السيمر / فيينا / الاثنين 01 . 06 . 2020
د. نضير الخزرجي
في صيف عام 1977م اجتمعنا ثلة من الشباب اليافع مع الأستاذ التربوي الشهيد سعد مهدي البرقعاوي (1949- 1980م) في دورة مكثفة تعليمية وتربوية وكتابية لمدة شهر في الطابق التحتي (سرداب) من مقبرة السيد محمد المجاهد وسط مدينة كربلاء المقدسة، لدراسة مجموعة من العلوم منها الفقه والمنطق والأدب وفن الكتابة، وكان غرض الدورة توجيه الشباب نحو الكتابة الصحفية، ولم يفلح من الثلَّة إلا محرر هذه المقالة، وكان أول تقرير صحفي من عطايا هذه الدورة وطبع في نشرة حزبية معارضة واسمها “أوراق الوعي الثائرة”، هو تقرير صحفي ميداني عملته في رحلة خاصة مع زميل لي إلى مدينة تكريت شمال بغداد موطن القيادة السياسية الحاكمة آنذاك للوقوف على واقعها الحياتي والشرائي مقارنة بما هو قائم في كربلاء التي كانت تعاني من شحة متعمدة لعدد من حاجات المائدة منها البيض والدجاج.
مما علق في ذهني في هذه الدورة الكتابية التي كنا ندخل فيها المقبرة فرادى ونخرج منها فرادى بعيدا عن أعين رجال الأمن، هو كتاب “المنطق” للشيخ محمد رضا المظفر (1904- 1964م)، ففي أول حصّة من درس المنطق سألنا أستاذنا الشهيد عن الفرق بين علم الرياضيات والهندسة والعلوم الأخرى التي كنا ندرسها في مرحلة الإعدادية، فكل منا أدلى بدلوه من واقع التجربة الدراسية ومقدار فهمه، وخلاصة الأمر أن الرياضيات مجموع معادلات حسابية كل واحدة منها تنتهي إلى مطلوب صحيح إذا سلمت المقدمة وسلمت طريقة الإستناج.
وعندما خلصنا إلى هذه النتيجة، تبسَّم البرقعاوي قائلا: بالضبط هذا هو علم المنطق الذي نروم تدريسه، مثله مثل المعادلات الحسابية، فتلك معادلات عقلية ذهنية والمنطق على غراره، وفيه قياساته من مقدمة كبرى وأخرى صغرى لنخلص إلى نتيجة مثل قولنا: العالم متغير (مقدمة كبرى)، وكل متغير حادث (مقدمة صغرى)، إذن: العالم حادث (نتيجة)، ولما كان حادثا لابد من محدِث وخالق (وهو المطلوب)، ثم توجه بالسؤال ثانية: مَن منكم يريد أن يتفوق في دراسته ويحصل على نتائج عالية تؤهله الدخول في جامعة مرموقة؟
بالطبع كلنا على حداثة السن رفعنا صوتنا بالإيجاب والحبور يعلو محيانا، وكل منا يحدث نفسه بنيل المنى والدرجات العلى.
فكان جوابه: إذن عليكم أن تدرسوا المنطق وتستوعبوا معادلاته بذهن متفتح كما تستوعبون المعادلات الرياضية، لأن علم المنطق هو آلة العلوم ومفتاح المعارف ينمِّي العقل ويفتح مغاليق الذهن.
وتفرقت الطرق بهذه الثلثة، فمنهم من غادرنا الى ربه شهيدا ومنهم من توزع في المهاجر تلاحقه أعين السلطة البائدة، وبعضهم بقي عالقا في مهجره بعد قيام النظام الجديد رغم ما يحمل من شهادات عليا لأن البلد يلفظ طاقات أبنائه الذين كابدوا سنوات المنافي القاسية.
وبعد ستة عشر عاما من دراسة منطق المظفر في كربلاء عدت لأدرس من جديد علم المنطق الذي كتبه أستاذنا الفقيد الدكتور عبد الهادي الفضلي في السنة الأولى من جلوسي على مقعد الدراسة في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية بلندن سنة 1993م لدراسة البكالوريوس ثم لأنال منها شهادة الدكتوراه في اختصاص الفقه السياسي سنة 2008م.
وبعد أكثر من ثلاثة عقود من أول درجة على سلم دراسة المنطق، أعود ثالثة لأقرأه ونحن في عام 2020م، ولكن هذه المرة قراءة تحريرية موضوعية صحافية وللمرة الثانية على التوالي، في المرة الأولى كانت قراءة لكتاب “المنطق الواضح” ترجمة المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي المولود في مدينة كربلاء المقدسة سنة 1947م، عن الأصل الفارسي “الكبرى في المنطق” للشريف الحسيني علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة 1413م، وقد نُشرت المقالة في الصحافة العربية بعنوان: (كيف تنمي الذهن لاقتناص الرأي الصائب؟) يوم 4/5/2020م.
وهذه المرة بين يدي شرح لكتاب “الكبرى في المنطق” للمحقق الكرباسي صدر نهاية العام 2019م في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 232 صفحة من القطع الوزيري تحت عنوان: “الراجح في المنطق الواضح” تصدرته مقدمة لعميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية الأديب العراقي الدكتور إبراهيم العاتي المولود في مدينة النجف الأشرف سنة 1949م، وقبلها مقدمة الناشر للأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن دهيني المولود في مدينة النجف الأشرف سنة 1960م الذي سبق وقدّم لكتاب “المنطق الواضح”.
ميزان العلوم
تعود ترجمة وشرح وتحرير “الكبرى في المنطق” إلى سنة 1963م، عندما كان الشارح في مسقط رأسه يلقي الدروس على تلامذته وطلبته وهو في سنّ مبكرة، ومن محاسن الشارح أنه احتفظ بالترجمة والشرح وغيرها من الشروحات والحواشي والمؤلفات الأخرى في دفاتر مدرسية انتقلت معه حيث انتقل في المهاجر من العراق إلى إيران والشام (سوريا ولبنان) واستقراره في لندن منذ عام 1986م، وحانت منه فرصة إلى جانب إنشغاله بتحرير موسوعته المعرفية الفريدة (دائرة المعارف الحسينية) لإعادة تحرير الكتاب ليخرج بحلته الجديدة.
وهو إصدار مهم في بابه إذا ما عرفنا أن المنطق كما في تعريفه المشهور: “آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر”، وهو بمثابة الميزان كما يضيف الدهيني في مقدمة الناشر: “وسُمِّي علم المنطق أيضا بعلم الميزان ومعيار العلوم، وسُمِّي بالميزان لأنّ به يتم وزن الحجج والبراهين، وهذا لأنّه يعتبر حاكما على جميع العلوم وأعظمها نفعًا”.
والميزان قائم على التصور والتصديق وهما محور علم المنطق كله، ومرتكز على قبان العقل الذي به يجازى المرء إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌّ، وهو محور الخلق وإهباط الإنسان إلى الأرض: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) سورة الأنفال: 42.
ولما كان هدف الإنسان من الحياة الدنيا هو استحصال المعرفة واستنطاقها من مكامن وجودها عبر تفعيل ماكنة العقل والعمل بهدى الحجة والدليل لتنجيز الهدف، ولما كان المنطق قائم على التصور المفضي الى التصديق الذي يسمى في عرف المناطق الحجة والدليل وبلوغ المراد عبر إعمال العقل بمقدمات سليمة واستتناجات صائبة، فإن النتائج المستحصلة من تشغيل العقل تسمى منطقية والنتائجة المستحصلة من مقدمات منطقية تسمى عقلية، ولذلك كان الإنسان المتدرع بالمنطق أقرب من غيره للوصول إلى نتائج بيِّنة، وأقدر من غيره على المحاججة والمناقشة والمجادلة، لأن التمكن من قواعد المنطق وعلومه تمنح الإنسان القدرة على فرز السليم من الحقائق عن سقيمها، وتوفر له الأرضية الخصبة لغرس المناهج الطيبة للحصول على ثمرات طيبة.
وبالطبع فإن الإنسان العاقل المتمنطق بحزام المنطق السليم هو الأقرب إلى المعرفة، وأما غيره فقد عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)، فهو يجادل أنبياءه وبما جاؤوا به من عند الله لمجرد المجادلة لا المعرفة، فجهله البسيط والمركب يقوده إلى المغالطة العقيمة، وأما الذي يتحرى المعرفة والمنطق فإنه أقرب إلى الإيمان بالحقائق الناصعة، ولهذا فإن سحرة فرعون الذين مسكوا حبال السحر بأنامل الحيلة لإيقاع الناس بحبائل مكرهم، كما وصفهم القرآن الكريم (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) سورة الأعراف: 116، كانوا أول من آمن بالنبي موسى (ع) عندما رأوا الحقيقة وأخبتت قلوبهم الى منطق العقل السليم: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) سورة طه: 70، وهنا تأتي فائدة القبول بحقائق الأمور دون تعنت، لأن السحرة عندما وقفوا على حقيقة الأشياء وماهيتها أسلموا قياد العقل والفؤاد لرب البلاد والعباد.
فصول المنطق
عندما كان للشارح من العمر أربعة عشر عاما درس المنطق في كربلاء سنة 1960 على يد والده الفقيه آية الله الشيخ محمد الكرباسي (1906- 1979)، وبعد ثلاث سنوات عمل على تدريسه وانتهى منه في 10 شوال 1383هـ (1964م)، وفي 23 جمادى الثانية سنة 1385 (1965م) قام بتبييض المسودات وتنظيمها محتفظا بالكتاب لخمسة وخمسين عاما حتى رأى النور بحلتيه الترجمة والشرح.
ولما كان كتاب “الراجح في المنطق الواضح” هو شرح لكتاب “المنطق الواضح”، ولما كان الثاني ضم (39) فصلا تقاسمهما التصور والتصديق الذي هو جوهر علم المنطق، فإن الأول هو الآخر بالتبعة ضمَّ 39 فصلا جاءت عناوينها على النحو التالي: القوة المدركة، التصديق، التصور، تقسيمات التصور والتصديق، الترابط بين التصور النظري والتصور الضروري، فيما يُميَّز الإنسان عن الحيوان، مصطلح نظم القياس، الدلالة، الدلالة المعتبرة، دلالة اللفظ على الخارج اللازم، البسيط والمركَّب، الحقيقة والمجاز، المفرد والمشترك، المفرد والمركَّب، أقسام المفرد، اللفظ المركَّب، إدراك معاني التصورات والتصديقات، الكلِّي والجزئي، الكلِّي وأنواعه، النوع الإضافي، المعرَّف، استكمال اللفظ المجازي، حقائق الأشياء وماهيّتها، مباحثات التصديق، أقسام القضية، الموضوع والمحمول، القضية الحملية، القضايا الشخصية، السلب في القضية الحملية، النسبة بين أقسام القضايا، عكس القضية الحملية، النقيض، القضية الشرطية، القضايا الشرطيات، الحجة، الإستقراء، القياس الإقتراني، والأشكال الأربعة.
ولتسهيل الأمر على القارئ والطالب تزيَّن الكتاب بـ (41) جدولا ورسما توضيحيا لفصول الكتاب، اشبه ما تكون بمعادلات رياضية تتيح للطالب حفظها تمكنه من استيعاب الشرح بيسر، وقد وأنهاه الشارح بخاتمة ضمت (13) مصطلحا، مع بيان مفادها، وهي على النحو التالي: صورة القياس، مادة القياس، الصغرى، الكبرى، الحدود، النتيجة، المطلوب، الصناعات الخمس، البرهان، الجدل، الخطابة، الشعر، والمغالطة، والأخيرة إن استخدمت مع الحكيم سُميت سفسطة، وإن استخدمت مع غيره سُمِّيت مشاغبة.
وإذا كان المحقق الكرباسي في “المنطق الواضح” أشار إلى المؤلف الشريف الحسيني الجرجاني إشارة سريعة، فإنه في “الراجح في المنطق الواضح” أفرد أربع عشرة صفحة للحديث عن سيرته ومؤلفاته وشروحاتها التي بلغت 76 كتابا توزعت على المباحث التالية: المنطق، التفسير، اللغة، النحو، الصرف، المناظرة، العقائد، الرياضيات، الهندسة، الفلك، علوم القرآن، الفقه، أصول الفقه، الفلسفة والعرفان، أصول الحديث، البيان، الحكمة، البلاغة، علم الدراية، السيرة، الأدب، العمارة، والعلوم المختلفة. وهذه السلسلة من العلوم التي اضطلع بها الشريف الجرجاني هي في الواقع سمة العلماء القدامى الذين كان لهم في كل علم موقع قدم، وندر في علماء الزمن الحاضر الذين نحوا منحى التخصص.
في الواقع إنَّ ما جاء به المحقق الكرباسي يمثل إضافة علمية جديدة إلى المكتبة العربية وبخاصة الجامعات الأكاديمية والحوزات العلمية، وبتعبير أستاذ الفلسفة الدكتور إبراهيم العاتي في خاتمة التقديم مشيرا إلى المنجز العلمي لشارحه: (فقدم بذلك خدمة كبيرة للعلم وطلابه، وللتراث وكنوزه التي ما يزال الكثير منها مطمورًا، ويحتاج لمن يجلوها للقرّاء والباحثين)، وهناك الكثير من المصنفات القديمة المطبوعة منها والمخطوطة تنتظر يد البحث والتحقيق والشرح ليقف القارئ على تراثه الغني بالعلوم الثرة التي اغتنمها الآخر ونام عنها صاحبها، فكانت الفجوة العميقة بين الشرق والغرب.
الرأي الآخر للدراسات- لندن