السيمر / الأربعاء 05 . 12 . 2018
محمد ضياء عيسى العقابي
الظاهرة:
أصدر مجلس القضاء الأعلى العراقي بتأريخ 9/11/2018 قراراً إعتبر بموجبه “الدكَّات العشائرية” أعمالاً تندرج في إطار النشاط الإرهابي بعد أن أمست ظاهرة.
إستمعتُ الى آراء متعددة من المواطنين العراقيين في فضائية “الإتجاه” كلها أيدت الإجراء وإختلفَ البعضُ القليل جداً على إدراجها تحت بند الإرهاب وأرادوا الإكتفاء بالعقاب القانوني. أشار البعض المطّلِع الى دعم زعماء العشائر الأصلاء لهذا الإجراء القضائي بكامله.
هذا رغم تشاؤم الكثيرين من إمكانية تفعيل القرار على أرض الواقع.
كما إختلف المواطنون حول مبررات إصدار ذلك القانون. فمنهم من عزاه الى شيوع أعمال الدكَّات لحد بلوغ مرحلة “الظاهرة”، ومنهم من لاحظ إنحطاط أسباب حدوث الدكَّات فصارت تحدث لأتفه الأسباب كالخصام على دجاجة أو عدم إلقاء التحية من جانب شخص على شخص آخر أو وفاة مريض تحت العلاج أو رسوب تلميذ في المدرسة، بينما يترتب عليها إجراء من العيار الثقيل كتسيير السيارات المكشوفة المحملة بالسلاح المتوسط وربما الثقيل بذريعة “الدكَّة”.
بيّن القاضي وائل عبد اللطيف في فضائية (الحرة – عراق) أن عملية “الدكَّات العشائرية” المتعارف عليها سابقاً في المجتمع العراقي كانت تتمثل بإطلاق رصاصة في الهواء من بندقية صيد متواضعة أمام دار المطلوب ليذهب هذا الى المكان الذي يتقاضون فيه ويحسمون المشكلة عشائرياً بكل إحترام وهدوء وسلام. من جانبه وفي نفس الفضائية بيَّن الشيخ عدنان الدنبوس، شيخ عشائر كنانة، بأن العشائر وزعمائها الأصيلين كانوا يحترمون الدولة ورموزها من موظفين ورجال أمن.
ولكنْ، أستطيع أن أزعم أن الجميع قد أخفقوا في تشخيص الأسباب الصحيحة والحقيقية التي تقف وراء إنتشار وتشويه هذه الظاهرة الآن؛ كما أخفق كذلك كثيرون إستمعتُ إليهم على مدى سنوات عديدة وهم يبحثون أسباب تفشي هذه الممارسة الاجتماعية الخطيرة وبهذه الحدة والتوسع بعد سقوط النظام البعثي الطغموي.
وكالمعتاد راح معظم المستثقفين يوظف تفسير الدكَّات توظيفاً يخدم رغباته السياسية المؤدلجة كالطعن بالحشد الشعبي تحت مسمى “الميليشيات” و “الجماعات المسلحة” و “السلاح المنفلت” و “الحكومة الهزيلة” و “الديمقراطية الفاشلة” وهو ديدن الطغمويين وذيولهم.
عزت غالبية المواطنين بروز ظاهرة الدكَّات الى ضعف جهاز الدولة الأمني. وعزاه البعض الى ظاهرة إنتشار السلاح على المستوى الشعبي وبين العشائر. وعزاه آخرون الى دوافع إجرامية بحتة. وعزاه آخرون الى وضع بعض شيوخ عشائر مزيفين هذه الممارسة تحت رسم الإيجار أي تنفيذ أعمال قتل بحجة “الدكَّة” أو “الكَوامة” مقابل أموال يدفعها المحرِّض لسبب آو آخر.
السبب الحقيقي وراء ظاهرة إزدياد ممارسة “الدكَّات”:
لديَّ قناعة راسخة بأن التوسع في ممارسة هذه الظاهرة والارتفاع بمقادير العنف والقسوة المرافقتين لها الى مستويات غير مسبوقة – هما فعلان ليسا عفويين ولا ينجمان عن الأسباب التي ساقها المواطنون الأبرياء أعلاه التي تشكل عوامل مساعدة ولكنها ليست هي البواعث الأساسية.
لديَّ البرهان شبه القاطع على أن بواعث ممارسة “الدكَّات” بهذا الوسع والعنف هي أفعال واعية يخططها أصحاب المصالح الكبرى في العالم والمنطقة والداخل العراقي الذين تضيرهم الديمقراطية العراقية فسعوا إلى تدميرها بالمفخخات قاعدياً ومن ثم بقطع الرؤوس داعشياً ولما باءت كلها بالفشل أتت الشعب بالطرق الناعمة ومنها الدكَّات المنفلتة المشوهة التي نحن بصددها. فلنتأمل ما يلي:
– على مدى سنين عديدة أكَّدَ شيوخ عشائر أصلاء على أن مشاكل الدكّات العشائرية لا يثيرها الشيوخ الأصلاء بل يثيرها شيوخ مزيفون سبق أن نصَّبَهم النظام البعثي الطغموي لتجاوز الشيوخ الأصلاء بهدف السيطرة على المجتمع العشائري وإخضاعه لإرادة سلطة البعث خاصة بعد إنتفاضة الربيع الشعبانية العارمة عام 1991 التي خرجت على إثرها (14) محافظة من أصل (18) من سلطة البعث وكادت تنتصر لولا خوف وغدر الأمريكيين منها وبها حيث صرح الرئيس جورج بوش الأب “شيطان معروف خير من واحد غير معروف”، والقصد واضح وذلك بعد تدخل “الزعماء” العرب لدى رئيس أمريكا محذرين من “مخاطرها”.
– شهد كثير من الشيوخ الأصلاء بأنفسهم حالات عشائرية تدخلوا فيها وحلّوها حلاً إعتيادياً درجوا عليه، وما أن تمر سوى سويعات إلا وإلتهب الموقف ثانية. وبعد التحري يبدو أن هناك من أشعلها قصداً كأنْ أغرى شباباً متحمسين أبرياء يُحشرون في الموضوع بفعل ذلك الفاعل الكائد.
لا أستطيع أن أحصر جميع شيوخ العشائر الأصلاء الكرام الذين أفادوا بهذه المعلومات في وسائل الإعلام بل أذكر عدداً منهم: الشيخ المحمداوي مسؤول لجنة العشائر في البصرة قبل عدة سنوات، الشيخ الدكتور عبود العيساوي رئيس لجنة العشائر في مجلس النواب، الشيخ عدنان الدنبوس النائب السابق وشيخ عشائر كنانة، الشيخ والحقوقي والنائب عبد الكريم عبطان وغيرهم العشرات بل المئات.
– توسّعُ أعداد الدكَّات بقدر هائل ولأتفه الأسباب وإرتفاع مستوى العنف فيها لا يأتى عفوياً ولا مجاناً بل هو فعل مدفوع الثمن، فمن يدفع هذه الأثمان؟ هل بالأموال فقط أم بالإبتزاز والمال سوية؟ ولماذا؟ هذا ما تمت الإجابة عنه في الحلقتين (2) و (3) من هذا المقال.
– هل هو مبرر معقول وحقيقي أن تزهق الأرواح لأسباب تافهة كعدم إلقاء التحية أو منع التلميذ من دخول المدرسة عند مجيئه متأخراً عن الدوام؟ أليس هو أمراً مفتعلاً؟
– نلاحظ حصول الدكّات لأسباب غير منطقية في المناطق الجنوبية والوسطى أساساً وليس في المناطق الغربية ونينوى… لماذا؟
لأن خطة التحرك التخريبي العام لغرف العمليات بأنواعها تقضي، كما هو متوقع، بتوحيد المجتمعات في المناطق الغربية ونينوى لأن النفوذ الطغموي فيها قوي رغم تلقيه ضربة إستراتيجية قاصمة بعد إعتصامات الرمادي والموصل وغيرها؛ بينما تقضي الخطة بتفرقة وتشتيت مجتمعات وعشائر الوسط والجنوب لأنها موالية للديمقراطية وفشلت معها أساليب العنف القصوى.
تمر هذه التخطيطات الواعية بسلسلة حلقات حتى تبلغ مستوى الشارع مستخدمين مواداً إبتزازية صنَّعَها صدام وجلاوزته لأهداف إبتزازية من نمط آخر ووقعت بأيدي أصحاب المصالح الكبرى وأتينا على ذلك في الجزئين (2) و (3) من المقال. الحلقات هي:
– يشخِّص وكلاء أصحاب المصالح الكبرى، وهم في غرف عملياتهم، الدكَّات كإسلوب من الأساليب العديدة جداً لتفكيك المجتمع وإرباك الأمن وذلك بناءً على توفر عناصر التنفيذ لديهم. يقوم هؤلاء الوكلاء المخططون بتحديد مناطق تنفيذ “الدكاَّت” والتوقيتات المناسبة للتنفيذ حسب المخطط العام لحركة التخريب (ماستر بلان) مع تحديد الأشخاص الذين يُرغمون تحت سطوة الإبتزاز على التنفيذ في الشارع. يستند الإبتزاز الى وثائق فلمية أو ورقية متوفرة لدى الغرف لشيوخ عشائر مزيفين صنّعهم صدام لتجاوز الشيوخ الأصلاء كما ذكرنا آنفاً.
– تُنقل هذه التشخيصات والتخطيطات الى غرفة عمليات العراق لتوزع بدورها الى غرف العمليات المناطقية (جنوب، وسط…إلخ).
– تشخص غرفةُ العمليات المناطقية (أي الخلايا النشطة والنائمة) الأشخاصَ الإرهابيين الذين يُكلفون بالإتصال بشيوخ العشائر المزيفين وتُسلِّم الغرفةُ لكل إرهابي مادةَ الإبتزاز ومبالغَ المكافئات المالية التي سوف يستخدمها مع الشيخ المزيف المُكلَّف بإبتزازه لدفعه للقيام أو إفتعال “دكَّة” واحدة أو أكثر.
(يتبع) …