السيمر / الأربعاء 14 . 11 . 2018
رواء الجصاني
والولع بالكتب والقراءة والكتابة داء (! ) يصيب الكثيرين ومنهم (فلان) صاحب هذه السطور، فأدمن عليه – وما برح – منذ نحو ستين عاما، وترافق معه بمديات واشكال متباينة طبعا، و حتى الساعة، ومؤكد حتى حيان الساعة، على ما يدعى ذلكم الـ (فلان) … وقد كانت البداية مجلة “سمير” القاهرية الاسبوعية، وأختها “السندباد” وما اجمل استذكارهما على رفوف غرفته، ومن ثم في مكتبته الاولى، الى جانب مجموعة قصص “اللص الظريف ارسين لوبين” و”شارلوك هولمز”. وبعدها تطورت الحال بمضي السنين، والعقود.
ولم يأتِ ذلك “الداء” بعيدا عن التطبع، والاجواء العائلية اولاً.. فالسيد جواد الجصاني، وهو والد (فلان) نجفي عريق، ومن اسرة فقهاء شهيرة – والده العلامة السيد ابراهيم العريضي الحسيني النجفي، الجصاني- وتخرج ضمن الدفعات الاولى من ” دار المعلمين العالية” في بغداد، اوائل ثلاثينات القرن الماضي، بأختصاص الرياضيات، وتنقل في وظائف رفيعة، ومن بينها مديراً للمعارف في محافظات (الوية) بعقوبة، الكوت، البصرة، للفترة 1935-1952 ثم استقر في مفتشية المعارف العامة حتى شباط عام 1963 حين اعتقله البعثيون في انقلابهم الدموي الاول، واحالوه على التقاعد، “تكريما” لجهوده وخدماته التربوية !!.
اما خؤولة (فلان) وتأثيرها في تنمية حب القراءة والكتابة والادب والصحافة، فلها ما لها من صيت بارز ايضا. فهو – اي فلان- ابن السيدة “نبيهة” شقيقة الشاعر الخالد (محمد مهدي) الجواهري، النجفي العريق، وأحد احفاد الشيخ محمد حسن (صاحب الجواهر) العالم والفقيه وامام زمانه.. وما نحن هنا للأطالة في التفاصيل ..
وهكذا نبت حبّ الكتب والقراءة والمعرفة عند (فلان) وترسخت – ولربما لها بعض علاقة بالجينات، فمن يدري؟- اهواءه وميوله الثقافية والادبية، ومنذ سنوات الوعي الاولى، وترعرت، وإن لم تأخذ الشكل الأكاديمي، أذ راح الفتى يكمل تعليمه الجامعي في هندسة الري والبزل – برغم أنفه!- ليتخرج من معهد الهندسة العالي بجامعة بغداد عام 1970 …
وحيـث انغمر الاقران في لهو وحلاوات الصبا والفتوة والشباب، انغمر فلان في القراءة وعوالم الكتب، يجمع ما تيسر من مؤلفات تناسبت مع سني العمر. ثم لتعمر مكتبته تالياً – بعد ان راح فلان ناشطا سياسيا، منذ عام 1965 – بالكتب السياسية، والتاريخية، فضلا عن الادبية طبعا. وكم كان – ولربما الى اليوم- يرعى تلك الحصيلة، يعيد قراءتها ويحصيها ويجلدها، ويتمتع بترتيبها وتصنيفها، وكـأنما هي زرعة تنمــو، وشجرة مليئة بالثمار التي لا تتساقط .
ومما تعتز به ذاكرة فلان، وبرغم مرور نحو ستة عقود، مرافقته الوالد لمكتبة “البيان” للشيخ على الخاقاني، في بداية شارع المتنبي والتي كانت منتدى ثقافيا دائما للشخصيات المثقفة الحقيقية آنئذ، ومن بينها: الاديبان المعروفان، عبد الكريم الدجيلي، وعبد الرزاق بستانة، والشخصيات المعروفة: عبود زلزلة وحسن محمد علي المحامي، ونعيم بدوي، الى جانب نخبة قل مثيلها، في ذلكم الزمان على الأقل!…
كما يتذكر – فلان- تردده الدؤوب اواسط الستينات الماضية لذلك الشارع الزاهي – المتنبي- ومكتباته، وفروعه، وسوق السراي، ومحلات تجليد الكتب التي تعلم منهاالخطوات الاولى لتجليد كتبه في المنزل، وخاصة في الظهريات حين كان اقرانه يلهون ويراهقون ويأنسون بشؤون اخرى! .. وكم كان يغار فلانٌ من صديقه العتيد، الاعلامي اللامع لاحقا، ليث الحمداني، وكتبه ومجلاته التي ربما لا مثيل لها ببغداد، بذلك العمر آنذاك.
ثم ينشغل (فلان) مبكرا في العمل الجماهيري والسياسي والحزبي ببغداد، وفي مهمات متنوعة : طلابية ونقابية واعلامية، وبحكم ذلك تتنوع كتبه جهد ما استطاع، حرصا على التعلم وتعميق المعرفة بالنشاطات العامة، ومراجعات التاريخ الوطني، والعربي والعالمي، وسير تحولاته، ومتابعة متغيراته. وهكذا تروح مكتبته الخاصة تزدحم بالمؤلفات ذات الصلة .. وحتى يحل موسم الهجرة الى اوربا، اضطرارا بعد أشتداد القمع والارهاب لغلاة البعثيين الحاكمين في البلاد.
ويبقى مصير تلك المكتبة العامرة، ذات الاكثر من الفي كتاب، ومجلدات ووثائق، وصحف، رهينا بالتطورات.. فيُحرق بعض ما يُظن بأنه مستمسكات جرمية خطيرة(!) ويخفى بعض آخر، ويطول الزمن الذي كان يحسبه (فلان) قصيرا، وهو في حال التفاؤل وربما لقصر النظر! .. وأخيرا يحصل المحظور، ويُشاع اليأس فتتلاشي الكتب، وتتوزع على اصدقاء واقارب، ثم يتبرع بغالبيتها عام 2015 الى مكتبات عامة عسى ان تبقى عامرة ولو لفترات زمنية معقولة.. وكم وكم هي كتب ومكتبات احباب واعزاء آلت الى ذات المصير، ولنفس الأسباب.
لقد امتد الولع – وما زال- في تجوال (فلان ) متى واين ما سنحت الفرصة لحضور وزيارة العديد من المكتبات في العواصم العربية، وغيرها، ومنها طرابلس وعدن والكويت وعمان ودبي وتونس وطهران الجزائر وبيروت …. وكذلك معارض الكتب (الدولية) ومنها قيّد الذاكرة المميزة: معرض القاهرة عام 1998 مع جمع اصدقاء عراقيين اتفقوا ان يلتقوا هناك، ومنهم عباس الكاظم وجبر علوان وجمال الجواهري وانتشال هادي.. وقد قضى (فلان) وقتا غير قليل ليس في اروقة المعرض، ولكن في الازقة المجاورة، وسور “الأزبكية” حيث (بسطات) وعربات الكتب القديمة والتي هي أندر، وأثمن من الكتب والمؤلفات المعاصرة، ليس من جهة المضمون، ولكن لندرتها وعبقها التاريخي ..
اما معرض دمشق الدولي للكتاب، فكانت له زيارات عديدة خلال الثمانينات والتسعينات الماضية، مع احباء واصدقاء كثار .. وهنا لا ينسى (فلان) تمتعه ايضا بملاحقة ما يباع على الارصفة في دمشق صباح كل جمعة من كتب ومجلات قديمة وتاريخية تكاد اوراقها ان تتفتت بسبب قدمها، ولعل الكاتب والصحفي عامر بدر حسون يشهد على ذلك، وهو المدمن على جمع وملاحقة الكتب والاصدارات القديمة، وخاصة وانه صاحب المجلة الدمشقية الشهيرة “الأيام” التي اطلقها عام 2001.
اما حديث الكتب والمكتبات في براغ، التي أغترب اضطرارا اليها (فلان) منذ اربعين عاما، وما زال، فلها حديث آخر، سيأتي به، وعنه الجزء الثاني من هذه الكتابة …
(يتبع الجزء الثاني والأخير).