السيمر / السبت 06 . 10 . 2018
د. رحيم الغرباوي
الشعر عزف منفرد آلته الكلمات وروحه الوجدان ، يترجم دقائق الشعور بلغة تكاد تكون ليست مألوفة في محيط الواقع ؛ لتبعث على الدهشة والمتعة في نفس المتلقي وهذا يكون عند من يعيش إحساسا صادقاً ؛ يجعله ينظم شعره بلغة متفردة تمثل ترجمةً لشعوره ؛ ولعلَّ في شعور كلِّ الشاعر مقصدية معينة يزدلفها ؛ ليعبِّر عنها بعدما تختارها له ذائقتة وينتخبها وعيه ؛ لذلك نجد كثيرا من القصائد لشعراء ظلت تعيش مع كل روح تسامت لأجل فكرة أو موضوع أو إحساس ؛ ذلك هو الشعر بوصفه هبات تترجم إنسانية الإنسان وتوقد فيه ما يتحسسه في السر كان أو في العلن ، بوصف الشعر بوحاً يغمر الأرواح بهباته التي غرسها الله في صلب الإنسانية , حين تنزع دائما للحياة ولرقتها التي نافح الشعر ومازال ينافح من أجلها .
وشاعرتنا العراقية ظلال محمد وغيرها من الشعراء والشاعرات يذكروننا بقول الفيلسوف الألماني هوسرل : إن الحقيقية ماتبدو في شعوري أنا وما تبدو في خبرتي أنا (1) ؛ لذا يمكننا أن نقول : إنَّ الشعر تعبير صادق عن إحساس قائله وهو ينظر من عين قناعاته لقضية معينه لكن منظار الآخرين يبقى يعلو على القناعات الشخصية التي كثيرا ما يمكننا معارضتها إن لمسناها ليست من الواقع أو كانت فروض يختطها الأديب أو الشاعر فنراه متحمساً لها ناسيا أو غافلاً جوانب من العلل التي جعلته يسير خلف جماح نصه .
فالشاعرة ظلال عزفت نشيدها ؛ وهي ترى بعين التفوق والانتصار لابعين الأسباب والنتائج ، فقصيدتها ( سامحيني ) التي نراها بها تبرِّئ ساحة من أساء يوماً لها وهي تسرد لنا ما جاء في رسالته التي يتوسلها فيها :
سامِحيني
وأسمَعي صوتَ جُنوني
وأزيلي كغُبارٍ
شوقَ نَفْسي وأنيني ..
لَمْلِمي فَيضَ حَنيني
ياغَرامي واحتَويني ..
لاتَزيدي في غُموضي
كَكِتابٍ إقْرَأيني ..
فأنا منذُ أبتعدتِ
طاعنٌ في الحزنِ وَجْدِي
أشتهي مِنكِ وصالاً
ياظِلالاً
فأفِيضي واغْرِقيني ..
فنراها تتعاطف معه على الرغم من جفائها له ، وكأنها تبرر له الأعذار في قوله : ( جنوني ، فيض حنيني ، وأنيني ، طاعنٌ في الحزن وجدي ، اشتهي منكِ وصالاً ) فهي تحاول أنْ تعبِّر عن خيبتها منه ، وكما أسلفنا في دراسة للشاعرة الجزائرية مونيه بلخذاري أنّ للنص الشعري فعل كتابة يقابلها لحظة مضادة لها فتحاول ترميم ما تحطم لزرع الثقة في النفس والعيش في لذة الحلم بوصف الكتابة حلماً يملأ دنيا النفس المحرومة لذة الإشباع بما يمكن أن نسميه معادلا موازياً للفقد بالشعور , وذلك بالتجاوز من خلال مايمنحه النص من نشوة لصاحبه وما يومئ إليه من إشارات , فنراه يميل إلى عدم الاكتراث بالمعاناة إلى قيمة عليا في لحظة الكتابة ، فعنونة النص ( سامحيني ) هي خير دليل على ذلك ، إضافة إلى ماذكرنا من أعذار أخبرتنا بها الشاعرة وهي تزجي لنا سطورها ، لكنها بقدرتها وشفافية شعورها صاغت لنا بأصوات تومئ إلى حشرجات ندمه ممثلة بأصوات صفير : كصوت السين والشين والزاي والصاد والضاد التي تمثل الخواء ، فضلا عن صوت الغين الذي تكرر ثلاث مرات ، وصوت الفاء الذي ورد ست مرات وهو يشعرنا بالأسف , وصوت الحاء الذي ورد أربع مرات وهو يمثل الراحة في أفيائها , بينما صوت النون ورد عشرين مرة وهو صوت تنغيمي يمنح النص غنائية , بينما صوت الميم ورد ثمان مرات واللام سبع مرات وكلاهما صوتان هامسان ونغميان أيضاً , وغايتها من التنغيم والهمس هو منح النص معنى الوداد والقرب والجذب , فهي تداري بذلك شعورها ورغباتها من أنها المنتصرة على من هاجر يوماً عالمها تاركاً فيها غصة الهجر والأ لم , وهي تومئ لمن دمعت عيناه في حضرتها بعد طول غياب وفي ذات الوقت نراها تشفق عليه وهي تبرر له ما عناه .
اسأليني كيفَ كُنتِ
حينَ كُنا في الهوى
نَمضي معاً ؟
سَأجيبُ :
كُنتِ طِيباً وحناناً
كُنتِ حُلماً ،
وجمالاً يَعتَريني ..
نتلمَّس من ذلك أنَّ شاعرتنا تعيش نرجسيتها داخل النص والنرجسية ” تعلل تناقض السلوك وتبرر الموضوعات واختلافها على السواء ” (2) , فنجدها تشعر بأنَّ من يتوسلها بحاجة إليها ؛ لأنها كانت له البلسم الشافي , والمنهل المروي , موظفةً صوت الكاف الذي ورد خمس مرات وهو يدل على الكمد والاكتئاب ؛ لما يعيشه هو من حسرة لفراقه لها , كما أنه يشعرها بندمه ، فهي تحكي لنا لسان حاله , لكن الوجه الآخر يظل يعبر عما تمثله من إمعان بجعل ذاتها قوية فنراها تعيش كبرياءها وسطوتها تجاه من تجبَّر عليها على الرغم من أنَّ النص جاء مسكوباً بخمرة التوسل وطلب السماح كما تصفه هي .
ثم تستطرد قائلة :
عاتِبيني واُصْرُخي
كيفَ تَشائي
سوفَ أرْضى
لَو بقصدٍ تَجرَحيني ..
أو دَعيني هائماً
تلكَ اللَّيالي
حينَ كُنتِ تَعشَقيني ..
صَدِّقيني
لنْ أُغامرْ في هواكِ
صَدِّقيني ..
إنْ بكتْ عيناكِ يوماً
من عَذّابي يامَلاكي
فَالعَنيني !
إذن هي النرجسية التي غلبت على شعور شاعرتنا يدلنا على ذلك أنها جعلت من الحبيب المهاجر يتوسلها راضياً بجرحها له ، وقبوله بلعنتها إياه حتى وإن لم تغفر له .
ولكن الشاعرة استطاعت أن تشحن نصها بحروفها التي دلت على عزف يتواءم مع الموضوع , فضلاً عن ذلك جعلت صوت الروي هو ( النون ) المكسورة ؛ لتمنح النص حزناً يشوبه الانكسار الذي فدح بمن جاء يتوسلها ، ويعتذر لها ، وهذا ماحاولت الشاعرة أن تثبت لنرجسيتها أنها قد تفوقت عليه على الرغم من أنه طعنها يوماً … لكن في نهاية المطاف خرَّ ذليلاً صاغرا يرجو الصفح عنه بعدما تحمل الذل خلافها .
(1) ينظر علم الظاهرات التأويلي : 48
(2) النرجسية في أدب نزار قباني , خريستو نجم : 21 .