السيمر / الاحد 09 . 12 . 2018
صالح الطائي
نجح العالم الغربي في تجاوز أكبر عقدتين في الوجود، فنجح فيما بعد في تشكيل رؤى جديدة مكنته من التربع على عرش التحضر والتقدم العلمي، الأولى هي نجاحه في التخلص من أسر التاريخ، والانطلاق في فضاءات اللحظة الحاضرة. ومن ثم نجاحه في تبديل وتغيير المفاهيم والمصطلحات الموروثة، ووضع مفاهيم ومصطلحات جديدة، تتماهى مع نمط حياته غير التقليدي، على خلاف باقي الشعوب الأخرى ومنها الشعوب العربية والإسلامية، ولاسيما الشعب العراقي؛ الذي يتمسك بمصطلحات ومفاهيم الموروث إلى درجة القداسة، ويقدس اللحظة التاريخية إلى درجة الجنون، حتى أنه لا يتمكن من إيجاد نفسه إلا من خلال نافذة التاريخ المفعمة بالشعارات، يطل من خلالها على دنياه الحاضرة، ليجري المقارنات والمقاربات، ليترجم حالة الأسر التاريخي التي يرفض التحرر منها، إلى درجة أنه يعتقد أن الابتعاد عنها عدة أمتار، سيلقي به في مفازة الربع الخالي بلا دليل.
لقد حاول بعض الأدباء تقليد الغرب في منهجهم التجديدي، دون أن يلتفتوا إلى هذه الجنبة، وخصوصيات الواقع، فجاء نتاجهم خديجا مهددا بالموت، ونجح غيرهم في توظيف هذه العلاقة وفق أطر كينونة الواقع لخلق واقع جديد، يسعى إلى إحداث عصف ذهني، ربما يُمكِن العربي من التمرد على قيود التاريخ، والانطلاق في عالم اللحظة. صحيح أنه أسلوب طارح للإشكالات، ولكن طالما أن له القدرة على تحويل الإشكال إلى مشكلة والمشكلة إلى صعقة مثل صعقة الكهرباء، وقدحة مثل قدحة البرق، فهو ممكن أن ينجح في إحداث التغيير الذي نسعى وراءه. فالقطيعة مع الموروث ربما تحيل المرء إلى شجرة بلا جذور تهزها أبسط النسمات، لكن الاتكاء على الموروث وترك المعاصرة يحدث هشاشة في كينونة الواقع تعرضه إلى التهشم، ولا عذر لمن يدعي أن الموروث سلبنا فرصة التقدم، واننا يجب أن نفارقه إذا أردنا أن نخلق عالما مختلفا، فأنت إذا كنت ترغب أن يكون الحاضر مختلفا عن الماضي، ادرس الماضي، مثلما يرى “سبينوزا”.
الأديب العراقي الكبير شوقي كريم حسن صاحب التجربة الأدبية الثرة، أحد الذين أبدعوا في هذا المجال، وتمكن وبجدارة من توظيف الموروث لدعم المعاصرة والتجديد، وله مؤلفات كثيرة تشهد له بذلك، جاءت عناوينها لتعلن للملأ تفاهة ما يتمسكون به؛ وهو يرى: “أنَ فشلَنا يجعلُنا نتمسكُ بأزمنةٍ كاذبةٍ، ونمجدُ أزمنةً نعرفُ جيداً إنها مجردُ عذاباتٍ لأناسٍ عاشُوها بتفاصيلِها، التأريخُ محضُ أكاذيبٍ، يصنعُها العقلُ الذي يبحثُ عن حبلِ إنجادِ، وهو يرى أيامَهُ تحاولُ إغراقِهِ في لججٍ مجنونةٍ” (ص8)، ولذا جاء بأيقونات تاريخية لينطلق من خلالها إلى دنيا الحرية، في الأقل هذا ما يصادفك عند بوابة الدخول إلى دنيا شوقي؛ التي تبدو في منتهى الفوضى، فوضى متعمدة جيء بها لتخلق عاملا إيحائيا معبرا، قد يبدو من الصعوبة بمكان أن نميز في داخله بين الصح والخطأ؛ في سعينا وراء الحلول. ومثلما يرى جيل دولوز في كتابه البرغسونية، تعريب أسامة الحاج: نحن لا نخطئ حين نعتقد بأن الصحيح والخطأ يتعلقان فقط بالحلول، لا يبتدئان إلا مع الحلول”.
إن من الحقائق التي يجب أن لا نفوتها هي ملاحظة “برغسون” التي قال فيها: “إن الإدراك والتذكار يتداخلان دائما”. ونحن عادة ندرك الأشياء حينما تكون موجودة، أما تلك التي لا تشخص أمام نواظرنا فتثير فينا الكثير من الشك والحيرة.
من هنا أعتقد أن شوقي كان يعرف ماذا يعمل، وكان يحاول أن يحسن الصنعة لكي لا ينتقدها أحد، كان يشكو تلك القيود التي تشدنا إلى الأمس إلى درجة الاستعباد: “لهذا ترانا معلقينَ بسعفِ نخيلِ الأجدادِ، ووصاياهم، والمباهاةِ بماضٍ تليدٍ يثيرُ القيءَ، ويكشفُ عن مدى سفالاتِ أولئكَ الأجدادِ الذين ارتاحوا لمرأى الدمِ، وأدمنُوا الترحالَ إليهِ” (ص7)
كان يشعر بوطأة التاريخ علينا، وبثقله الملقى على عاتقنا، يراه يحمل القيود التي يربطنا بها إليه فلا نستطيع فكاكا منه، إلى درجة اليأس من التخلص من هذه العلاقة المشوهة التي تستصغر الإنسان وتقزِّمه وتسلب كيانه: “لا أحدَ يستطيعُ الانتصارَ على ماضيهِ.. الماضي هو رباطُنا الوحيدُ في اسطبلاتِ حياتِنا الحاضرةِ.. نصهلُ .. نرفسُ الأرضَ محتجينَ، لكنَ الأرضَ تشدُنا إلى عمقِ الدمِ الذي ارتوَتهُ” (ص7).
قد تبدو الرواية مضجرة حينما يتفلسف الروائي، لكن شوقي حول الفلسفة إلى ملهاة يشتهيها القارئ، ويبحث عنها في تلافيف جمله القصيرة المترعة بالنشاط: “ولكني موقناً تمامَ الإيقانِ أني واحدٌ من أعظمِ الهاتكينَ لنورِ الأسرارِ ، والباحثينَ عن عبورٍ لابُدَ منه” (ص6) لم اجد روائيا معاصرا يتحدث بهذه اللغة التي تفتح مغاليق الرؤى على عالم من خيال جامح هده العطش يبحث عن شربة يقين تبل شفاه قلبه.
حالة العجز التي تقعد الإنسان عن السعي وراء طموحه قد تكون وليدة علاقة بينه وبين ماضيه الممتد على عمق التاريخ، وهنا يأتي الفيلسوف من خلال العبث في مناطق المسكوت عنه ليلاعب المخيال ويخترق حجب الخيال ليعيد تراتبية الفهم وفق رؤى أقل ما يقال عنها أنها مغرقة بنوع من الفلسفة المحببة، فهو يهزا ممن يبحثون عن فرص مؤاتية، ويعتقد أن المؤاتاة يخلقها الإنسان نفسه: “كلُ الفرصِ يمكنُ أَن تُسميها مؤاتيةً، أذا ما عرفتَ كيفَ تستغلُ حضورَها الشيطاني. مخيلتُكَ التي أعطبَتها الحروبُ، والبارا تُ، والسياسةُ ، والأغاني التي تبعثُ على اليأسِ” (ص7).
شوقي لا يسير على الإسفلت ليصل إلى حي أو مدينة جغرافية، بل يأخذ بيد القارئ إلى عمق الموروث، إلى “طرقاتٌ موحشةٌ تمتدُ إلى عمقِ الأجدادِ”(ص6) ليريه فقط أنه أفضل منهم بالرغم من المعاناة التي يعيشها، والمشكلات الزائفة المحيطة به، يرى جيل دولوز أن المشكلات الزائفة نوعان: مشكلات غير موجودة، تتحدد بكون عناصرها بالذات إنما تستتبع خلطا بين الـ(مع) والـ(إلا) ومشكلات أسيء طرحها.
تجدر الملاحظة هنا أنه حتى على المستوى الأكاديمي هنالك تمييز بين العلوم الإنسانية، (المقصود بها الفطرية)، والعلوم الاجتماعية (المقصود بها الاكتسابية)، ويرى “جان بياجيه”: أن هذا التمييز لا يكون له معنى إلا إذا تمكنا من أن نفصل لدى الإنسان ما يتصل بتكوين طبيعته بوجه عام، وما يتصل بمجتمعه بوجه خاص. وأولئك الذين يسعون إلى الفصل بين رؤية الروائي الفنية ورؤيته الاجتماعية فاتهم أن المادة في طبيعتها واحدة، أما ما يفسر تنوع الموجودات واختلافها فهي حركة الأجزاء المكونة للمادة وحجمها وهيئتها وترتيبها مثلما يرى “ديكارت”.
إن الموضوع برمته يحتاج إلى نوع من الجرأة الوقحة، جرأة تبيح لك أن تتحدث عما تراه في الآخرين، ولا يرونه هم في أنفسهم، فنحن يمكننا أن نرى بسهولة في الآخرين ما لا نهتم أو نجرؤ على رؤيته في أنفسنا؛ مثلما قال “أوليفر ساكس”. من هنا قد تكون جملا مثل: (كلُ ما أطلبُهُ، مساعدةُ فشلي على النهوضِ) و(دعينا ندخلُ المعبدَ سويةً، نرتلُ ما تيسرَ من آياتِ رِضانا، حتى وأن كانَت كاذبةً) و(منذُ زمنٍ طويل، وأنا أربي اللحظاتِ في برجِ أفكارِي، أدارِيها، أمنحُها الأمنَ، والطمأنينةَ ، وألونُ ريشَها بأعذبِ ألوانِ الحناجرِ، ولكنها بغفلةٍ تفتحُ بابَ البرجِ، وتغادر) و(التفريطُ بمجنونٍ مثلي، لا يمنحُ الحياةَ سوى الكثيرِ من السوادِ ، والخيبةِ ، الشعراءُ والمجانينُ هم آياتُ خلقِ البياضِ الذي يمنحُ الاستمرارَ) و(الاختيارُ صعبٌ.. والوعي بهذا الاختيارِ هو المحنةُ التي يجبُ اجتيازَها لا تتصور إني راضٍ عن كلِ تلكَ الابتكاراتِ التي تثيُر دهشةَ الجميعِ ، لعبةً أمارسُها من أجلِ تحطيمِ تلكَ الأصنامِ التي لا أجدُ لها ثمةَ ضرورةٍ في حياتِنا) و(حاولتُ مراراً أن أقنعَ نفسي بضرورةِ تجاوزُ السؤالِ باتجاه الإجاباتِ فأعطانِي الارتباك، وسامَ الفشلِ) [ص9ـ10]، ومئات غيرها تمتد على طول صفحات الرواية، أحد أهم المؤشرات على نمط النَفَس الفلسفي الذي ينهجه شوقي في رواياته، وهو نمط يصعب العثور عليه بمثل هذه الكثافة المفرطة لدى الآخرين من كتاب الرواية لا العراقيين وحدهم بل والعرب أيضا، فقبالة هذا الكم من رمزية الفلسفة تجد لدى روائيين مشهورين أضغاث كلام خال من الدهشة على خلاف شوقي الذي لا يقدم كلمته إلى القارئ إلا بعد أن يعريها كليا ليتيح له النظر إلى أبعادها غير المرئية!
لقد تطبع الناس على الكلام، واصبح الكلام أحد اهم ركائز العلاقات الإنسانية، ولكنه حينما يخرج عن طوره، يتحول إلى معول هدام يقوض العلاقة بين البشر أو يستثير غريزيتها العدوانية، من هنا يرى “سبينوزا” أن العالم سيكون مكانا أسعد، لو امتلك الناس قدرة على الصمت بنفس قدرتهم على الكلام. وقد تأتي الروايات كأداة تشد القارئ إليها لكي يقرأ ويتوقف عن الكلام. وهي ليست دعوة للصمت الأبدي وإنما محاولة لاستثارة الغرائز، يعتقد “جيل دولوز” أننا حين نسأل: لماذا شيء ما أفضل من لا شيء؟ أو لماذا النظام بدلا من الفوضى؟ أو لماذا هذا بدلا من ذاك ـ ذاك الذي كان ممكنا أيضا؟ نقع في العيب نفسه، نخلط بين الزائد والناقص، نتصرف كما لو أن اللاوجود كان قائما قبل الوجود، والفوضى قبل النظام، والممكن قبل المستحيل.
لقد حاول شوقي أدلجة أطراس الحديث لتخرج عن طور المألوف إلى الإدهاش العميق بعيدا عن سباتية الوصف الفوضوي الثقيل الذي يشعرك بالملل، فأنت لابد وأن تشعر بجمل مثل: “والروحُ تنظرُ إلى امتداد الدربِ علَها تلمحُ مشيتَكَ المتعثرةَ .. لا يمكنُ أن نبقى هكذا.. ترممُ أوصالي ، وتتوضأُ بمكرِ إبنِ آوى بضوءِ صمتي الذي لا يستقرُ عندَ تلكَ اللحظاتِ المأبونةِ” (ص12) و “كلُ ما أطلبُهُ بعضاً من خمرِ الأملِ .. وأغنيةً تحاولُ تدجينَ طائرِ الروحِ الغاضبِ” (ص12) تدغدغ تلافيف دماغك كقط يحد مخالبه متحفزا للهجوم على فريسة يعرف أنها صعبة المراس!
في أغلب رواياته يحاول شوقي التحرش بالموروث الديني، وربما الإيحاء إلى أن الإنسان ليس ابن الإله، بل ابن الحرب، ربما لأن الإنسان لا يوجد إلا بعد حرب ساخنة بين رجل وامرأة في لحظات بوهيمية غير واضحة الملامح، وفي اللحظة التي يوجد فيها، يشهر سيفه محاولا فك قيود أسر يمتد إلى تسعة أشهر، وحينما يتحرر ويخرج إلى الشمس، يجد المحيطين به يبحثون عن غاياتهم من خلاله، مما يكلفه خوض حرب أخرى، وتستمر حروبه إلى أن يجردوه من سيفه ودرعه ورمحه ليهيئوه إلى الرحيل الأبدي، وهو ما وصفه شوقي بقوله: “لا أحدَ يستطيعُ القضاءَ على الألمِ أو الشيخوخةِ، واحتضارِ الموتِ، إننا هنا من أجلِ أن نفقدَ حضارةَ أرواحِنا .. هذا ديدنُ الحروبِ”(ص15).
ويرى شوقي أن وجوده في عالم المحسوس الدنيوي أكثر صدقا من تلك الصور المتخيلة عن العالم الافتراضي الآخر الذي سنذهب إليه، ولذا قال: “لا معنى لحياةٍ لا تهمُني بشيءٍ ولا أريد أن أتوغل داخلَ تلكَ الصورِ المتخيلةِ .. الواقعُ ما يهمُني… تلكَ الأنهارِ المملؤةِ خمراً والجميلاتُ الباذخاتُ بالرغبةِ لا أحتاجُ إليهنَ … كلُ ما احتاجَهُ العودةَ من حيثُ أتيتُ لحقيقةِ وجودي ووجودِكَ”(ص16).
من هنا قد يرى البعض أن المضمون الروائي لشوقي يحاول تغريب النص الديني وربما الهزء به ولو من طرف خفي، لانضواء رواياته على كم كبير من المفردات والإيحاءات والإشارات الإلحادية أو القريبة منها مضمونا، إن هذه الملاحظة لا يمكن أن تصدق بالمرة، ولا تصدقوا أن فردا ولد وترع في بيئة شعبية فقيرة بسيطة، يملك الجرأة ليتحدى عظمة الإله، فهذا المخلوق حتى في أشد لحظات تمرده تجد في داخله خوفا خفيا لا يعرف كنهه غيره، إن كان سابتا نهارا ولا يتبين ملامحه الآخرون، فإنه يتغول ليلا ليتحول إلى قلق يقض المضاجع، والإنسان يتجنب مواطن القلق عادة ليهنأ بساعات هدوء.
إن أسلوب التهكم بالعقائد ليس جديدا، فهو تاريخي بامتياز، ولكن غاياته تختلف من مرحلة إلى أخرى. وبرأيي لم يكن أفلاطون متجنيا عندما قال: “كل إنسان مسؤول عن مصيره” فهو حينما روى مغامرات (الأرمني) في الكتاب العاشر من الجمهورية، أراد أن يقول: إن كل إنسان مسؤول عن اختياراته، والآلهة لا دخل لها… الله برئ، ونحن نكون قدرنا” وهذه وإن كانت قد صيغت بأسلوب جريء إلا أنها تشير في معناها إلى حقيقة دينية، قال تعالى عنها: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} وقال رسول الله عنها: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”.
هكذا هو شوقي، حاول أخذ بعض الحقائق الدينية اليقينية، ثم أعاد صياغتها على لسان أبطال رواياته بأسلوبه الجريء، فبدت وكأنها استهزاء باليقين الديني، أما الغاية من ذلك فهي محاولة قريبة من منهج ماركس الذي سعى عبر رؤاه إلى القضاء على الطبقية في المجتمع. لقد تحولت هذه الرؤى إلى فكر أخلاقي معاصر يعتبره المجتمع حقا مكتسبا من ضمن الحريات الأساسية التي أسس لها سبينوزا في كتابه اللاهوتي السياسي، من خلال قوله: “إن العدالة تعتبر الأشخاص متساوين، وتصون بالتساوي حق كل واحد منهم” وهي فكرة المشاركة المتساوية في الحقوق الأساسية التي دعا إليه جان جاك روسو في “العقد الاجتماعي”. إن من العدالة والإنصاف أن نتقبل رؤى المحيطين بنا أو في الأقل نكف عن انتقادها في ذات الوقت الذي نتقبل فيه رؤى الآخرين ونعتبرها من المسلمات ونحولها إلى مناهج علمية في مؤسساتنا التعليمية. ومن هنا بدا شوقي متمردا على المعتقد الديني! ولكنه أذكى من أن يدعي العداء مع الدين أو يدعو إلى مواجهتهن فالعلاقة بين الإنسان والدين ليست بتلك السذاجة التي يراها البعض، وهي على مدى تاريخ الإنسانية كانت ثيمة كاملة الوضوح، ليس بمقدور أحد إنكار حقيقتها، وهو الأمر الذي استدعى الحكماء والفلاسفة إلى التأكيد على تلك الرابطة الغريبة بأقوال فيها الكثير من الحدية المفرطة، ليقول ” شيشرون”: “ليس من أمة مهما توغلت في التوحش، إلا ولها إله تعبده حتى ولو جهلت من تعبده”. ويقول “سينيكا”: “فكرة الاله فطرة في الجميع حتى أنه لا يوجد شعب، مهما خلا من الشرائع والأخلاق أن يخلو من الإيمان بإله. ويقول “فولتير”: “اذا ساْلنا زرادشت وسولون وسقراط وشيشرون نجدهم قد عبدوا سيدا وقاضيا وأباً. فهذه العبارة ضرورية للإنسان، وهي للألفة رباط مقدس، وللعدل أساس وطيد، وللشر لجام كابح، وللخير رجاء صالح. ولو لم يكن هذا الاله موجوداً لدعت الضرورة إلى أن يُختَرَع وجوده.
يرى بعض المتخصصين بعلم النفس أن الإنسان مجبول على الخوف، ولاسيما الخوف من المجهول، وقد انتبه شوقي لهذه الجنبة فهو من جهة جاء بعبارات تدل على شجاعة متطرفة، فالشجاعة ألوان وأنواع وأكثرها تطرفا هي أن يتساوى الموت مع الحياة في قلب إنسان، وهذا ما قال عنه: “دعنا نغادرُ المكانَ مادامَ الموتُ يشبهُ الموتَ واللحظةُ تشبهُ اللحظةَ”(ص17) لكنه في محطات أخرى أراد أن يبين أنه مثل غيره من البشر يحب الحياة مثلما يحبونها، ويخاف عليها مثلما يخافون، إلى درجة أنه يرفض الولوج إلى المجهول دون أن تأخذه قشعريرة الخوف فترتعد أوصاله، وهي السمة التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وهو ما قال عنه: “الأبوابُ تخيفُني لأنها تشكلُ مجهولاً مفزعاً بالنسبةِ لي”(ص51) لكن ذلك لا يعني أكثر من لحظة تردد دافعها التحرز والبحث عن موطئ القدم بدل أن يلقي بها العبث حيث لا ترغب، فالتحدي من سمات شوقي، تجده ماثلا في كثير من أقوال أبطاله التي هي أقواله وسيرته: “الخيارُ الوحيدُ الذي كانَ يلوحُ بكلتا يديهِ أمامي، هو أن تمتدَ أصابعي الأوهن من ورقِ الخسِ لتطرقَ بابَ المجهولِ”(ص52) فثمة روح مجازفة تقبع هناك في أعماقه، تدفعه دائما إلى تقحم النقاط الأشد خطورة بحثا عن الذات: “علمَتني الليالي إنَ أجملَ ما يمكنُ لكائنٍ مثلي أن يعيشَهُ، هي تلكَ الرفساتِ البريئةِ التي تحاولُ اختراقَ ظلمتِها من أجلِ الوصولِ الى بوابةِ ضوءٍ لا تعرفُ الى أينَ تتجهُ به”(ص53).
إن هذا التناقض الغريب الذي يبدو محشوا بالتردد والمغامرة والطيش، ينهار أمامك مثل تل من رمال حينما تستمع إلى صراخ شوقي الذي يعترف من خلاله على معلمه الأوحد وكأنه معتقل برئ يقف معصوب العينين واليدين أمام محقق مديرية الأمن العامة: “علمَتني الليالي إنَ أجملَ ما يمكنُ لكائنٍ مثلي ان يعيشَهُ ، هي تلكَ الرفساتِ البريئةِ التي تحاولُ اختراقَ ظلمتِها من أجلِ الوصولِ الى بوابةِ ضوءٍ لا تعرفُ الى أينَ تتجهُ به”(ص56) وهذا ليس تصنعا، فالذين عاشوا بين الأزقة والشوارع والسواتر حيث يتصارع الفقر والفضيلة، كل منهما يريد أن ينتصر، لا يخرجون من الحياة بأقل من حملة الشهادات العليا إدراكا للحقيقة، بل قد يتفوقون عليهم لأن المعاناة تسهم في تطبيع الإنسان على معايشة كل الظروف، مثلما لم يفعل أي إنسان آخر: “أحاولُ ارتداءَ حرارةَ الأيامِ التي عشتُها بين الأزقةِ والشوارعِ والسواترِ هناكَ، لكني لا أجدُ غيرَ بقايا رمادٍ، وخرقٍ باليةٍ، ومعابدٍ لا تفوهُ بشيءٍ، الرؤيا في لحظاتٍ كهذهِ لا تتضحُ أبداً، تتبدلُ عندَ أولِ خطوةٍ تخطوها”(ص61).
إن الصراع المرير الذي عاشه جيل النصف الثاني من القرن العشرين من العراقيين، جعل صروح الفلسفة تتهاوى أمام عظمة خلودهم الجريء، لترتشف من ريق تجربتهم دروسا تغنيها حينا من الدهر، فهم جازفوا بخوض تجربة التجديد، لا تنصلا عن حمل الأمانة، وإنما رفضا للحمل الثقيل الذي ألقته الأمانة على ظهورهم دون أن تقدم لهم شيئا ينفعهم في تجربتهم الحياتية: “المحنةُ أن تمحوَ كلَ ما تنتمي إليهِ، محاولاً تشييدُ ذكرياتٍ جديدةً”(ص60) لذا أرى أن من حق هذا الجيل أن يكون وصيا على من جاء بعده، لا بالشكل القسري الإكراهي المتداول، بل من خلال بث الحكمة عبر كلمات جميلة لتولد محملة بوصايا العشق والحياة، وتستقبل بفرح مثل أي وليد طبيعي آخر، فالإنسان لا يمكن أن يتماهى مع إنسانيته إلا من خلال الحكمة:
إياكَ وأن تحني رأسَكَ ..
• ظِل مثلَ نخلةٍ لا تنكسرُ
• واصنع من يديكَ جناحينِ لتحلقَ بهما إلى حيثُ تشاءُ..
• لا تغسل وجهَكَ بغيرِ عسلِ الابتسامِ
• وأمنح عينيكَ ضوءَ كلِ الاشتهاءاتِ التي يمكنُ لكَ أن تنسجَ خيوطَها حولَ غموضِكَ الباعثِ على السؤالِ…
• إياكَ والصمتَ عندَ خرائبِ الإجابات لأنَ الإجابات سرُ معارفٍ عاطلةٍ..
• ذكورةٌ ميتةٌ لا تمنحُكَ غيرَ العجزِ والفشلِ..
• انغمس ما استطعتَ في بحارِ الأسئلةِ الحارةِ الدسمةِ…
• وحاذر… حاذر أينما أخذَتكَ الأرضُ أن تستسلمَ لوجعٍ، أو تمنحَ نفسَكَ لأنثى تعلمُكَ الاستسلامَ!! (ص62).
ولا أدري كيف سيتمكن الإنسان من إشهار إنسانيته أمام الناس دون أن يعمل وفق قواعد هذه الفلسفة التي تعلم الإنسان كيف يعيش حياته دون أن يسمح لأحد أن يصادر منه حريته! وشوقي هو الآخر لا يدري كيف، ولذا تجده يتساءل بحرقة: “لا تعرفُ لِكَم أحبُ تلكَ اللحظاتِ التي تمنحُني بعضَ إنسانيتي، لديَ الكثيرُ مما أقصُهُ، وأحكيهُ، وأتقيئُهُ، وأبوحُ بِهِ، وأمارسُهُ بجنونِ الغاطسِ، الباحثِ عن منقذٍ”(ص63). إذ يرى شوقي أن السكون يجعل الفكر مترهلا لا يصلح لشيء: “تتناهبُني أمواجُ السيرِ إلى حيثُ يمكنُ لي أن أحقق بعضَ من آمالي”(ص67). فكم هو محزن أن “أتلمسُ بعضي، فلا أجدُ غيرَ أحلامٍ شبهِ ميتةٍ”(ص67) هكذا ينظر شوقي إلى نفسه، تماما مثل من ينظر من ثقب باب قديم، عششت فيه العناكب منذ زمن نوح، لأنه اعتقد أن “الروحُ التي كانَت تقاومُ الأغراءَ، انغمسَت في بركِ التمنياتِ والأحلامِ”(ص69) هكذا هو يبحث عن سعادة الآخرين ليفقد الكثير من سعادته، يقول “إريك هوفر”: “البحث عن السعادة أحد مصادر عدم السعادة”.
إن من خفايا رواية “قنزة ونزة” التي نمارس طقوس قراءتها الآن بصمت جنائزي، أنها تبدو متمردة على الأفكار التقليدية: الدينية والسياسية والاجتماعية وحتى الأخلاقية، لكنها لمن يفهم غورها، جاءت لتؤدلج كل هذه المسميات وفق التطويع الواقعي للخبر الروائي، ففي الحديث الشريف: “لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان”. قد يمر حتى دون أن تتنبه إلى تحذيراته، لكن حينما يتطوع الأديب ليرسم تلك الصورة وفق رؤى أدبية محشورة بعناية، سوف يستهوي القارئ الفطن إلى التفكر بالموضوع من زاوية أخرى، ولذا نجده يترجم الحديث إلى لغة أدبية، فيقول: “مخبولٌ من يجدُ أنثى تقاسمُهُ المكانَ تحتَ ظلِ شجرةٍ دونما رقيبٍ ولا تزحفُ أفاعيهِ صوبَ أعماقِها… ما الذي يجسدُ الرجولةَ حينئذٍ… وما الذي يجسدُ الأنوثةَ أيضاً”(ص78). وهذا لا يعني أنه يستهين بقدسية الحديث بقدر تطوعه لإيصال الحديث وفق رؤية حداثوية قد تبدو مفعمة بالتمرد، في الأقل أرى أني فهمت الموضوع وفق هذه الرؤية!. فشوقي رجل صاحب إرادة قوية ويرى “شوبنهور” أن الإرادة تخلق عددا لا نهائيا من الطبائع المعقولة”.
تكررت هذه الصورة في مكان آخر من الرواية ضمن جملة: “الأنثى التي تتعودُ تلويثَ جسدِها عن قصدِ الخيانةِ، وعدمِ الاحترامِ، أنثى بالنسبة ليّ لا تستحقُ الحياةَ… الجسدُ هبةٌ رائعةٌ لا يجبُ أن يشبهَ أرضاً تداسُ كلَ هنيهةِ وقتٍ” (ص171) فكم من آية وكم من حديث نهيا عن الزنا وعن تنازل المرأة عن قدسيتها من أجل متعة زائلة، وهي النصوص التي وظفها شوقي، ونجح في ذلك. فالذي أراه ان شوقي يؤمن بما قاله “تشارلز كينجزلي”: “اجعلها عادة كل ليلة ألا تنام إلا إذا استطعت أن تجعل شخصا واحدا ممن قابلت ذلك اليوم: أحكم، أو أسعد، أو أفضل”
إن سؤالا مثل: (ما الذي يمكنُ أن افعلَهُ الآنَ) حينما يتكرر وكأنه يستفز القارئ، فهو ما سيفاجئه ما إن يدخل إلى المناطق المظلمة، لينتصب أمامه غولا من قصص ألف ليلة وليلة، وهذا ينبيك بالجهد الذي بذله شوقي عند صياغته لأفكار تلك الرواية، فالرواية ليست مجرد سرد أدبي للإمتاع والإدهاش، كلا، الرواية رؤية فلسفية تحاول تبسيط الأمور طالما أنها مكتوبة للجميع، ومن حق الجميع استباحة أجوائها! فالرجل بالرغم من مسحة التحرر البادية على أسلوبه في الكتابة واشتغالاته الأدبية الأخرى، يحمل في أعماق ذكرياته رؤى عاش أجوائها ردحا من الزمن الجميل، وهذا ما صوره عن مرافقته لعمته حينما كان صغيرا لزيارة مرقد الإمام علي بن أبي طالب، بقول: “حينَ تكمشُ أصابعي لمعانَ الفضةِ، تنهارُ كلُ الحكاياتِ التي أدمنتُ سماعَها، أجدُ ثمةَ رفساتٍ تهدمُ جدرانَ وحدتِي، رفساتٌ تتكررُ، وأيادٍ تمسحُ جبهةَ المواساةِ، وحدي أقتعدُ الأرضَ، أقتعدُ لحظاتِ انبهاري، طاردةً كلَ المخاوفِ، والآلامِ، والوحشةِ أسمعُهُ يهمسُ في أذني لا تجعلي الظلامَ خيارَكِ”(ص80). وهذا هو الرجع.. الصدى الأزلي، يكرر نفسه كدفقات بركان شبه خامد، تنطلق بين حين وآخر لتعلن أن في البركان الذي يبدو ميتا، لا زالت ثمة حياة! إنه الإصرار الباعث على التحدي، قال “فان كوخ”: “اذا سمعت صوتا بداخلك يقول: انك لا تستطيع الرسم، فهذا يعني: ارسم وسيصمت ذلك الصوت بداخلك للأبد”
أما شخصية نابليون التي تمتد على طول الرواية فهي مجرد اقتباس لشخصية الكاتب نفسه، فنابليون هو شوقي، ويتحدث على لسان شوقي، وينقل أفكاره ورؤاه واعتقاداته، لكن دون أن يؤثر ذلك على سير أحداث الرواية؛ التي كان نابليون أحد شخوصها الفاعلة، أما الفلسفة الثورية التي يحملها فهي الدعوة إلى الضحك رغم المعاناة: “الناسُ رغمُ أحزانِهم يضحكونَ لتبديدَ المحنةِ”(ص182) فالحياة تحد لا حدود له، ولا يمكن إيقاف زخمه، والتحديات سلبتنا الكثير من أحلامنا، ولكن: “يا لَها من تحدياتٍ حولَت إنسانيتَنا إلى هذياناتٍ”(ص182). وهذا تمثيل رائع لحالة الحرب التي يعيشها الإنسان مع الموجودات الأخرى حتى وإن لم تكن هناك إشارات إلى وجود هذه الحرب على أرض الواقع، يقول “سبينوزا”: “إن غياب الحرب لا يعني السلام”.
إن “ويليام فيذر” حينما قال: “الكثير من الناس يضيعون نصيبهم من السعادة، ليس لأنهم لم يجدوها، ولكن لأنهم لم يتوقفوا للاستمتاع بها” أوحى لشوقي أن يتولى مهمة إيقاف الناس ليستمعوا لسعادتهم المرتقبة، ويستمتعوا بأوقاتهم، فالإنسان على رأي “أوليفر ساكس” لا يشعر بالوحدة أبدا عندما يكون مستمتعا بوقته.