الرئيسية / ثقافة وادب / شلال عنوز شاعر الكلمة الأنيقة سفر في عمق مراحل الذات

شلال عنوز شاعر الكلمة الأنيقة سفر في عمق مراحل الذات

السيمر / فيينا / الاحد 07 . 07 . 2019

د . صالح الطائي

تمتاز مناطقنا الريفية بأنها لا زالت تحمل كماً يفوق الخيال من الطيبة والعذوبة والكرم، تلك الصفات التي تنتقل مع من يخرج من قوقعة الريف إلى عالم المدينة الرحب المفتوح، فيبقى متمسكا بها، وكانه يريد التأكيد على أصوله التي فارقها، بل يعمد أحيانا إلى التصريح بها من خلال قول أو موقف، لكي يراها الآخرون في منهج حياته، فكيف إذا ما كانت تلك الصحائف البيضاء مطرزة برائحة العنبر وعبير الأرض الطيبة؟

المرحلة الأولى

وصديقنا الرائع والمبدع الأديب الحقوقي الأستاذ شلال الشاعر، واحد ممن تعفرت أرواحهم بعبق العنبر وطين الفرات، من أصول نجفية، ولد في غماس ونشأ وترعرع فيها، وغماس لمن لا يعرفها مدينة وناحية من نواحي محافظة الديوانية تتبع إداريا قضاء الشامية، يبلغ عدد سكانها نحوا من 140 الف نسمة، وهي تقع على طريق الديوانية – النجف، وتبعد عن مركز المحافظة بحدود 57 كم، وتشتهر بالزراعة ولاسيما زراعة محاصيل رز العنبر والقمح والتمور, ويقال: إنها سميت بهذا الاسم (غماس) لأنها كانت في الأزمان الساحقة مغموسة بالمياه.

غماس هذه ليست مدينة مستحدثة، فهي تحمل عبق التاريخ، وكانت بحدود سنة أربعمائة للميلاد من ضمن اراضي الحيرة في زمن النعمان بن المنذر، وهي تعود إلى ما قبل ذلك التاريخ بزمن طويل، وهو ما اثبتته المواقع الاثارية التي يبلغ عددها بحدود الستة والثلاثين موقعاً وتلاً، والتي يعود تاريخها الى ما قبل حكم المناذرة، ولا زالت تطرز وجه المدينة بالأصالة.

غِنى عطرَ العنبرِ، وعذوبةَ المياهِ، وسحرَ اهازيجَ الفلاحين، وهوسات المهوال، ورنةَ الفنجان في مضايف الأهل، كانتْ المحطة الأولى التي لونت فكر ذلك الطفل المتفوق دراسيا، شلال عنوز، الذي كان يحرق مراحل صفوف الابتدائية ليتسلح بقوة القراءة على عاديات دهره، ويتخذ من مكتبة المدرسة ملاذا ليحصل لعقله على متعة النبوغ. من هنا، تمكن قبل أن يلج الثانوية من قراءة مصطفى لطفي المنفلوطي وتوفيق الحكيم وجبران خليل جبران وجرجي زيدان وجورج جرداق وغيرهم.

المرحلة الثانية

كل هذا الموروث سيتلاشى إذا لم يجد دواعم تعطيه القوة وتعلمه الصمود، وكان لعودة عائلة الأستاذ شلال إلى المدينة التي نزحت منها، أي إلى مدينة النجف الأشرف مدينة العلم والأدب والحضارة والمعرفة أثرا كبيرا على نمو ذائقته الأدبية وقوته الفكرية وشخصيته المتفردة، فحينما ينجح الإنسان في التوفيق بين موروث جميل وواقع متحضر ممكن أن يتحول إلى كيان من الإبداع والتألق والسمو الفريد.

عودة العائلة إلى النجف فتحت أمام شلال الآفاق ليكمل دراسته الثانوية في اعدادية النجف العريقة, وليعيش ألق الإبْهار الذي تشعهُ تلك المدينةُ الكبيرةُ العامرةُ تاريخيا بمنائِرها الذهبية وتاريخها الماسي وموروثِها العريق ومكتباتها الفخمة … والعامرة مجتمعيا بمنتدياتها الثقافية وبعلمائها وأدبائِها وشعرائِها ومواسِمها الأدبية والشعرية والدينية ومناسباتِها المختلفة وثقافة أهلها وكثرة المبدعين فيها.

وحينما تجتمع الرغبة والفرصة، رغبة الحصول على المعرفة وتحقيق الذات من خلال الحلم، وفرصة وجود الأسباب التي تدعم ذلك الحلم، مع قليل من الإصرار والعزم ممكن أن يتحقق المستحيل.

وبالفعل ارتوت تلك الرغبة الأدبية العارمة التي تعمر نفس شلال من أنهار فحول الشعر ورجال الأدب النجفي، حيث أتيحت لشلال فرصة الإصغاء إلى تغريد الجواهري والشرقي وعبد المهدي مطر ومصطفى جمال الدين وعبد الأمير الحصيري وشعراء آخرون.

وهي الفرصةُ التاريخيةُ نفسُها التي أتاحتْ لهُ مزاملةَ الكثيرِ من الشعراءِ المبدعينَ المجيدينَ، ليُسهمَ معهمُ في تنميةِ مداركِ الأمةَ لموروثِها الأدبيِ، بعدَ أنْ كانَ قدْ أرتقى منصةَ الشعرِ لأولِ مرةٍ عام 1968 وهو في ريعانِ الشبابِ، وكان ذلك في جامع الهندي المعروف في النجف، وقدمه الى المنصة يومها المرحوم الشيخ عبد الجبار الساعدي.. ثم كان للرابطة الادبية التي انتمى إليها الاثر الواضح في صقل موهبته الشعرية، ومن خلالها التقى بشعراء كان لهم الاثر الكبير في تغذية وتنويع شعره.

المرحلة الثالثة

بعد أن انهى دراسته الاعدادية، تقدم للدراسة في بغداد العاصمة بكل ما تمثله من وهج وعبير وسحر وانفتاح، وقُبِلَ في كلية العلوم في الجامعة المستنصرية. لكنه سرعان ما اعتقل بسبب نشاطه السياسي، فرقن قيده من الدراسة, ليساق إلى أداء الخدمة العسكرية الالزامية وفق القوانين السارية.

وقد ترك فيه موضوع ترقين القيد والحرمان من إتمام الدراسة بسبب النشاط السياسي أثرا بالغا، دفعه إلى التخلي عن العمل السياسي. وتم تعيينه في وزارة الثقافة والاعلام/ الدار الوطنية للنشر والتوزيع والاعلان، ثم نقل بعدها الى وزارة الصناعة والمعادن، واحيل على التقاعد بناء على طلبه عام 1990.

لم تفارق خياله حسرة الحرمان من إكمال الدراسة الجامعية، ولذا عقد العزم بعد أن أحيل على التقاعد على متابعة الدراسة وتقدم إلى إحدى الجامعات ليتم قبوله لدراسة القانون، وهي الدراسة التي حولته إلى شاعر حقوقي، وحقوقي شاعر، يمارس المحاماة ليعيش ماديا ويمارس الشعر ليعبش روحيا، ويزاوج بين القانون والشعر ليعيش جماليا، فكتب شعر العمود والتفعيلة وقصيدة النثر، فضلا عن كتابة الرواية والقصة القصيرة، وهو اليوم إحدى العلامات الفارقة في دنيا الأدب العراقي والعربي، ولاسيما بعد أن ترجمت أشعاره إلى لغات أخرى وسافرت قصائده ودواوينه في دنيا العرب.

اترك تعليقاً