السيمر / الأربعاء 06 . 12 . 2017
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
تكاد تجمعُ الدول العربية والإسلامية على قرارٍ واحدٍ، وتلتقي على موقفٍ مشتركٍ، وتتفق على الإدانة والاستنكار، والرفض وإبداء المخاوف من النتائج المتوقعة وردات الفعل الغاضبة، فيما بدت وكأنها سيمفونية جنائزية أو موسيقى الموتى، إذ كانت المواقف حزينة ضعيفة باكية، عاجزة متحسرة مشلولة.
فالعاهل المغربي محمد السادس يحذر من أن “نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، سيؤثر على آفاق إيجاد تسوية عادلة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي”.
ونقلت وزارة الخارجية القطرية أن “دولة قطر تعلن رفضها التام لأي إجراءاتٍ للاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل”، ونُقل عن الأمير تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر جاهزية بلاده لأداء الأدوار المطلوبة منها بشأن القدس، وأكد أن بلاده تجري اتصالاتٍ مع الإدارة الأمريكية حول خطورة أي خطوة في القدس.
أما الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز فقال أن ” نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خطوة تستفز مشاعر العرب والمسلمين”، ورأى آخرون أنها استباقية ولا تساعد في التسوية النهائية.
وحذرت المملكة الأردنية الهاشمية التي تتمتع بوضعٍ خاصٍ في مدينة القدس الشرقية، وتشرف أوقافها الإسلامية على إدارة الشؤون الإسلامية في المدينة، ومتابعة شؤون المسجد الأقصى المبارك، من خطورة تداعيات القرار الأمريكي في حال تنفيذه، ودعت إلى عقد اجتماعٍ طارئٍ لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، لمناقشة قرار الرئيس الأمريكي ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
وصدرت مواقف رسمية مشابهة ومتباينة في قوتها وحدتها، استخدمت ذات الكلمات واعتمدت ذات السياسة، وإن كانت لهجتها أقوى وأكثر جديةً من المواقف العربية الرسمية، حيث صعدت تركيا ودول أفريقيا وإيران وباكستان وبنغلاديش وماليزيا، وغيرهم من الدول المعنية بالقضية الفلسطينية لهجتها من الإدارة الأمريكية، وهددت بعضها بقطع علاقاتها الدبلوماسية بالكيان الصهيوني في حال تنفيذ الرئيس الأمريكي لقراره.
وأعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن ملف القدس خطير، ولا يجوز العبث به، وحذر الإدارة الأمريكية من مغبة المغامرة أو التلاعب بها، وأعلن عن وقف كافة قنوات التواصل والتنسيق مع الإدارة الأمريكية، ودعا إلى تكريس الوحدة الوطنية كونها الضامن الحقيقي لمواجهة القرار الأمريكي المرتقب، وكلف رئيس حكومته رامي الحمد الله بالتفرغ التام لمواجهة مستجدات هذا القرار، ومتابعة جديد خطاب ترامب يوم غدٍ السبتٍ، والامتناع عن الذهاب إلى قطاع غزة، والاكتفاء بالفريق الحكومي كله الذي سيواصل استلام مقراته ومتابعة أعماله، بينما يتفرغ رئيس الحكومة لمواجهة استحقاقات الساعات القادمة.
في حين دعت حركة حماس إلى تأجيج الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، إن أقدمت الإدارة الأمريكية فعلياً على الاعتراف بالقدس عاصمةً موحدةً للكيان الإسرائيلي، وباشرت في نقل سفاتها إلى مدينة القدس، واعتبرت أن إطلاق يد المقاومة في الضفة الغربية هي أفضل ردٍ على الإجراءات الأمريكية والإسرائيلية المستفزة لمشاعر المسلمين والمتجاوزة لحقوق الشعب الفلسطيني.
وفي السياق نفسه اشتركت الأمم المتحدة مع الدول العربية والإسلامية في موقفها، وانساقت وراءها في استنكارها وتنديدها، وتحذيرها وتهديدها، إذ رأى الأمين العام للأمم المتحدة أنوطنيو غوتيريوس أن أي خطوة أحادية الجانب فيما يتعلق بمدينة القدس، ستؤدي لإشعال المنطقة كلها، وستنهي مشروع حل الدولتين.
أما الحكومة الإسرائيلية واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وجماعات الضغط اليهودية واليمين المسيحي المتشدد، فقد أبدوا سعادتهم البالغة تجاه نوايا ترامب، ووصفوها بأنها جادة وجريئة، وحكيمة ومطلوبة، وأشادوا بموقف الرئيس الأمريكي وإدارته، واعتبروا أنه الرئيس الأمريكي الأكثر جديةٍ ومصداقيةً فيما يتعلق بهذه المسألة، التي تأخر حسمها لسنواتٍ، وتعرضت لتأجيلاتٍ عديدةٍ كادت تعصف بجدية القرار وتعطله، إلا أن هذا القرار يعيد السيادة الإسرائيلية الكاملة عليها بعد ثلاثة آلاف سنة من الغياب.
غداً الأربعاء المشهود ويوم الخطاب الموعود، وفيه ستنجلي المواقف وستتحدد الاتجاهات، وسيبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض، وسينتهي الجدل وستتوقف الاجتهادات والتوقعات، حيث سيلقي الرئيس الأمريكي خطابه الذي سيكشف فيه عن قراره العتيد، حيث يتوقع أنه سيمضي في تهديداته وسينفذ وعوده، وسيعلن اعتراف إدارته بالقدس عاصمةً أبديةً موحدة لكيان الصهيوني، وسينقل إليها سفارته ومسكن سفيره، تمهيداً لمباشرته أعماله الرسمية من عاصمة الكيان المعترف بها من قبل إدارته.
يبدو أن سلطات الاحتلال قد أخذت علماً بالقرار الأمريكي، وبتفاصيل خطاب ترامب المرتقب، فأعلنت قيادة أركان جيش الاحتلال عن رفع الجاهزية الكاملة للجيش، وإعلان حالة التأهب القصوى بين صفوفه، وتكثيف تواجده وانتشاره، لمواجهة أي تطوراتٍ محتملةٍ، ولفض أي تحركاتٍ شعبيةٍ ومواجهة أعمال الشغب المتوقعة، حيث صدرت تعليماتٌ مباشرة بمواجهة وقمع أي مواجهات أو تحركاتٍ شعبية فلسطينية.
ما بعد القرار الأمريكي بشأن القدس سيكون أقسى وأنكى، وأخطر وأسوأ، إذ ستقرأ الحكومة الإسرائيلية في القرار الأمريكية موافقة صريحة على سياساتها التوسعية في القدس والضفة الغربية، وستفهم أنها مطلقة اليدين في مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية لحساب المستوطنات الجديدة أو تطوير وتوسعة القديم منها، الأمر الذي سيدخل القضية الفلسطينية في مساراتٍ جديدةٍ أكثر خطورةً مما سبق، وستدخل المنطقة كلها في حالةٍ من الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار، وربما تتسبب في حروبٍ ومعارك جديدة.
لو أن الحكومات العربية والإسلامية قد أجمعت قبل اليوم على قرارٍ آخر واتخذت موقفاً مخالفاً، يقوم على العزة والكرامة، ويستند إلى القوة والمنعة، وينطلق من المواجهة والتحدي، فإنه ما كان لهم أن يصلوا إلى هذا الدرك الحضيض، يستجدون ويتوسلون، ويسألون الإدارة الأمريكية بذلٍ وصغارٍ، ومهانةٍ وضيعةٍ، بأن تتراجع عن قرارها، وأن تكف عن تهديداتها، وألا تمضي قدماً في مخططاتها، ولعل عاموس يادلين رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي السابق يعزز هذا الفهم، وينكأ بقوةٍ وفرح هذا الجرح فيقول “الفلسطينيون والعرب والأتراك يهددون بمسدسٍ فارغٍ، الرأي العام العربي مشغولٌ في قضايا الصراع بين السعودية وإيران في اليمن ولبنان”.
كان حرياً بالقادة والملوك والرؤساء العرب والمسلمين أن يتخذوا قراراً مختلفاً، وأن يجمعوا أمرهم على موقفٍ مغايرٍ، يكيد العدو ويخيفه، ويردعه ويزجره، ويكفه ويمنعه، علماً أن كلفة هذا الموقف والقرار أقل بكثيرٍ من كلفة الاستخذاء والاستجداء، بل بل إن عوائد مواقف القوة وقرارات العزة مكاسبٌ كبيرةٌ، ومنافعٌ كثيرةٌ، فطوبى لمن عرف السبيل لهذه المواقف وعمل من أجلها، وهنيئاً لمن اتخذها وعلم مذاقها، وعاش في كنفها حراً عزيزاً أبياً مستقلاً، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن ذل نفسه وجدع أنفه، وطأطأ رأسه وخفض صوته، وتوسل بمهانةٍ وسأل بضعفٍ، إذ لن يحصد غير الحسرة والندامة، ولن يجني من ذله غير الذل والخسارة.