السيمر / الخميس 10 . 01 . 2019
جاسم العايف
ترجم هذا الكتاب ، ونشر في أكثر من عاصمة عربية ، وألهب الخيال لسنوات مضت ، وإذ يعاد طبعه من قبل دار(المدى )* ، فلا يعني ، ذلك حثّاً للخيال ، قدر ما يعني استعادة ذلك الموقف والمصير الإنساني الفاجع والمؤرق ، الذي يتشابه كثيراً مع مصائر مئات الآلاف من العراقيين المغدورين والعراقيات أيضاً، كما و يتشابه فيه القتلة كذلك ، بغض النظر عن الزمان والمكان . فإذا كان الفاشست قد سلبوا حياة (يوليوس فوتشيك ) الصحفي والقاص و الفنان ، فان ورثتهم وفي زمن عشناه وعاشه غيرنا ولازال ممتداً ، منذ إعصار 8 شباط 1963 و فواجعه الدموية ، فأنهم قاموا ويقومون بذات الأفعال أو بالأدق تجاوزوها كثيراً ، وهم الورثة بلا منازع لكل ما هو دنيء وخسيس ومهين في التاريخ. فإذا كانت ( جوستافو تشيكلوفا ) زوجة ( فوتشيك ) ظلت تبحث طويلاً عن جثة زوجها ، بلا جدوى ، فإن الآلاف من العراقيات والعراقيين ، لا زالوا حتى اللحظة يسعون للبحث وبكل الوسائل المتاحة في كل مدن وقصبات العراق التي تطفو على المقابـر الجماعية ، و سيظل سجلها مفتوحاً ولن يغلق قطعاً ، ولم يجدوا غير بقايا عظام بشرية مفتتة ، وجماجم لأطفال رضع وصبيان وشباب وشابات وعجائز وشيوخ، ثقبها رصاص الموت الصدامي، وحل بدلا عنه ، في سنوات قريبة جداً منا رصاص القتل أو الذبح وبالتلازم مع الحقد الديني- الطائفي – السياسي ،على مجرد الاسم، الذي يحمله الإنسان دون اختيار منه، أو منطقة السكن، وبعضه لا زال مستمراً للقصاص من العراقيين دون ذنوب أو آثام وحتى خطايا. والقليل من أولئك العراقيين المنقبين والمنقبـات مَنْ حالفه الحظ حينما فاز أو سيفوز ، بعلامة باقية ـ صدفة ـ من عزيز أو حبيب ، ابن أو أخ ، زوج أو أب ، صديق أو رفيق. في شوارع (براغ) عام1943 ، يسرع رئيس تحرير صحيفتــي (رودي برافو ) و (تفوريا ) ، القائد الشيوعي، الشاب (يوليوس فوتشيك ) متخفيــاً بهيئـة ، عجـوز أعـرج ، ليدخـل منزل صديقه الحميم ( جيلينيك ) حيث الأصدقاء والصديقات، والرفيقات والرفاق ، وينغمر معهم في بهجة الصداقة و الوفاء ، والعمل السري والتحدي ، وقبل مغادرته تصرُّ ربة المنزل على أن يشرب الشاي النادر في ذلك الوقـــت ، ليطــرد عن جســده النحيــل برودة وصقيع( براغ)، عندها يقتحم (الفاشست) المنزل. كان بإمكانه المقاومة وإطلاق النار من مسدسه ،أو حتى الانتحار، إلا انه نظر لأطفال العائلة ، والذين سيقتلون عند أي بادرة منه للمقاومة ، وإزاء صراخ ورعب الأطفال والنساء ، قرر الاستسلام . لم يكشف عن هويته الحقيقية ، وهو المطارد والمتخفي بهوية منتحلة ،ولكن أنى لهم اكتشافها؟. قاموا بتعذيبه ، فلم يتمكنوا منه واستمروا طويلا في ذلك ، وبكل الوسائل :”هل انتشر النور أم ما زالت الظلمة جاثمة ؟. لم تجب النوافذ ، والموت يأبى القدوم حتى الآن.. فالضربات تسقط الآن متقطعة ، ما بين فترات طويلة ، وما عاد الأمر سوى روتين” ، وبعد أيام متصلة بالليالي ، مغلفة بالوحشة والآلام والتعذيب بحده الأقصى: ” لقد استغرقت طويلاً أيها الموت حتى تأتي” . في لحظـــات الصفــاء الإنساني والتقــاط الأنفــاس المغلف بالكبــرياء والتحدي ، وبصدق المصير الشخصي الفاجع ،يتوجه (فوتشيك ) إلى والدته ووالده ، وزوجته وابنته ، ورفاقه ، وكل معارفه ، بأن لا يرتبط الحزن لديهم بمصيره وباسمه : “إذا كنتم تعتقدون أن بوسع الدموع أن تغسل تراب الأسى ، فلتبكوا إذن ، ولكن لبرهة لا غير ، ولسوف تسيئون لي لو وضعتم ملاك الحزن والأسف على قبري”. مع تواصل التعذيب ، يعتقدون انه انتهى (فتكرموا ) عليه بشهادة الوفاة؟!. وحينما فحصه طبيبهم ، مزّق الشهادة مؤكدا لفرق التعذيب: “أن له روح حصان”!!. بعد أسابيع ، غدا هيكلاً عظمياً ناتئاً وحين قدموا له حساء يوم الأحد لم يستطع تناوله :” ذلك أن لثتي التي سُحقت تماماً ، لا تمكنني من مضغه ، وبلعومي يرفض ابتلاع أية لقمة مهما كانت لينة”!؟. في ليل المعتقل ، وفي وحشة الزنزانة الانفرادية وبردها ، وإزاء محاولتهم تدمير جسدك ، ودحرك بضعفه ورهافته ، مَنْ ترى سيناجيك..!؟ ليغدوَ نديمك.. قوة الروح .. نداء الحرية العذب والتي لا أسوار أو حدود لها، أم بوحها العلني والخفي تارةً ، مَن غيرهما ومَنْ سيقدم إليك ويناديك..!؟. سجان فاشستي((ببدلةS – S ))؟. أم صاحب البدلة الزيتوني ، ومسدسه ((طارق))؟. أم المخبر السري؟. أم الملثم الطائفي وكاتمه ؟. أم الموت الذي لا بدلة أولون له؟.بعد يأسهم منه تماماً ، حُمل على نقالة إلى مكان أسوأ ، نحو قصــر (بينسيك ) ، شبيهه (قصر النهاية )، الذي تناسلت في العراق ، منه أماكن عدة ولا حصر لها. كان مطوقاً بالحرس والبنادق ، والمسدسات. في أوراقه التي هرّبها من السجن ، والتي غدت مادة الكتاب ، يخاطب ( فوتشيك ) الذين سيجتازون المحنة ، ويطالبهم بعدم النسيان وجمع بيانات الضحايا ، لأن الحاضر سيكون ذكرى ، وان كل الضحايا بشر لهم أسماء وقسمات وآمال وأحلام وتطلعات إنسانية مشروعة وبسيطة جداً. وقبل النهاية يكتب وصيته : ” لم املك غير مكتبتي ، وهذه دمرها الفاشيست”. ويتحدث عما كتب في السياسة وعن دراساته في الأدب والفن والمسرح وقصصه ومخطوطاتها التي صودرت ، ثم يتوجــه بحب كبيــر للشاعــر التشيكي اللامع (جان نيــرودا)، مع اختلافه فكرياً معه ، ويرجو المؤرخ الأدبي والذي سيأتــي، حتماً، في المستقبــل : ” أوصي بمحبتي لـ ( جان نيرودا) انه أعظم شعرائنا ممن ظلوا يستشرفون المستقبل أبعد منا”. ويكتب بحس إنساني وفني متألق عن تفاصيل كبيرة وصغيرة ، عـن حياة السجن والسجناء ، والرفيقات ، والرفاق ، وعن السامري، و الشمام ، وكوكلار ، وروسلر ، و ( هذا ) وعن (أنجيليكا ) والتي كانت تعمل خادمة في يوم ما ، وظلت تتمتع بالأناقة والبهاء والتألق والصفاء ،حتى وهي تسيرُ فجر يوم ربيعي إلى الشنق حتى الموت ، ومدير السجن الوحش ونقيضه ، الأب ( سكوبا ) التقي الطاهر الورع ، الذي مرت بين يديه وعبر رداءه الكهنوتي مئات الرسائل السرية ، التي لم تُكتشف والذي يعرف كيف ومتى وأين يبث العزيمة والصلابة وتستطيع نظراته الأبوية المُخلصة ، الصادقة ، العميقة ، الحانية ، أن تمنح القوة والعناد ، أنساناً ما يوشك أن ينهار من اليأس ، والذي يدرك ذلك ويعرفه برهافة حسّه وخبرته. عندما يوقــن ( فوتشيك ) أنهـم غــداً ، ومـع الفجر سيعدمونه، يكتب:” أقترب دوري من نهايته ، هذه النهايــة ، لم اكتبها بعــد وهو أمر لا اعرفه تمامــاً ، لم يعد دوراً ، بل الحيــاة ، وفي الحياة ليس هناك متفرجون .. الستارة تنسدل .. أيهــا الناس .. لقد أحببتكم .. كونـوا يقظين”!!. *ترجمه مصطفى عبود – وقدم له فخري كريم- عام 1978 – منشورات دار الرواد- بغداد ، وتم توصيفه تحت مسمى ((ريبورتاج)). بعدها مباشرة غادر (مصطفى) العراق ، وأستقر في براغ ، ثم توفى ودفن فيها بتاريخ 30 تشرين الثاني 1985. منذ أواسط الخمسينيات عرف بمساهماته الجادة في المشهد الاجتماعي – الثقافي العراقي, وبعد 8 شباط 1963 أمضى سنوات في (نقرة السلمان). وتميز بنشاطه الثقافي المتنوع بعد الربع الأول من عقد السبعينيات. ترجم ونشر في دمشق عام 1981 (عاصفة الاوراق ) لـ(ماركيز)، وترجم كذلك (حول الدور القيادي للماركسية.. في السياسة الثقافية ) لـ(جورجي اتزل ) – منشورات مركز الابحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي.