السيمر / فيينا / الاربعاء 20 . 11 . 2019
نضال حمادة / باريس
يروي خبير في صندوق النقد الدولي يزور لبنان حالياً على هامش ندوة حول الدول الهشّة عن الأزمة المالية الخانقة التي شهدتها سورية عام 1986 عندما فرغت صناديق البنك المركزي السوري من العملة الصعبة، قائلاً إن البنك الدولي عرض على الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إقراض سورية، غير أنه رفض. وكانت نقطة قوة سورية يومها والتي جعلته يرفض الاقتراض وجود استراتيجية الأمن الغذائي في سياستها، كانت سورية مكتفية غذائياً، تصدّر القمح والمواشي وتنتج كل ما تحتاجه من غذاء، مضيفاً في الفترة نفسها تم اكتشاف النفط في دير الزور وأتت الأموال دون حاجة للاقتراض.
على عكس سورية يبدو الغذاء هو الأزمة الكبرى في لبنان في حال استمرت الضغوط الأميركية تلاحق اللبنانيين في اقتصادهم. فالبلد لا يمتلك الأمن الغذائي ويستورد كل غذائه من الخارج، ويكفي ذكر بعض ما يستورده لبنان لنعرف حجم الكارثة والخطر الذي يتربّص بنا في حال استمرت الضغوط الأميركية ولم نعمل لمواجهتها.
يستورد لبنان القمح الشعير الحبوب على أنواعها اللحوم المواشي – الكثير من الفاكهة والخضار – الأدوية على أنواعها ويدفع ثمن كل هذه المواد بالعملة الصعبة التي أصبحت صعبة المنال فعلاً في لبنان. من هنا تستعد أميركا للتحرك ضدنا في عملية الضغط المالي وعدم توفر الدولار والعملات المعتمد في شراء المواد الأولية، ومن هنا يعرف حزب الله أن أميركا سوف تمسك لبنان وشعبه بيدهم التي تؤلمهم.
لم يكن كلام أمين عام حزب الله عن الصين وروسيا وإيران ومصلحة لبنان في تغيير تحالفات دولته العميقة إلا تعبيراً عن القلق من فقدان الأمن الغذائي للدولة، والحاجة السريعة إلى إيجاد بدائل لمواجهة المرحلة الثانية من الخطة المتمثلة بالغاز مقابل الغذاء كما حصل مع العراق في تسعينيات القرن الماضي في عملية النفط مقابل الغذاء. فكل البنية الاقتصادية والغذائية في لبنان مهيأة لهذا النموذج ولا تحتاج أميركا هنا لقرار من مجلس الأمن لكون لبنان بلداً مفلساً ولا يستطيع دفع ثمن الدواء والقمح وما يحتاج من غذائه بالعملة الصعبة.
لقد دمّرت سياسة رفيق الحريري الاقتصادية منذ تسعينيات القرن الماضي الزراعة اللبنانية بشكل ممنهج وأوصلت البلد الى استيراد غالبية غذائه اليوم حتى تلوّث الأنهار في هذا البلد يعود أصله إلى استراتيجية القضاء على الزراعة وإفراغ البلد من أمنه الغذائي. وتكاملت هذه الاستراتيجية مع استراتيجية آخرى لا تقل عنها كارثية تمثلت بالاستدانة. والاستدانة من البنك الدولي والمؤسسات النقدية الأجنبية بفوائد عالية في ما سمي هندسات اقتصادية لم تكن في الحقيقة سوى أضخم عملية سرقة واحتيال تشهدها دولة من دول العالم.
يعمل حزب الله بصمت منذ مدة على هذا الأمر، بدءاً بمسألة الدواء الذي يأتي من إيران بالعملة المحلية ويمكن للحزبيين شراؤه من مستودعات الحزب بالمواصفات والجودة العالمية وبسعر مخفض. وهذا النموذج سوف يطبق على الغذاء والوقود وكل ما يدخل في الأمن الغذائي والحياتي، عبر الدول الحليفة التي تحدث عنها السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير. فالصين مستعدّة للاستثمار والتمويل وروسيا أيضاً وإيران مستعدة للمساعدة والدعم وبأقساط طويلة الأمد وبالعملة المحلية لإيصال لبنان إلى الاكتفاء النهائي بالطاقة الكهربائية ومستعدة لتزويدنا بالوقود مع تسهيلات في الدفع. وينطبق هذا على قطاع الأدوية والبناء. كما أن حزب الله المنتشر عسكرياً في معبر البوكمال مستعدّ أن يجعل هذا المعبر ممراً لتصدير ما ينتجه لبنان من محاصيل الخضار والفاكهة، لبيعها في السوق العراقية الكبيرة. وفي استراتيجية حزب الله أيضاً سياسة التكامل الأمني الغذائي مع سورية التي تنتج القمح والشعير والحبوب بكميات تفيض عن حاجتها ومن السهل على لبنان سدّ حاجته من القمح والحبوب والمواشي عبر شرائها من سورية بأسعار أقل من الأسعار العالمية وبالليرة اللبنانية.
استفاق لبنان بعد حراك 17 تشرين الأول الماضي على وضع جديد وجد فيه اللبنانيون بكل فرقهم وألوانهم بلداً من دون مؤسسات. وتأكد للجميع الخصم والصديق أن حزب الله يشكل المؤسسة الوحيد في لبنان وهذا ما شاهده الجميع إعلامياً وعلى أرض الواقع من خلال تجربة شهر كامل من فلتان الشارع.
يعي حزب الله تماماً أن أميركا دخلت على خط الحراك، وأنها سوف تستغله الى الحد الأقصى للوصول الى سلاح المقاومة، وهو يعمل حالياً على مبدأ ان مدة هذا الحراك مفتوحة أميركياً وأن سبل مواجهته تحتاج الى اتخاذ القرارات المناسبة والصعبة في الوقت المناسب والصعب. ويعي جيداً ان استخدام السلاح في هذه الأزمة لن يجدي نفعاً إلا على الحدود لذلك يعمل حزب الله على بناء خطوط البلد الدفاعية في هذه الأزمة مدعوماً بالأدلة والمعلومات التي نشرنا بعضها في هذه السلسلة، ولا شك أن ما بقي مخفيّ ولم يُكشف أدهى وأعظم.
*كاتب لبناني