه سوفيتيه ” وكأن العراق أضحى جزءا من الكتله الشرقيه، وقد ظلت أبواق الدعايه السوداء تردد الأكاذيب حول التركمان مرددين نغمة ” التآمر ” و” العماله ” ولعبت جريدة ” إتحاد الشعب ” (عدد ١٤٧) دورا حاسما فى أحداث كركوك وفى التحريض على قتل التركمان ونشرت البرقيات التى تحض على العنف الوارده مما يسمى ب ” ممثلى المنظمات الديمقراطيه ” و” جبهة الاتحاد الوطنى ” و ” اللجنه الوطنيه لأنصار السلام فى كركوك ” والتى تصف التركمان بالرجعيين والأذناب.
وإذا كان ضلوع الأكراد والشيوعيون فى إرتكاب مجزرة كركوك بحق التركمان المسالمين ثابتا ثبوت اليقين فإن الأمر الذى يثير حيرة الباحثين هو موقف عبد الكريم قاسم وعما إذا كان هو الآخر ضالعا فى إرتكاب هذه المذبحه بطريقه أو بأخرى، يرى جانبا من الباحثين أن عبد الكريم قاسم برىء من دم التركمان فالرجل قد أدان الجريمه ومرتكبيها فى خطابه فى كنيسة مار يوسف بتاريخ ١٩ / ٧ / ١٩٥٩ وقال بالحرف الواحد: – ” إننى أبارك لاخوانى التركمان صبرهم وسوف أسعى جاهدا لرعايتهم فقد أصبح الشعب فى هذه الأوقات كتله واحده متراصه لايفرق ابناءه بعد اليوم مفرق “، وأضاف قاسم قائلا: ” أما ماحدث فى كركوك فانني أشجبه تماما، بإستطاعتنا أيها الاخوان أن نسحق كل من يتصدى شعبنا بأعمال فوضويه نتيجه للحزازات والأحقاد والتعصب الأعمى، إننى سأحاسب حسابا عسيرا اولئك الذين إعتدوا على حرية الشعب فى كركوك بصوره خاصه أولئك (….)الذين يدعون بالحريه والديموقراطيه لايعتدون إعتداء وحشيا.
إن حوادث كركوك لطخه سوداء فى تاريخنا ولطخه سوداء فى تاريخ ثورتنا. هل فعل ذلك جنكيز خان أو هولاكو؟ أهذه مدنية القرن العشرين؟؟ ” ورغم هذه الادانة الواضحه من قبل عبد الكريم قاسم للجريمه النكراء بحق التركمان إلا أن قسما كبيرا من المؤرخين يرى ضلوع قاسم ونظامه فى تلك المذبحه، و أن قاسم كان على قمة السلطه ويمسك بجميع خيوط اللعبه فى يديه وأنه ماكان للأ كراد والشيوعيين أن يرتكبوا جريمتهم دون علم قاسم، وأن قاسم لو لم يكن ضالعا فى المؤامره لأمكنه تفادى ووقوعها بالحد من سلطات المتعصبين الأكراد والشيوعيين و الفوضويين، بيد أن قاسم والذى بعث له التركمان بالمناشير الحزبيه والتى تحض على قتل التركمان لم يحرك ساكنا، وهناك من الأدله مايؤكد على إشتراك جنود الجيش والعربات العسكريه فى عمليات قتل وسحل التركمان، فضلا عن قيام قوات الجيش بإغلاق جميع الطرق والمنافذ المؤديه لكركوك عدا طريق السليمانيه لافساح المجال أمام الأكراد والشيوعيين لدخولها عند الحاجه، كما أن قاسم لم يرسل التعزيزات العسكريه لوقف المذابح إلا بعد مرور ثلاثة ايام على بدئها مما يؤكد ضلوعه فيها، ويرى فريق آخر من المؤرخين أن قاسم غض الطرف عن مذابح كركوك ليتخذها كذريعه للتخلص من الشيوعيين والحد من نفوذ الأكراد، وأنه قد شعر بالرعب من مسيرة الأول من مايو ١٩٥٩ والتى قام على تنظيمها الحزب الشيوعى العراقى والقوى القوميه الكرديه المتحالفه معه وأنه خشى من وثوبها للسلطه خصوصا بعد ان أفصحت عن ذلك صراحة اثناء التظاهره إذ ردد المتظاهرون:
” عاش زعيمى عبدالكريم، حزب الشيوعى بالحكم مطلب عظيم ” وهو مادفع قاسم إلى توريط تلك القوى المتوثبه للحكم فى تلك المذبحه المروعه بقصد إزاحتها عن طريقه ويدللون على ذلك بالمحاكمات الصوريه التى عقدها قاسم والأحكام الهينه والبسيطه التى صدرت بحق المتهمين والتى بدت (كقرصه اذن) لمنافسيه السياسيين وإشاره لهم بأنهم تجاوزوا الحد، وهو الأمر الذى دفع بقادة إنقلاب الثامن من آذار / مارس ١٩٦٣ والذى وضع نهاية نظام قاسم إلى إعادة محاكمة المجرمين وتوقيع العقوبات التى تتناسب والجرائم التى إقترفوها.
وإذا كانت أصابع الاتهام فى مجزرة كركوك المروعه والتى راح ضحيتها المواطنين التركمان الأبرياء قد إتجهت نحو الأكراد الخصوم التقليديين للتركمان والطامعين فى الاستيلاء على مدينة كركوك، فإن الشيوعيين العراقيين ومعهم نظام عبد الكريم قاسم لم يسلما من تهمة الضلوع فى المؤامره وإن لم يكونا اصحاب مصلحه مباشره فيها بل أن كلاهما قد أصابته خساره من حدوث تلك المجزره إذ إتخذ قاسم من المجزره ذريعه وحجه لتصفية الشيوعيين الذين وصفهم بالفوضويين، كما أن إتجاه قاسم لتقليص نفوذ الأكراد قد جر البلاد إلى حرب أهليه فى الشمال لم يكن مستعدا لها بسبب إنشغاله على جبهة الجنوب بقضية الكويت وصراعه مع البعث والقوميين العرب فى الموصل وغيرها من مناطق العراق، وإذا كانت مصالح جميع القوى السياسيه الفاعله على الساحه السياسيه آنذاك (الأكراد، الشيوعيون، قاسم) قد إلتقت على الغدر بفئه من اخلص فئات الشعب العراقى من أجل تحقيق أهداف وغايات مختلفه لكل فئه، فالأكراد يطمعون فى الاستيلاء على كركوك، والشيوعيون حلفاء الأكراد يشاطرونهم العداء للتركمان وإن لم يكن لهم مصلحه مباشره فى هذا العداء، إذ كانوا ينظرون للتركمان كبرجوازيين لكون معظمهم من الأثرياء والتجار، كما أن التركمان بطبعهم مسلمون تقليديون محافظون يكرهون الشيوعيه والفكر الشيوعى، ومن ثم إعتاد الشيوعيون على ترويج الاتهامات لهم بالرجعيه و العماله للامبرياليه العالميه ولشركات النفط وغيرها من الاتهامات التى إعتاد الشيوعيون على توجيهها لخصومهم السياسيين، وقد رأى عبد الكريم قاسم أن من مصلحته ضرب جميع القوى بعضها ببعض ليحد من نفوذ الأكراد والشيوعيين المتزايد كى يتاح له الانفراد بالسلطه، و من العرض السابق يتضح أن كل تلك القوى أرادت أن تجعل من التركمان كبش فداء لتحقيق غايات مختلفه ومن ثم قد بيتت النيه وعقدت العزم وعن سبق إصرار وترصد على قتل التركمان عشية الاحتفال بالذكرى الأولى لانقلاب الرابع عشر من يوليو / تموز١٩٥٨ وهناك من الشواهد والأدله السابقه على يوم المجزره والمتزامنه معه والتاليه له مايعزز هذا الاعتقاد.. ففى الأيام السابقه على وقوع المجزره وقع فى أيادى التركمان العديد من المنشورات الحزبيه التى تأمر أتباع التنظيمات الحزبيه باتباع كافة الوسائل والسبل الكفيله باستفزاز التركمان وقد سلمت تلك المنشورات لقوى الأمن المحليه فى كركوك ولعبدالكريم قاسم نفسه والحاكم العسكرى العام إلا انهم لم يحركوا ساكنا وبدا أنهم غير آبهين بالنتائج وقد سعت القوى المعاديه للوجود التركمانى فى كركوك للترويج لشائعه مفادها أن كارثه ستحل بالتركمان فى المدينه فى يوم ١٢ / ٧ / ١٩٥٩ حيث قدم للمدينه وفود كثيره من العشائر الكرديه المنضويه تحت لواء المنظمات الشعبيه والجمعيات الفلاحيه بقصد الاشتراك فى ذكرى مذبحة كاور باغى وإذ لم يحدث شيىء من هذا فقد شعر التركمان بالأمان والاطمئنان ودفعهم ذلك للثقه وعدم الركون للاشاعات الأمر الذى أوقع فى صفوفهم العديد من الضحايا فى اليوم المحدد لارتكاب المجزره (١٤ يوليو / تموز) خصوصا وأن الجماعات الكرديه التى حضرت للاشتراك فى ذكرى مجزرة كاور باغى بقت فى المدينه ولم تغادرها عقب إنتهاء الاحتفالات واشتركت فى المجزره، ومما يدعوا التركمان على الاصرار على أن المجزره كانت مدبره هو قيام الزعيم الركن داود الجنابى قائد الفرقه الثانيه فى كركوك وهو شيوعى معروف بعدائه للتركمان بإصدار الأوامر بإقتحام وتفتيش جميع الأماكن والمنازل المملوكه للتركمان فقط دون بقية القوميات الأخرى بحثا عن أى نوع من السلاح وذلك بهدف وضع التركمان فى وضع أعزل إزاء أى عدوان محتمل، ويرى التركمان أن التخطيط لتلك المجزره قد تم بمعرفة قاده أكراد محليون للتنظيمات الشيوعيه الناشطه فى كركوك وتحديدا على عاتق عبد الجبار بيروزخان رئيس إتحاد الشباب الديموقراطى، والرئيس المتقاعد فاتح ملا داوود الجبارى أحد مؤسسى الجبهه الوطنيه وسكرتير أنصار السلم، وأن هؤلاء ومن خلال أعضاء معينون فى هذه التنظيمات أوعزوا لبعض اقاربهم ومعارفهم من سكان كركوك بضرورة مغادرة نسائهم وأطفالهم للمدينه قبل يوم ١٤ تموز وأنه على الرجال إن أرادوا البقاء في المدينه أن يرتدوا الزى الكردى التقليدى أو ملابس المقاومه الشعبيه أو الجنود كى يمكن تمييزهم عن المواطنين التركمان المستهدفين بالقتل.
إن مسرح العمليات على أرض كركوك قبل وأثناء وبعد المجزره ينبىء بأن كل شيىء كان قد أعد سلفا من أجل إيقاع أكبر قدر من الخسائر فى صفوف التركمان فقبل المجزره مباشرة تم عزل كركوك عن العالم وسد كافة منافذ المواصلات البريه وقطع الاتصالات السلكيه واللاسلكيه وغلق أبواب البريد والبرق والهاتف، وأثناء المجزره ثبت أن التركمان كانوا عزل من السلاح لذا عمد أكثرهم للفرار نجاة بانفسهم فى حين راح آخرون منهم ضحايا لعصابات الشر التى إندست بين الصفوف مزوده بالعصى والهراوات والأسلحه الناريه، وقد إستخدم الجناه العصى والهروات فى بادىء الأمر، ولكن سرعان ماتطور الأمر إلىإطلاق النار على التركمان العزل وقد وضح من سير الأحداث أن التركمان فقط هم المستهدفون من المجزره إذ تم سحل وقتل أكثر من خمسه وعشرون ضحيه منهم وتعليق جثثهم على الأشجار وعندما حاولت إدارة مستشفى كركوك إنزال الجثث لمباشرة إجراءات دفنها منعت سيارات الاسعاف من ذلك وحاول الغوغاء من الأكراد والشيوعيين إحراقها وظلت الجثث معلقه فى حر شهر يوليو /تموز لمدة ثلاثه أيام وعندما حاولت شركة نفط كركوك المساهمه فى إطفاء الحرائق المشتعله فى الممتلكات العائده للتركمان بما لديها من سيارات إطفاء حديثه أحرقت السيارات قبل وصولها ومنعت من تأدية عملها، كما أن العصابات المنوط بها ذبح التركمان كانت تتوجه صوب بيوت معينه مملوكه للتركمان تم وضع علامات عليها مسبقا ويقومون باخرج سكانها ومباشرة أعمال السحل والقتل ومما يؤكد تورط قوات الجيش مع الأكراد والشيوعيين فى ذبح التركمان أن قوات الجيش عندما فرضت حظر التجوال بالمدينه فإن ذلك كان مقصورا على المواطنين التركمان، أما عصابات القتله فقد تركت لهم حريه التجوال دون إعتراض من قوات الجيش، بل ووصل الأمر ببعض أفراد الانضباط العسكرى للتوجه صوب البيوت المعينه صحبة أفراد المقاومه الشعبيه وقاموا بالقبض على أصحابها بحجة إستدعائهم من قبل القيادة وفى الطريق كان يتم الاجهاز عليهم وتسليم جثثهم لأفراد الجبهه لسحلهم وهو ماحدث مع المرحوم الرئيس الأول المتقاعد عطا خير الله والمرحوم السيد قاسم النفطجى، كما أن جثث القتلى كانت تسحلها فى الشوارع السيارات العسكريه، وشارك الجنود فى أعمال السلب والنهب للمخازن والحوانيت المملوكه للتركمان وقامت سيارات الجيش بالاضافه إلى السيارات الأهليه بنقل المسروقات، كما قامت قوات الجيش بقصف سينما أطلس وسينما العلمين وبعض البيوت فى القلعه بمدافع الهاون، ومما يدل على تواطىء قوات الجيش مع المعتدين أنهم لم يقوموا خلال إستباحة المدينه وعلى مدار ثلاثة أيام بإلقاء القبض على أى من المعتدين فضلا عن أنه وبعد سيطرة المعتدين على المدينه قام الجيش بإغلاق جميع الطرق المؤديه اليها بغية منع وصول العون للتركمان من بنى جلدتهم تركمان المناطق المجاوره لكركوك، ولم يترك الجيش طريقا مفتوحا للمرور سوى طريق السليمانيه لافساح المجال أمام الأكراد والشيوعيين لدخول المدينه وقت الحاجه، وقد أصاب المتآمرون الذعر من نجاح العقيد عبدالله عبدالرحمن مدير إدارة الفرقه الثانيه فى خرق الطوق المفروض على المدينه والتوجه صوب العاصمه بغداد لايصال أخبار المجزره إلى هناك وتم رصد جائزه قدرها ألفى دينار لمن يلقى القبض عليه ولولا العقيد المذكور وهو من التركمان لكانت النتائج الوخيمه لتلك المجزره أكثر جسامه.
لقد أثبتت الوقائع السابقه ومجريات الأحداث فى كركوك أن مجزرة التركمان فى يوليو / تموز ١٩٥٩ كانت عملا مدبرا إستهدف التركمان كقوميه وأن الغرض من المجزره هو إستئصال الوجود التركمانى فى كركوك ومحو الشخصيه التركمانيه من على أرض العراق وأن الجريمه بحق التركمان قد جرت عن سبق إصرار وترصد.
وإذا كنا قد إنتهينا من سرد وقائع مجزرة كركوك وحددنا هوية الجناة وقدمنا من الأدله والبراهين على أن ماجرى فى كركوك يوم ١٤ يوليو / تموز هو جريمه إستهدفت إستئصال شعب من الوجود ومحو شخصيته المميزه وخصوصيته الثقافيه ودفعه لترك دياره والرحيل عن بلاده وموطن آبائه وأجداده أو مواجهة مصير الموت والاباده على النحو الذى طال قادته ووجهائه الذين ماتوا سحلا فى شوارع كركوك وعلقت جثثهم على أعمدة الاناره وفروع الأشجار، فإننا وفى السطور القليله المقبله نجيب تفصيلا على التساؤل: لماذا جرى قتل التركمان بهذه الطريقه المقززه؟ وماهى التداعيات التى دفعت بتلك القوى الشيفونيه التعصبيه للتنكيل بالتركمان بهذه الصوره البشعه؟ وماهى أسباب تصعيد المواجهات فى تلك الظروف وفى هذا التوقيت؟ إن الاجابه على هذا التساؤل تقودنا الى الحديث عن الظروف السياسيه السائده زمن المجزره إذ أن الظروف السياسيه دائما ما تؤثر فى الأحداث سلبا أو إيجابا وهى التى تؤدى إما إلى التوتر أو الاستقرار، والواقع أن قطاعات الشعب العراقى كانت قد إستبشرت خيرا بالانقلاب الذى قاده عبد الكريم قاسم صبيحة الرابع عشر من يوليو / تموز وأعربت مختلف القوميات عن تأييدها للانقلاب ومن بينها التركمان الذين سارعوا بالتعبير عن الولاء بأن نظموا مسيره حاشده من تركمان كركوك وإربيل والموصل وتلعفر وطوز خورماتو وكفرى والأقضيه والنواحى التركمانيه الأخرى و كان على رأس المسيره الشهيد التركمانى عطا خيرالله واتجهت المسيره إلى وزارة الدفاع العراقيه وهناك ألقى الزعيم الركن عبد الكريم قاسم كلمه حماسيه أكد فيها على أن التركمان سيلقون كل عنايه ورعايه من رجال العهد الجديد وأنهم سيتمتعون بكامل حقوق المواطنه وقد فوجىء التركمان بعد أيام قلائل بتبخر تلك الوعود وصدور الدستور العراقى المؤقت فى ٢٧ تموز / يوليو ١٩٥٨ متجاهلا وجود التركمان كقوميه عندما نص فى مادته الثالثه على أنه: “… ويعتبر العرب والأكراد شركاء فى الوطن ويقر الدستور حقوقهم القوميه ضمن الوحده العراقيه ” وهكذا وللمره الأولى فى تاريخ العراق الحديث يصدر دستور متعارضا مع مبدأ المساواه بين جميع المواطنين والذى كان مقررا بالماده التاسعه من القانون الأساسى الملغى والذى جرى نصه على أن: “.. المواطنون سواسيه أمام القانون فى الحقوق والواجبات العامه ولا يجوز التمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغه أو الدين أو العقيده..” وبمرور الأيام إكتشف التركمان أن رجال العهد الجديد يقتربون أكثر فأكثر من الأكراد والشيوعيين ويتجاهلون التركمان وأن مراكز السلطه قد تركزت فى يد هذين الفصيلين الذين سيطرا سيطرة تامه على مجريات الأمور فى البلاد وكان من الطبيعى أن يسعى كلا من الأكراد والشيوعيين لتنفيذ أجندته الخاصه على حساب باقى أطياف الشعب العراقى فالأكراد كانت قضيتهم المركزيه هى السيطره على كركوك وضمها إلى مناطقهم فى شمال العراق و صاروا على قناعه بأنه بدون نفط كركوك لن يقوم لهم كيان مستقل تحت أى شكل من الأشكال ومن هذا المنطلق كرسوا كل قواهم لتغيير الواقع القومى لمدينة كركوك مهما كان الثمن أو الضرر الذى يمكن أن يلحق بالقوميات الأخرى وقد شاطرهم فى هذا الاتجاه الشيوعيون الذين كانوا لايبدون الارتياح للتركمان بسبب فشلهم الذريع فى نشر الفكر الشيوعى فى اوساط هذا الشعب المتمسك بأهداب الدين والذى شكل حائط صد ضد انتشار المد الشيوعى، وقد كانت الصعوبه وكما يقول الباحث حنا بطاطو فى أن الأكراد لايحوزون الأغلبيه العدديه داخل المدينه فكركوك كانت مدينه تركمانيه بكل ما فى الكلمه من معنى، ومع نمو صناعة النفط بدأ الأكراد ينتقلون تدريجيا إلى كركوك من القرى المجاوره وهوالأمر الذى كان يثير القلق لدى التركمان وبحلول عام ١٩٥٩ كان الأكراد يشكلون حوالى ثلث السكان بينما إنخفض عدد التركمان إلى مايزيد قليلا عن النصف وكانت هذه النسبه كفيله بإثارة حفيظه الأكراد الذين شعروا بأن وجود التركمان فى المدينه وبهذ ه الكثافه العدديه يقف حائلا فى طريق تنفيذ مخططهم الرامى الى تكريد المنطقه وضم تلك المدينه البتروليه الهامه إلى مناطقهم، ومن هنا بدأت المناوشات الكرديه التركمانيه بين طرف يهيمن على القرار السياسى فى المدينه (الأكراد) وطرف يعبر عن الواقع القومى ويشكل غالبية السكان فيها (التركمان)، فالأكراد يهيمنون على كل المناصب القياديه داخل المدينه فالمسئول الأول عن اللجنه المحليه للحزب الشيوعى ورئيس قوات المقاومه الشعبيه ورئيس الجبهه الوطنيه كانوا جميعا أكرادا ومع ذلك وعند إجراء أى إنتخابات حره داخل المدينه كان الأكراد يمنون بالفشل الذريع كون أن الواقع الديموغرافى لايساندهم وليس فى صالحهم، ففى أول إنتخابات جرت فى كركوك بعد إعلان الجمهوريه فازت قائمة التركمان فى إنتخابات نقابة الحقوقيين فى أيلول ١٩٥٨ بأغلبيه ساحقه، وفى الانتخابات التى جرت فى ٢٢ تشرين الثانى ١٩٥٨ لاتحاد الطلاب فازت قوائم الطلاب التركمان بالأغلبيه فى جميع المدارس وفى إنتخابات الهيئه الاداريه لنادى الثوره والتى جرت فى تشرين الثانى ١٩٥٩ حصل التركمان على جميع المقاعد وفى إنتخابات نقابة المعلمين والتى جرت فى ٢٣ كانون الأول ١٩٥٩ فازت قائمة التركمان بأغلبيه كبيره وحصلت على ٦٠٤ صوت من مجموع ٩٠٠ صوت، وفى إنتخابات الهيئه الاداريه لجمعية حقوق الأطفال والتى جرت فى كانون الأول /ديسمبر ١٩٥٩ فازت قائمة التركمان بأغلبيه المقاعد وحصلت على ٩ مقاعد من مجموع ١١ مقعد وفاز بالمقعدين الأخيرين كلا من رئيس الصحه وطبيب مسيحى، وفى إنتخابات الهيئه الاداريه للهلال الأحمر والتى جرت فى ١٣ شباط / فبراير ١٩٥٩ فاز التركمان بجميع المقاعد التسعه، وكان ذلك يدفع الأكراد والشيوعيون إلى السخط على التركمان ومحاولة إستثارتهم بشتى السبل وجرهم للصدام للنيل منهم وتصويرهم فى صورة الخارجين على القانون، وفى هذه الفتره علت وتيرة التراشق الكلامى بين الأكراد والتركمان فخرجت التصريحات الناريه للملا مصطفى البرزانى التى تؤكد على أن كركوك هى قلب كردستان وأن كركوك كرديه ولو بكردى واحد وأخذ غلاة القوميون الأكراد يرفعون الشعارات المستفزه لمشاعر التركمان كقولهم: ” كركوك لنا وليخسىء الطورانيون ” ويهاجمون المقاهى التركمانيه ويعتدون على الناشطين التركمان، وقد عاشت كركوك أياما عصيبه قبل وقوع المجزره عندما زارها الملا مصطفى البرزانى فى تشرين أول / اكتوبر ١٩٥٨وإتهم التركمانى هدايت أرسلان آمر الانضباط العسكرى فى كركوك بمحاولة إغتياله بزرع قنبله فى سيارته وما تلى ذلك من وفاة هدايت مساء يوم ٢٥ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٥٨ إثر أزمه قلبيه فتوالت الاحتجاجات والمظاهرات العنيفه فى المدينه وإزداد التوتر بين الكرد والتركمان وكانت الأوضاع على وشك الانفجار لولا حكمة ناظم الطبقجلى قائد الفرقه الثانيه الذى إستطاع إحتواء الموقف بتشكيل لجنة ” التضامن الوطنى فى كركوك من وجهاء الكرد والتركمان. وتوالت الأحداث حيث جرت عمليات تفتيش واسعه لمنازل التركمان فى ٢٨ كانون الأول / ديسمبر ١٩٥٨ وذلك على إثر تقرير كاذب قدمه الشيوعيون الأكراد للحكومه ولم تسفر أعمال المداهمه عن وجود ثمة أسلحه ممنوعه وتلى ذلك هجوم قوات المقاومه الشعبيه فى١٣ كانون ثانى ١٩٥٩ على كازينو ١٤تموز الذى يرتاده التركمان مما أسفر عن وقوع العديد من الجرحى، وتلى ذلك قيام مديرة دار المعلمات فى كركوك المدعوه لبيبه أحمد الريس وهى سيده شيوعيه بسب التركمان داخل المدرسه وإتهامهم بالعماله لشركة النفط الانجليزيه وقد تسبب ذلك فى إستثارة الشباب التركمانى ومهاجمته للمدرسه، وبعد إتهام ناظم الطبقجلى بالضلوع فى مؤامرة الشواف وإبعاده عن كركوك أكمل الشيوعيون والأكراد سيطرتهم على المدينه وإختل التوازن الذى كان قد خلفه الطبقجلى إذ حل محله الزعيم الركن داود الجنابى وهو شيوعى يحمل أفكارا معاديه للتركمان فكان أول ماعمد إليه هو إغلاق جميع الصحف التركمانيه وهى البشير والآفاق وجريدة كركوك الصادره عن رئاسة البلديه وقام باعتقال كافة الفعاليات السياسيه والثقافيه التركمانيه من محامين وأطباء ورجال أعمال وموظفين حيث تم ترحيل بعضهم إلى جنوب العراق وفرض الأقامه الجبريه عليهم فى حين أودع الآخرون سجون بغداد، وقد كانت هذه الأسباب مجتمعه هى الأسباب التى مهدت لوقوع مجزرة كركوك التى خلفت أسوأ النتائج وتركت آثارها السلبيه ليس فقط على صعيد العلاقات التركمانيه الكرديه بل وعلى مجمل الأوضاع فى العراق.
… رأينا كيف أن أعداء التركمان أخذوا فى تصعيد الموقف فى كركوك بهدف إيجاد مبرر أو ذريعه يمكن أن يستندوا إليها فى تبرير ماينوون القيام به من جرائم وحشيه، وكيف أن التركمان المسالمين نجحوا فى تفويت الفرصه على هؤلاء بأن تمسكوا بأقصى درجات ضبط النفس ورباطة الجأش، بيد أن أعداء التركمان كانوا قد عقدوا العزم وبيتوا النيه على تنفيذ جريمتهم النكراء عشية إحتفالات الثوره فقاموا غدرا بالهجوم على التركمان العزل وقتلوا منهم خمسه وعشرين تركمانيا من خيرة أعيان ووجهاء وقادة التركمان وجرحوا مايزيد عن مائه وثلاثين ونهبوا ودمروا مايزيد عن مائه وعشرين وحده إقتصاديه مابين شركه ومحل تجارى ومقهى ومخزن وسينما فضلا عن بعض المنازل المملوكه للتركمان، وشعر التركمان أعقاب المجزره المروعه بالصدمه الشديده لأن ماجرى من أعمال القتل والسحل والحرق والتدمير لم يكن مبررا، ومهما كان حجم الخلاف السياسى بينهم وبين الأكراد والشيوعيين فإنه لايصل بهؤلاء إلى إستخدام هذه الأساليب الهمجيه والبربريه، وراح الكثير من التركمان البسطاء يفرون من المدينه حفاظا على أرواحهم خصوصا بعدما رأوا أن ضحايا المجزره هم من وجهاء التركمان وعلية القوم فيهم.. فكيف بهم وهم البسطاء أن يدافعوا عن أنفسهم أمام هذه الهجمة الشرسه التى طالت سادة المجتمع التركمانى ووجهائه؟ فتوجهت العديد من العوائل التركمانيه إلى بغداد وإربيل بحثا عن الأمان المفقود فى كركوك أو لنسيان ذكريات تلك الأيام المؤلمه فى تاريخ الشعب التركمانى ولا تزال تلك العائلات من سكان حى الأعظميه وراغبه خاتون يتذكرون أدق تفاصيل تلك المجزره الرهيبه التى دفعتهم رغما عنهم لفراق كركوك، غير أن غالبية التركمان فضلوا الموت على أن يتركوا ديار الآباء والأجداد حيث مراتع الصبا والذكريات الجميله والقلعه ونهر خاصه صو وليالى كركوك المنيره بنيران بابا كركر الأزليه، ورأوا ألا يفسحوا المجال للفوضويين والمتعصبين القوميين ليصلوا إلى مراميهم فى إفراغ كركوك من سكانها الأصليين، فكركوك التى كان أكثر من نصف سكانها من التركمان لايمكن أن تستسلم أو تسقط تحت وطأة الضربات الهمجيه مهما كانت شدتها وقسوتها، لذلك قرر التركمان أن يتجاوزا الأحزان ويباشروا نضالهم السلمى من أجل نيل الحقوق ولفت نظر المسئولين لتصحيح الأخطاء ومحاسبة المجرمين، ورفع التركمان مذكره إلى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بتاريخ ١٨ يوليو / تموز ١٩٥٩ طلبوا فيها بتعيين قائد جديد للفرقه الثانيه وتعيين متصرف إدارى حازم وتكوين لجنة تحقيق خاصه ومحايده للتحقيق فى المجزره على أن يكون فى تلك اللجنه واحدا من التركمان يرشحونه، و معاقبة القائمين والمتسببين فى المجزره بأقصى العقوبات ليكونوا عبره لغيرهم، و تطهير جهاز الاداره والجيش والشرطه من العناصر الفوضويه، وحل المقاومه الشعبيه والمنظمات الأخرى فى كركوك، والتعويض عن الأضرار، وعدم إخضاع لواء كركوك إلى مديرية معارف كردستان لأن هذا اللواء ليس جزءا من كردستان، وإعادة جميع المواطنين والموظفين التركمان المبعدين من قبل داوود الجنابى إلى ديارهم فى كركوك، و تعديل الدستوروإحلال نص جديد محل النص القاضى بأن العرب والأكراد شركاء فى الوطن.
وأعقبوا هذه المذكره بمذكره أخرى موجهه للحاكم العسكرى العام و موقعه من إثنين من المحامين وعسكرى متقاعد طالبوا فيها ليس فقط بمحاكمة مرتكبى الجريمه ولكن أيضا المحرضين عليها من أفراد المنظمات الشعبيه ومنظمات المقاومه وأعضاء اللجنه الوطنيه لأنصار السلام فى كركوك وجنود وضباط الجيش الذين شاركوا فى المجزره ولم تصل إليهم يد العداله.
وقد كان موقف حكومة عبد الكريم قاسم حرجا للغايه إذ علت نبرة الصحف المحليه المعاديه للشيوعيين والمطالبه بتوقيع أقصى العقوبه على مرتكبى الجريمه، كما نقلت وسائل الاعلام العالميه صورا مقززه للمجزره مما اثار الرأى العام العالمى والمنظمات المعنيه بالدفاع عن حقوق الانسان الأمر الذى دفع بقاسم إلى الاسراع بإدانة الجريمه، ففى الخطاب الذى ألقاه فى كنيسة مار يوسف فى ١٩ تموز / يوليو ١٩٥٩ قال: ” إن ماحدث فى كركوك أشجبه شجبا تاما.. وبإستطاعتنا أن نسحق كل من يتصدى إلى أبناء شعبنا بأعمال فوضويه ” وفى المؤتمر الصحفى الذى عقده فى ٢٩ / ٧ / ١٩٥٩ قال:” الذى وقع فى كركوك لايتعدى كونه مؤامرة مبيته ” وعندما حاولت بعض القوى الفوضويه التنصل من الجريمه وإلقاء تبعاتها على الضحايا التركمان قال قاسم فى لقائه بوفد المنظمات المهنيه والنقابيه فى ٣ آب ١٩٥٩:” الغريب أن بعض الوفود أتت بوجه أسود وقالت أن القوى الديموقراطيه قد قضت على مؤامره!! أى مؤامره؟؟ مؤامره رجعيه، مؤامره تركمانيه، أنظروا ماذا عملتم، أنظروا عمليات السحل ” وأضاف ” أمامنا الآن وقائع ثابته، ثابته بالأشخاص المتهمين، بالمستمسكات الجرميه التى وجدت بحوزتهم، كل هؤلاء ليسوا من التركمان أو من الطورانيين ـ كما تريد ـ الفوضويه، إنهم من العبيد العملاء!! ” وإختتم حديثه قائلا: كركوك هى التى قدمت ضحايا كاوور باغى وحدها والشعب الكردى النبيل يدرك ذلك كل الادراك، وقد عاش الأكراد والتركمان أجيالا بسلام وهدوء وأخوه حتى جئتم انتم فأيقظتم الفتنه عن سباتها فلعنة الله على موقعى الفتنه ” وفى خطاب آخر ألقاه قاسم بعد أيام قلائل بمناسبة إفتتاحه للاستديو الجديد للاذاعه العراقيه فى بغداد طلب تسمية الاستديو باسم ” استديو التركمان ” عزاء لهم عن هذه المحنه المفجعه التى تعرضوا لها، وقام قاسم بتشكيل مجلسا تحقيقيا للتحقيق فى المجزره وأسند رئاسته للعقيد الركن عبد الرحمن عبد الستار مدير الحركات العسكريه وقد شهد جميع من تم إستدعاؤهم للشهاده ومنهم العقيد الركن إسماعيل حمودى الجنابى ضابط الركن الأول للفرقه الثانيه أثناء الأحداث بأن الأحداث عمل متعمد وأن النيه كانت مبيته لقتل التركمان دون أن يكون هناك مايبرر ذلك من جانبهم وأورد تغاضى أجهزة الأمن ومسئولى الدوله عن الاصغاء لخطورة الوضع وعن إمكان حدوث هذه المجزره.
وعلى الجانب الآخر بدأ الشيوعيون يشعرون بالقلق من كلمات عبد الكريم قاسم إذ أن كلماته لاتبعث على الاطمئنان بعد أن لوح بقبضته فى وجه الفوضويه مهددا بإتخاذ إجراءات إنتقاميه وبعد أن أخذت الصحف المعاديه للشيوعيه فى نشر تفاصيل واسعه عن الأعمال الوحشيه التى إرتكبت بحق التركمان فى كركوك، وقد أدرك الشيوعيون أن جريمتهم هذه المره لن تمر بهدوء فقررت اللجنه المركزيه للحزب عقد إجتماعا طارئا و فى دوره إستثنائيه شامله وتعالت الأصوات بإقالة السكرتير العام للحزب حسين الرضى واعترف فى الاجتماع بأن الحزب أخطأ فى عدم وقوفه بقوه ضد هذه الأحداث فى حينها ودعا إلى إتخاذ إجراءات إنضباطيه مشدده ضد كل عضو حزبى يظهر تورطه فى سلوك يلام عليه وأدان الحزب التعذيب وسحل الجثث ونهب الممتلكات وكافة حالات خرق القانون الأخرى، ولكن يبدو أن حكمة الحزب وعقلانيته قد جاءت متأخره وبعد فوات الأوان إذ سرعان ما بدأ قاسم فى توجيه ضرباته الموجعه للحزب. أما عن علاقه قاسم بالأكراد فقد بدأت ومنذ مارس ١٩٦٠ فى مرحله من الجفاء الشديد وبدأت جريدة ” خه بات ” الناطقه باسم الحزب الديمقراطى الكردستانى فى مهاجمة الحكومه العراقيه وعندئذ بدأ قاسم فى مطاردة قادة الحزب وإعتقال إعضاءه وأغلق صحيفة الحزب “خه بات ” فى ذات الشهر، وقد أدى ذلك إلى إشتعال الثوره فى كافة مناطق الأكراد واستمرت الثوره حوالى ١٧ شهرا حتى سقوط حكم عبد الكريم قاسم فى ٨ فبراير ١٩٦٣.
لقد تسببت الجريمه التى إرتكبها الأكراد والشيوعيون بحق التركمان العزل فى كركوك فى إثارة القلاقل داخل البلاد، ولم يعد التركمان يشعرون بالثقه لافى الأكراد ولا فى الشيوعيين ولا حتى فى عبد الكريم قاسم نفسه خصوصا بعد أن عاد وحاول تبرئة الشيوعيين والبارتيين فى المؤ تمر الصحفى الذى عقده فى مستشفى السلام بتاريخ الثانى من كانون الثانى / يناير ١٩٦٠ عقب نجاته من محاوله لاغتياله وإلقاء المسئوليه على الجمهوريه العربيه المتحده والبعثيين، فضلا عن تراخيه فى تنفيذ أحكام الاعدام التى صدرت بحق ٢٨ مجرما محكوما بالاعدام لدورهم فى المجزره حيث لم تنفذ تلك الأحكام إلا فى ٢٣ حزيران / يونيو ١٩٦٣ فى فترة حكم البعث، وقد أدى ذلك لأن يبحث التركمان عن تحالفات جديده فتأسست فى عام ١٩٦٠ فى جامعة بغداد الجبهه القوميه ممثله فى حزب البعث وحركة القوميين العرب والاخوان المسلمين وحزب الاستقلال ومجموعه الطلبه التركمان وخاضت تلك الجبهه إنتخابات إتحاد الطلاب للجامعه بقائمه موحده وحققت نتائج جيده ومثل التركمان فى الاتحاد الطلابى ثلاثة اعضاء، كما أدى أيضا لبروز تيار متشدد داخل المجتمع التركمانى ينادى بالقصاص من القتله، وفعلا تشكلت لجان الاغتيالات وبدأت خلايا الشباب التركمان فى كل ليله ينقضون على فرائسهم إيمانا منهم بحقهم فى الثأر دون أن يلجأوا إلى التمثيل بالجثث أو السحل أو بقر البطون، وهكذا تسببت فتنة الأكراد والشيوعيون وقاسم فى جر البلاد إلى حرب أهليه طاحنه ومصادمات كان من الممكن تجنبها لو أن الحكومه إتبعت طريق المساواه بين جميع المواطنين ولم تسمح للفوضويين والمتعصبين الأكراد بشغل جميع المناصب العليا فى مدينة كركوك الوادعه.
لم تكن مجزرة كركوك مجرد أحداث عابره راح ضحيتها مجموعه من المواطنين التركمان بل كانت عملا مدبرا خطط له ونفذه العصابات الكرديه بالتعاون مع جماعات الفوضويين من أعضاء الحزب الشيوعى العراقى والمنظمات الشعبيه تحت سمع وبصر حكومة عبدالكريم قاسم التى أرادت للأحداث أن تسير سيرها المرسوم، وقد أرادت العصابات الكرديه أن توقع الخوف والرهبه فى نفوس التركمان لدفعهم للرحيل عن كركوك كى يتثنى لهم تحقيق الحلم القومى بإقامة كردستان وعاصمتها كركوك وهو ماعبر عنه الملا مصطفى البرزانى مرارا وتكرارا بقوله: ” كركوك مع النفط ” وقوله ” كركوك قلب كردستان ” وقوله أيضا: ” كركوك كرديه ولو بكردى واحد” وهى المقولات التى تعبر عن التطرف المقيت والرغبه فى الاستحواذ على حساب الآخرين، وكان الأكراد هم الطرف المستفيد من إشعال الفتنه بسبب سعيهم الدائم لتكريد المدن والمناطق والقصبات فى شمال العراق وإفراغها من سكانها الأصليين، ولم يكن للشيوعيين مصالح ظاهره فى حدوث المجزره وإن جمعهم مع الأكراد تحالفات مصلحيه وأفكار أيديولوجيه، ولم يكن نظام قاسم يرغب فى أكثر من ضرب القوى السياسيه بعضها ببعض كى يتاح له الانفراد بالسلطه، فتحالفت هذه القوى الثلاث مع إختلاف غاياتها ومراميها على إرتكاب المجزره المروعه.
وكان الأكراد يهدفون إلى إحداث هزه نفسيه عميقه لدى الشعور الجمعى لجموع التركمان يتولد عنها رهبه وخوف شديدين تدفعهم للرحيل والهجره من العراق إلى تركيا ” الوطن الأم ” على نحو مافعلت العصابات الصهيونيه فى دير ياسين وغيرها حيث إرتكبت مجازر شنيعه بحق الفلسطينيين دفعت بالكثيرمنهم للهجره إلى وطن بديل ” دول الجوار العربى ” يتشابه فى الكثير من خصائصه مع الوطن الأصلى، فالمتعصبون الأكراد لايعتبرون التركمان عراقيون وطنيون بل ينظرون اليهم كأتراك وإن عليهم الرحيل إلى وطنهم الأصلى، ومن هذا المنظورأخذ المتعصبون الأكراد فى تغذية الشعور بالاحساس لدى مؤيديهم بأن التركمان مجرد جاليه أجنبيه وأنهم عملاء لتركيا وعملاء للميت وشركة النفط الانجليزيه وأخذوا فى إتهامهم بالتآمر، و ساعدهم الجو السياسى السائد والمنظمات الفوضويه المنتشره آنذاك فى الترويج الواسع لأفكارهم الشيفونيه التعصبيه ضد التركمان إذ كان الأكراد القوميون والأكراد الشيوعيون يملكون النفوذ والسلطه والاعلام داخل كركوك وفى عموم العراق فكان معروف البرزنجى السكرتير الشيوعى الكردى لأنصار السلم هو رئيس البلديه وكان عونى يوسف وهو من الديموقراطيين الأكراد رئيسا للمحكمه، والرئيس الكردى الشيوعى مهدى حميد قائدا لقوات المقاومه وكان الزعيم الركن داوود الجنابى وهو شيوعى عربى قائدا للوحدات ونظرا لوجود تحالف قوى بين حزبه والأكراد فإنه قد سخر كل سلطاته من أجل تحقيق الأمانى والتطلعات الكرديه، وفى الوقت الذى أغلق فيه كافة الصحف التركمانيه فإنه قد أطلق العنان للصحف الكرديه والشيوعيه لتسميم الأجواء وبث الدعايات المغرضه، وكرس عونى يوسف كل أعداد جريدة كاوور باغى التى تصدر وتمول من بلدية كركوك للهجوم على التركمان، وبالمقابل كان الأكراد المتعصبون لايعتبرون أنفسهم عراقيون بل أكرادا وطنهم الأصلى كردستان المجزأه والموزعه على عدة دول وأخذوا فى تغذية مشاعر مواطنيهم بهذه الأفكار الانفصاليه وتعميق الاحساس لديهم بضرورة إفراغ كردستان الجنوبيه الممتده من زاخو حتى تكريت من كافة الغرباء عربا كانوا أم تركمانا أو كلدو آثوريين وكان التركيز على كركوك عاصمة النفط والتى بدونها لايمكن تحقيق حلم كردستان، إن هذا الحلم الكردى هو الذى دفع بالمتعصبين الأكراد لدوامة الصدام مع جميع الحكومات المتعاقبه على حكم العراق، وأيضا مع جميع العرقيات الأخرى القاطنه فى المناطق التى يطلق عليها المتعصبون الأكراد ” حدود كردستان القديمه “، والأكراد وهم بصدد تحقيق حلمهم هذا تحالفوا مع الجميع واعتنقوا كل الأفكار والأيدولوجيات فهم شيوعيون وهم رأسماليون وهم شرقيون وغربيون، وفى حرب الخليج الأولى هم مع العراق ومع إيران ومن منهم مع إيران اليوم مع العراق غدا فى توزيع محير للأدوار، هم مع إسرائيل وفى ذات الوقت يصطفون مع الفلسطينيين دفاعا عن بيروت، باختصار شديد هم مع الجميع وضد الجميع، إن عدم وضوح الرؤى والمنطلقات والغايات لدى القوى التعصبيه الكرديه هو الذى وضع هذه القوى فى حاله من الصدام مع بقية القوى الوطنيه العراقيه بل وفى كثير من الأحيان مع الشعب الكردى نفسه، وكان الشعب الكردى هو ضحية ضيق الأفق والمغامرات غير المحسوبه لتلك القوى التعصبيه والزعامات الفارغه التى كانت السبب فيما حل به من كوارث. وقد كان الخطأ الأساس الذى إرتكبه نظام قاسم هو بثه روح التفرقه بين المواطنين بالنص فى الدستور المؤقت على أن العرب والأكراد شركاء فى الوطن إذ كيف يكون العرب والأكراد شركاء فى الوطن دون أن يكون للآخرين نصيب فيه وإذا كان الوطن حكرا على عرقيتين فقط فما هو الأساس الذى يستند عليه وجود بقية القوميات على أرض ذلك الوطن؟ وهل بقية القوميات ومن ضمنهم التركمان مواطنون أم أجانب؟ هل هم أصلاء أم دخلاء؟ وماهى الضمانه والحمايه التى يمكن أن يستندوا عليها فى المطالبه بحقوقهم إذا كان القانون الأساسى للدوله قد أخرجهم من عملية الشراكه فى الوطن؟.. ذلك باختصار المأزق القانونى الذى أرساه نظام قاسم فدفع بالعرقيات داخل الوطن إلى حافة المواجهه، كما أن نظام قاسم أيضا سعى لتهميش عرقيه على حساب أخرى، وفى الوقت الذى أبعد فيه التركمان عن المناصب السياسيه العليا منح الأكراد السلطات السياسيه والتنفيذيه والقضائيه فى مدينة كركوك وهو الوضع الذى كان يستثير حفيظة التركمان أصحاب الأغلبيه العدديه فى المدينه، فضلا عن أن حكومة عبد الكريم قاسم كانت قد دأبت على إفساح المجال أمام العناصر الفوضويه التى تتبنى الشعارات الفارغه والتى أخذت فى كيل الاتهامات بالتآمر والعماله للتركمان الأمر الذى سمم الأجواء فى مدينة كركوك ومهد الطريق للصدامات العرقيه الداميه.
من كل ذلك يتضح أن مجزرة كركوك لم تأت من فراغ وإنما جاءت نتيجة لسلسله من الأخطاء وهذه الأخطاء تقع بالأساس على السلطه من ناحيه، ومن ناحية ثانيه على الأكراد، فالسلطه هى التى وضعت الأساس للتفرقه والتمييز بين المواطنين، والأكراد ناصروها فى هذا الاتجاه لرغبتهم فى تهميش التركمان والحد من حرياتهم والتضييق عليهم بهدف دفعهم لمغادرة البلاد وإخلاء كركوك وتفريغها من سكانها الأصليين باعتباره الهدف الاستراتيجى الأول للأكراد، غير أن التركمان راحوا يطالبون وبالوسائل السلميه بحقوقهم السياسيه والثقافيه مما حدا بالأكراد المهيمنين على السلطه لأن يستخدموا فى بادىء الأمر أساليب التهديد والوعيد وإذ لم تجدى تلك الأساليب، صعدوا الأمر إلى استخدام الأساليب الدمويه فكانت مجزرة كركوك المروعه….. والحقيقه أن مجزرة كركوك كانت عملا بشعا وجريمه لاتغتفر بحق المواطنين التركمان المسالمين وأن من واجب العراقيين العمل على تلافى حدوث مثل تلك المجازر مستقبلا و تلافى الأخطاء التى وقعت فيها حكومة عبد الكريم قاسم حتى لايجد المواطنون أنفسهم مرة أخرى على حافة المواجهه.. إن على الجميع أن يؤمنوا بعراق واحد موحد يتمتعون فيه بالحقوق على قدم المساواة فى ظل دستور يضمن للجميع شراكة الوطن ولا تمييز فيه بين مواطن وآخر على أساس العرق أو الدين أو المذهب لأنه بغير ذلك لايمكن تحقيق الاستقرار والسلام فى ربوع العراق.

التركمان في المنطقة الآمنة شمال خط ٣٦ (الإقصاء – التهميش – الإرهاب)
– لم تكن حياة التركمان الهاربين من جحيم البعث إلي ما يسمي بالمنطقة الآمنة شمال خط ٣٦ تتسم بأي نوع من الأمان أو الاطمئنان إذ تعرض هؤلاء لضغوط تشبه إلي حد بعيد ما تعرضوا له علي يد حكومة البعث إذ حاول حزب برزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني) وهو حزب قومي متشدد ” تكريد التركمان “بعد أن كانت حكومة البعث تسعي إلي تعريبهم إذ أجبر الطلاب التركمان علي التعلم باللغة الكردية وعندما حاول التركمان تفادي ذلك بفتح المدارس التركمانية عاد ذلك الحزب المتشدد لممارسة الضغوط ووضع العراقيل بان فرض اللغة الكردية إلي جانب اللغة التركمانية ومنذ السنة الأولي الابتدائية على التلاميذ التركمان متجاهلاً أهمية هذه المرحلة بالنسبة للطفل الذي يبدأ الدراسة باللغة الأم ومن ناحية أخري قام بنقل المعلمين والمدرسين التركمان الذين تم تأهيلهم في اللغة التركمانية لمدراس كردية وأتي بمعلمين أكراد إلي المدارس التركمانية ممن لا يجيدون لا التركمانية ولا التركية الحديثة وقد تعرض التركمان للتمييز من قبل الجماعات الكردية وأجبروا علي وضع علم كردستان في المدارس التركمانية، وكان المرحلين التركمان لمناطق نفوذ الحزب الديمقراطي يتم طردهم وتم منع توزيع جريدة ” توركمن أيلي ” التي تصدر باللغتين العربية والتركمانية كما تم منع الاستماع إلي الإذاعة التركمانية أو مشاهدة القناة التلفزيونيه التركمانية في الأسواق والمحلات التجارية والأماكن العامة وقام الحزب الديمقراطي الكردستاني المتشدد بعد انسحاب إدارة البعث من شمال العراق عام ١٩٩١ بطرد جميع الموظفين التركمان العاملين في وظائف الدولة واحل محلهم موظفين أكراد وكان علي من يرغب من الموظفين التركمان الاحتفاظ بوظيفته إن ينتمي لصفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني.
كما جري الضغط علي التجار ورجال الأعمال التركمان لمنعهم من ممارسة أعمالهم التجارية وتعرضت الأحزاب التركمانية لمضايقات شديدة وتعرض منتسبيها لضغوط من اجل تقديم استقالاتهم منها وجري القبض علي الكوادر السياسية التركمانية وإيداعهم السجون وتعريضهم لأبشع طرق التعذيب.وفي ٣١ آب – أغسطس ١٩٩٦ قامت القوات الحكومية وبالتنسيق مع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برازاني باجتياح شمال العراق (فيما بعد خط ٣٦) وقامت بمهاجمة مقرات الأحزاب والجماعات المعارضة للحكومة العراقية ومن بينها الحزب الوطني التركماني العراقي والجبهة التركمانية العراقية والمؤسسات السياسية والثقافية التابعة لها وقد أدي ذلك إلي استشهاد أكثر من ١٩٠ مواطنا تركمانيا في هذه الأحداث وقامت قوات الحكومة بمساعدة قوات برزاني بتاريخ ١/٩/١٩٩٦ بمهاجمة مقر الحزب الوطني التركماني الواقعة إلي الغرب من فندق إربيل وتم إعدام كل من قبض عليه من التركمان أمام مقر رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان (كوسرت رسول) ومن أجل التمويه والإخفاء كانت القوات الحكومية ترتدي الزي الكردي التقليدي وقد اقتحمت تلك القوات جميع مكاتب الحزب بما فيها دائرة الإعلام والمكتب السياسي ودائرة الإغاثة والإذاعة والتليفزيون والمطبعة وصحيفة تركمان إيلى إضافة إلي ٢٢ مدرسة تركمانية وقامت القوات المشتركة بمداهمة الأبنية التابعة للأحزاب السياسية التركمانية ومؤسسات الجبهة التركمانية وتم قتل واعتقال جميع العاملين المتواجدين في هذه الأبنية التابعة للأحزاب السياسية التركمانية ومؤسسات الجبهة التركمانية وتم قتل وتدمير تلك الأبنية ونهب ما بها من ممتلكات واغتيال مساعد المركز الثقافي التركماني في داهوك(الشهيد عساف جوادلي) وقام البرزاني بتسليم حكومة البعث أكثر من أربعين تركمانيا تم إعدامهم فيما بعد بسجن أبو غريب ولم يكن سلوك حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني بأقل من نظيره حزب برازاني إذ فرض قيوداً مشددة علي نشاطات الأحزاب التركمانية وطلب تزويده بلوائح بأسماء منتسبيها… وفي إحداث ١٠ آب – أغسطس ١٩٩٨ لم يسلم التركمان من اعتداءات الحزب الديمقراطي الكردستاني المتشدد والذي دبر اعتداءات واسعة النطاق علي المؤسسات التركمانية حيث جرت أعمال سلب ونهب وحرق واسعة النطاق شملت المقر الرئيسي للجبهة التركمانية والمكاتب والمؤسسات التركمانية والتي من بينها:

– رئاسة الجبهة التركمانية
– دائرة التربية والثقافة
– دائرة الصحة والرعاية الاجتماعية والمساعدات
– مستوصف الشفاء الخيري
– مقر حزب التركمان المستقلين
– مقر حزب تركمن أيلي
– مركز البيت التركماني
– دائرة السياسة والعلاقات الخارجية
– المركز الرئيسي لدائرة الحماية
– مركز التدريب التابع لدائرة الحماية
– بناية اتحاد الحرفيين التركمان
– نادي تركمن أيلي الرياضي
– مدرسة دوغوش الابتدائية
– مدرسة كوكبورو الابتدائية

لقد أدت معاناة التركمان وما تعرضوا له من اضطهاد إلي تدخل ووساطة الجمهوريه التركيه لدى الجماعات الكرديه فى شمال العراق وقد أسفر ذلك عن إبرام اتفاق من ضمن بنوده:-
١- السماح للتركما ن بحرية الشراء والاستثمار في المناطق التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني.
٢- السماح للأعلام التركماني بالتحرك بصورة مستقلة بما في ذلك حق الأطقم التليفزيونية في التصوير في الشوارع والأسواق.
٣- عدم استغلال القضاء لتصفية حسابات سياسية.
٤- عدم منع تدريس التاريخ التركماني في المدارس التركمانية.
٥- عدم فرض اللغة الكردية في السنوات الأولي من الدراسة علي الأطفال التركمان.

بيد أن هذا الاتفاق ظل حبرا علي ورق ولم ينفذ واستمرت المضايقات المرتكبة بحق المواطنين التركمان تتزايد بإستمرار حتي سقوط حكومة البعث في ٩ أبريل ٢٠٠٣ وما تلاها وحتى الآن.

الأحزاب الكرتونية
لم تتوان الأحزاب والجماعات الكردية علي تشكيل أحزاب وجمعيات تركمانية تعمل لحساب الأكراد وتسعي لتحقيق مصالحهم ومطامحهم التوسعية في شمال العراق وتبني الرؤى والطروحات الكردية حول كركوك وهذه الأحزاب هي التي دأب التركمان علي تسميتها بالأحزاب الكرتونية كون أنها تتلقي الدعم من الأكراد ولا تعبر عن مصالح وأماني الشعب التركماني بقدر ما تعبر عن المصالح الكردية الرامية إلي ضم كركوك لمناطق الأكراد فى شمال العراق وتوسعة رقعة مايسمى بكردستان بل وحتى تأييد فكرة أن موطن التركمان في العراق يقع في كردستان العراق وليس في العراق.
ولذلك تسعي هذه الأحزاب وهي حزب الشعب التركماني الكردستاني الذي سرق أسم حزب الشعب التركماني الذي هو أقدم الأحزاب التركمانية، وحزب الإخاء التركماني (وليد شريكة) والاتحاد التركماني العراقي (سيف الدين دامرجي)، وحزب الشروق التركماني (موفق قوربالي)، وحزب الإنقاذ القومي التركماني (شيرزاد أنور عويز) والحزب الديمقراطي التركماني الكردستاني (دلشاد بكر جاوشلي) والتي تشكل ما يسمي (التجمع الوطني التركماني العراقي) لإضعاف الجبهة التركمانية العراقية والتي تضم أكبر تجمع للأحزاب التركمانية وهي الحزب الوطني التركماني، وحزب تركمن أيلي وحركة المستقلين التركمان، ونادي الإخاء التركماني، وجمعية الثقافة والمساعدات لأتراك العراق، ومؤسسة تركمان إيلي للتعاون والثقافة والحركه الإسلاميه لتركمان العراق.
فضلاً عن أحزاب أخري خارج الجبهة التركمانية ولها وجودها الفعال في الشارع التركماني كالإتحاد الإسلامي لتركمان العراق (عباس البياتي)، وحزب العداله والإنقاذ لتركمان العراق، وحركة الوفاء التركماني العراقي والتي من ابرز رموزها (أرسلان توتنجي، وصالح البياتي، وفؤاد طوزلو) وخلال شهر أبريل ٢٠٠٤ قام الأكراد بتأسيس جمعية كردية / تركمانية للصداقة والتضامن بزعم تعزيز العلاقات الكردية – التركمانية، وحل المشاكل بين الأكراد والتركمان، كما قاموا بدعم وتفعيل حزب الشروق التركماني الذى تأسس فى السليمانيه عام ١٩٩٩ ولا يحظى بأى أهميه أو إعتراف من قبل التركمان بهدف إضعاف الجبهة التركمانية وبقية الأحزاب التركمانية الوطنية الأخرى، ويسعى حزب الشروق التركماني المدعوم من قبل الأكراد وعن طريق صحيفته ” الجوهر ” لشق الصف التركماني وتحريض التركمان ضد الجبهة التركمانيه العراقيه.

التركمان والأكراد والدستور المؤقت
لقد عاني الأكراد والتركمان من الظلم والتفرقة في ظل حكومة البعث، وقد توقع التركمان أنه بزوال حكم البعث ستزول معاناتهم المستمرة المتمثلة في التمييز بينهم وبين بقية أطياف الشعب العراقي حيث دأبت الدساتير السابقة علي أن تغض الطرف عن وجود التركمان، وبدءاً من دستور ١٩٥٨ وحتي الدستور المؤقت الأخير كان دائماً ينص علي أن ” العرب والأكراد شركاء في الوطن ” وقد فوجئ التركمان بالدستور الأخير يتجاهل حقيقة وجود التركمان، ويذكر للعراق لغتان رسميتان هما العربية والكردية متجاهلاً اللغة التركمانية مع اعطاء الأكراد حق الأعتراض ” الفيتو” لأي قانون يصدر في العراق ” م ٦١ ” الأمر الذي جعل من هذا الدستور نموذجاً للظلم الطائفي والتفرقة بين العرقيات ولا يداخل التركمان أدني شك في أن الأكراد بما لديهم من نفوذ لدي الأمريكيين كانوا هم الدافع وراء صدور هذا الدستور المجحف بحقوق التركمان.

قضية كركوك
تعد قضية كركوك أحد حلقات الصراع الرامي لتهميش واقصاء التركمان عن لعب اي دور في العراق بل ولا نبالغ اذا ما قلنا بان الجماعات الكردية لاتهدف من اثارة النزاع العرقي حول كركوك مجرد اقصاء أو تهميش الدور التركماني في رسم سياسة العراق بل تهدف الي محو الوجود والهوية التركمانية من هذه المدينة العراقية الهامة والمصبوغة بالصبغة التركمانية سواء من الناحية السكانية أو الثقافية لذلك سعت الفصائل الكردية ومنذ دخولها إلي مدينة كركوك صبيحة يوم ١٠/٤/٢٠٠٣ إلي تغيير هوية المدينة من كافة النواحي وقامت عناصر البشمركة الكردية بحرق وإتلاف وسرقة كل الوثائق التي تدل علي هوية المدينة العراقية ذات الخصوصية التركمانية وقاموا بجلب مئات اللآلاف من الأكراد من العمق الشمالي في السليمانية وإربيل ودهوك لكركوك وعينوا آلاف الموظفين من الأكراد في وظائف الدولة وحصلوا علي أغلبية المقاعد في مجلس محافظة كركوك بمساعدة الأمريكيين كما قاموا بتكريد التعليم والإدارات الحكومية ورفعوا الأعلام الكردية علي مباني المدينة وقاموا بحملات إرهاب وترويع للمواطنين لا نظير لها وكل ذلك بهدف إقصاء وتهميش دور التركمان في السياسة العراقية.
الخلاصة……. أن الجماعات الكردية تتبني في الفكر والسلوك والممارسة سياسة إقصاء وإبعاد التركمان عن لعب دورهم الطبيعي والطليعي والخلاق في إدارة بلدهم وأنهم في سبيل تحقيق هدفهم تحالفوا مع جميع الأنظمة التسلطية التي حكمت العراق والقوى الأجنبيه وأنهم لم يتورعوا عن إرتكاب المجازر والفظائع علي نحو ما جري في مجزرة كركوك (١٩٥٩) وأربيل أعوام ٩٦، ٩٨ و٢٠٠٠ ومجزرة طوزخورماتو و كركوك عام٢٠٠٣ وما تلاها من أعمال القتل للفعاليات والكوادر السياسية والصحافية التركمانية وأنه لا سبيل لإستقرار العراق الجديد الا بتخلي تلك الجماعات عن اساليبها التعصبية ونزعتها الاقصائية تجاه تركمان العراق.

المراجع:-
١- أرشد الهرمزي: التركمان والوطن العراقي، مؤسسة وقف كركوك، أستانبول، تركيا،ط١،٢٠٠٣م.
٢- أرشد الهرمزي: التركمان في العراق – منشورات المكتب الإعلامي للحزب الوطني التركماني –أنقرة، ١٩٩٤م.
٣- السيد عبد الرازق حسني: تاريخ الوزارات العراقية،دار الشئون الثقافية العامة،بغداد، ج١،ط٧ ١٩٨٨ م.
٤- حنا بطاطو: العراق، الكتاب الثالث، الشيعيون والبعثيون والضباط الأحرار، مؤسسة الأبحاث العربية،بيروت ١٩٩٢ م.
٥- حسن أوزمن: التركمان في العراق وحقوق الإنسان،ط١،أنقرة ٢٠٠٢م،٢٠٠٤ م
٦- حامد محمود عيسي علي (دكتور): المشكلة الكردية في الشرق الأوسط، القاهرة ١٩٩٢م.
٧- حسام الدين آماسيلي: أصل ومنشأ اتراك العراق، جريدة اقدام التركية ٢شباط/ فبراير ١٩٢٢ م عدد ٨٩٣٩
٨- جاسم مخلص: ذكريات ناظم الطبقجلي ومذكرات المحامي جاسم مخلص، المكتبة العصرية،بيروت،١٩٦٩
٩- جمال رشيد أحمد (دكتور): كركوك في العصور القديمة، دار ئاراس للطباعة والنشر، اربيل.
١٠- زياد كوبرولوا: الكيان التركي في العراق، أورنك ليمتد، أنقرة ١٩٩٦ م.
١١- الأعداد الكاملة لمجلة قارداشلق (الاخاء).
١٢- ش. باشا لار: الاصطلاحان كرد وكردستان من علي الانترنت:
http://www.turkmen.nl/١_journal٥/٣.htm

ملحوظه:
العنوان الأصلى للبحث: النزعه الإقصائيه تجاه التركمان لدى الجماعات الكرديه فى شمال العراق.

* مدير مركز دراسات الهدف الاعلامى بجريدة الهدف المصريه الدوليه

” الجريدة غير مسؤولة عن جميع محتويات المادة المنشورة على صفحاتها “

اترك تعليقاً