الرئيسية / دراسات ادبية وعلمية / الجواهـريّ، يصمتُ مدوياً.. ويتصدى!

الجواهـريّ، يصمتُ مدوياً.. ويتصدى!

السيمر / الاحد 29 . 04 . 2018

توثيق وكتابة: رواء الجصاني

على امتداد تاريخه المديد، أتخـذ الجواهري (محمد مهدي:1898-1997) مواقف المجابهة، والتصدي والتنوير، لحالات وظواهر اجتماعية وثقافية وسياسية، كان بعضها غايةً في التشدد والمصارحة والصراحة، وقد تحملّ، وحُمّلَّ بسبب ذلك نتائج مرهقة، وقسوة مباشرة: ضيقاً في العيش واعتقالاً وسجناً واغتراباً، وغيرها، وجميعها لم تنلْ منه، فواصل المسير دون هوادة.
والى جانب التحدى والتمرد والثورة، أنتهج الجواهري في مسيرته فلسفة / لغة الصمت ايضاً، ولكن ليس من منطلق الرهبة أو الخوف، بل الثورة والتمرد والتفرد، وليواجه بتلك الطريق، ويردّ ويبيّن ويحرضُ ويُنهض .. وقد ضم قصيده العامر اظهارات عديدة وبصور شتى لذلك السبيل، وعلى جوانبهِ، مع خلاصات، ومؤشرات ذات صلة، وقد يحتاج الأمر حقاً لدراسة معمقة، وليست خواطر وتوثيقات عجول كالتي نحاولها في هذه الكتابة، والتي لها متعلقات ببعض الواقع اليوم في البلاد العراقية، بهذا الشكل والقدر، أو ذلك.
وفلسفة / حديث الصمت، أو لغته، رافقت الشاعر الخالد سنوات طوال كما سبق القول، ، وقد اعتكفَ فترات طويلة نسبيا بعيداً عن الشعر والنثر والنشر، ثم يُسأل ويجيب، ويحاور ويسبـبُ صمته، ويدعو علانية لأعتماده نهجاً مُفضلاً في بعض الاحايين والظروف، وستبيـّن لنا الشواهد التاليات شيئاً مما نريد الاستدلال به، والتنوير من خلاله .
ومن شواهدنا حول الامر، وبالاعتماد على الذاكرة وحسب، نشير الى ما جاء في داليته الفريدة “جمال الدين الافغاني” التي ألقيّت في حفل اقيم ببغداد عام 1944 بمناسبة نقل رفاة ذلك المصلح الكبير الى افغانستان، يقول فيها مخاطبا الرجلَ المنور، ورائياً في سكتة / صمت الموت ترفعاً عما آالـت اليه الأمور، وأوضاع الدنيا وشرقها خصوصا :

هويتَ لنصرة الحقّ السُهادا، فلولا الموت لم تطقْ الرقادا..
ترفعْ ايها النجمُ المسجى، وزدْ في دارة الشرف إتقادا
ودرْ بالفكر في خَلـدِ الليالي، وجلْ في الكونِ رأياً مستعادا
وكنْ بـ”الصمت” أبلغ منك نطقاً، وأورى في محاججةٍ زنادا..

ويعود الجواهري بعد خمسة اعوام على القصيدة السالفة، وفي عام 1949 تحديداَ، متبنياً فضيلة / دوي الصمت، حين يكثر التهافت …. فيضمّنّ في قصيدته البائية الشهيرة، الموسومة “هاشم الوتري” والتي القاها الشاعر الكبير في حفل تكريمي لذلك النطاسي المتميز، ومطلعها : “مجدتُ فيك مشاعرا ومواهبا، وقضيتُ فرضاً للنوابغ واجبا”..
ويضيف، في متن بائيته، مخاطبا الوتري، وهو عميد دار كلية الطب، ومشفاها ببغداد، ليعلى من قدر السكوت- الصمت، في حالات تستوجبه، وقد أعتمده الشاعر الخالد، مفتخراً ومتعالياً بذلك الموقف، ومبيناً مسبباته :

أيه عميدَ الدار شكوى صاحبٍ طفحت لواعجهُ فناجى صاحبا
نبئتُ انــك لست تبرح سائــلاً عني، تناشدُ ذاهباً أو آيبـــا
وتقول كيف يظل “نجمٌ” ساطعٌ ملئ العيون، عن المحافل غائبا
الآن انبيكَ اليقينَ كما جلا وضحُ “الصباح” عن العيون غياهبا
فلقد “سكـتّ” مخاطباً اذ لم أجدْ من يستحقُ صدى الشكاةِ مخاطبا …

وفي عام 1977 يردّ الجواهري محاوراً ومجيباً، وبابياتٍ ثرة، كان بيت قصيدها كما ندعي، الجدال في فضيلة السكوت، حديثاً ونطقاَ، فيقول عبر مواقف واجابات، ولربما على تساؤلات متنطعين، طواعية أو كرهــاً! :

قالــوا “سكـــتَ” وانتَ أفظـعُ ملهـــبٍ وعيّ الجمـوعِ لزندهــا قداح ِ
الحرفُ عنــــدك من دمٍ، وسبيلــــهُ يوم الصــراعِ إلى دم ٍ نضاح
حتى على غرر الملاح قلائـــدٌ ، للشعـــــر من غرر ٍ لديــك ملاحِ
فعـلامَ أُبدلَ وكـــر نسر ٍ غاضــبٍ، حرد ٍ بعـــش البلبـــل الصداح ِ
فأجبتهم : أنا ذاك، حيثُ تشابكت هامُ الفوارسِ تحت غــابِ رماح
قد كنــتُ ارقـــب ان أرى راحاتهم مُــدتْ، لأدفعَ عنهمُ بالــــراحِ
لكنْ وجدتُ سلاحهم في عطلةٍ، فرميتُ في قعـرِ الجحيمِ سلاحي

ثم، وفي عام 1981 يجيبُ الجواهري على مناشدة للزعيم الكردي العراقي جلال طالباني، الذي حاول ان يحرضّ فيها الشاعر الخالد، لكي يتجاوز الصمتَ الذي كان قد اعتمده..بل ودعاه لأن (يغني!) دعماُ لمواقف وسياسات.. فردّ – الجواهري في قصيدة/ رسالة، أو رسالة/ قصيدة، اعابَ فيها تلك المناشدة، غاضباً، ومن ابياتها، مخاطباً طالباني :

ناشدتني ولبعـــــــضِ النشـدِ معتبـــة، وربّ معتبـةٍ من سئ الظنــــنِ
ان لا أزمّ – كما عَودتُ- من شفة، لم تلفَ مزمومةً يوماً، ولم تكنِ ..
ماذا أغني، وبي جمرٌ على شفتي، ومن أغني؟ وما من معشرٍ أذنِ…
من ذا أغنــي أأشتاتـــــاً موزعةً، على التمـزقِ والثارات والأحـــنِ ..
فهل تراني مزماراً يـُثار به، لهوَ الخلائــف من اعقابِ” ذي يـزن” …
“فلن اغنــي” بأعراس مهللـــة، ولن أنوحَ على موتى بلا كفــــــــنِ …

ويحلّ عام 1983 وحال البلاد والأمة راكنة في سباتها، بل وفي تغافٍ مستمر، ومتزايد، وذلك ما لا يقدر ان (يسكت) الشاعر الخالد عليه، فيتفجر صامتاً! ليكتب ميمية جديدة، يلهب بها، ويلتهبُ شعراً وفلسفة ومواقف، ومن ابياتها:

لم يبـــقَ عنديَّ ما يبتـزهُ الألمُ، حَسبي من الموحشاتِ الهــمُّ والهـرَمُ
لم يبــــقَ عندي كفـاءَ الحادثـات أسىً، ولا كفاءَ جراحاتٍ تضِّـــجُ دمُ
وحين تَطغَى على الحرّان جمرتهُ، فالـ”صمتُ” أفضلُ ما يُطوَى عليه فمُ..

وفي مناسبة سياسية، او لنقل مواقف سياسية، يردّ الجواهري عام 1985 على الشاعر السوري صابر فلحوط ( أبي مهند) الذي دعاه بابيات شعرٍ لكي يقول شيئا.. فأستجاب الجواهري ولكن بثورة جامحة، منوراً في مطولةٍ فريدة، وفيها يُسببُ صمتاً اراده وسيلة للدويّ، على ما آلت اليه الامور، ناقداً وكاشفاً في ثورة “صمته” المقصود احتجاجاً، على شأن البلاد العربية وشعوبها – وربما قبل حكامها!- فقال في ميمية جامحة:

أأبا مهندَ والجراح فمُ، وعلى الشفاه من الجراحِ، دمُ …
عندي لواعجُ تستفز دمي، وتحزُّ من جلدي وتقتحمُ
أبداً تعاودني وساوسها، ويرج فيها اليقظةَ الحلمُ
حتى إذا حاولت الفظها، عاصى بها القرطاسُ والقلمُ…
أأبا مهندَ ربّ عافية “خرساءَ” يحمدُ عندها السقمُ ..
أفأمة تلك التي هَزلت، وتناثرت وكأنها رمــمُ..

ان من المؤكد في ظني، وجود عديد آخر من الابيات الجواهرية، في قصيده الثري، اراد من خلالها ان يُثبت فضيلة / لغة الصمت في حالات محددة، وبلاغة ذلك في دويٍ مقصود. ولعل مراجعة شاملة للديوان العامر ستوفر للمتابع، وطالبِ الاستزادةِ، مما يرسخ الذي أردنا الحديث عنه ايجازا في ما سبق من سطور..

وقبل الختام بقي عليّ ان اقول ان هذه التأرخة / التوثيق ذات صلة، وأكثر، بكتابتين نشرتهما قبل ايام معدودات(*) عن بعض آراء ورؤى بشأن دور وكتابات المثقفين العراقيين، والسياسيين منهم بشكل خاص، في ازمة البلاد المبتلاة بالطائفية والارهاب، والتدخلات الاقليمية والخارجية، وغيرها من تأثيرات وتأثرات.. ومن أهم ما أستهدفته تينك الكتابتان، الدعوة لاعتماد لغة الحوار الموضوعي والنقد الهادف، والجدال الحضاري، الابتعاد عن الغلو والقسوة في التعاطي مع الاحداث، وعن الشخصنة والتشنج وما الى ذلك. اي وبأختصار: اعتماد اليراع النبيل، والواقعية، ونبذ التحريض على العنف.. واذا ما فهم البعض خلافَ ذلك الهدف والمبتغى، فهو المسؤول عن اية تفسيرات أخرى، مسبقة الغايات.

أخيراً، وفي متابعة سجالية حول الامر، واستشفافاً من بعض القراء، والمعنيين، ، بدا لي – ويبدو- ان ذلك الطموح الذي يُعولُ عليه – وقد أوجزتهُ بالحكمة / المقولة الشهيرة: “أيقاد شمعة صغيرة، أفضل الف مرة من كيل السباب والشتائم للظلام- بعيد المنال بسبب التعود، ومن ثم التطبع، وتواتر الاحداث في بلاد ما حول النهرين، منذ عقود، بل وقرون. وهكذا جاء في الذهن بديل لربما أكثر واقعية مما يُطمح اليه، ألا وهو اللجوء الى فضيلة الصمتِ، وتلكم هي فلسفة بحد ذاتها كما أظهرته ابيات الجواهري في الفقرات اعلاه… منوهاً ايضا الى ان ذلك المرتجى – اي نبل اليراع، وموضوعية النقد- صعبُ القياد والتنفيذ ايضاً، وأستدرك لأقول: ولكن ليس بالنسبة للمثقفين، القادرين طبعاً !!.
——————————————————
(*) الكتابتان المعنيتان، منشورتان في العديد من وسائل الاعلام، وعلى شبكة الانترنيت، وعنوانهما، لمن يبتغي المزيد:
– الاولى في اذار 2018 وعنوانها ” نموذجٌ عن ترويج بعضِ “المثقفين“ للطائفيةِ والاحترابِ والغلّــو”.
– الثانيةفي نيسان 2018، موسومة بــ ” مثقفونَ بكاؤون وندّابـونَ، بلا نَظير !”.

اترك تعليقاً