السيمر / فيينا / الأحد 05 . 09 . 2021
د. لبيب قمحاوي / الاردن
إصرار البعض على الحديث في السياسة كمدخل للتعبير عن موقف ما أو لإبداء المعارضة أو التأييد هو أمر قد يجانبه الصواب في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة العربية والتي تتجاوز فيها الأزمات بعدها السياسي الى بعدها الحياتي بكافة أشكاله حتى الأكثرها بساطة والتي تمس ضرورات الحياة ومتطلباتها الأساسية. ومن هنا، قد يكون من الأجدى التعرض للظواهر الاقتصادية والمالية والاجتماعية المرافقة للانهيار السياسي عوضاً عن التعرض للانهيار السياسي نفسه ولأسبابه.
الانهيار السياسي في المنطقة العربية أصبح أمراً سائداً مما يجعله أقرب لأن يكون تعبيراً عن واقع حال النظام السياسي نفسه بل حتى تجسيداً له ولمساره أكثر من كونه ظاهرة طارئة، مما سوف يجعل أي إصرار على حصر النقد والتحليل لتلك الظاهرة ببعدها السياسي فقط أمراً قد يؤدي عملياً الى إعطاء المعاناة السياسية الأولوية على المعاناة الاجتماعية والحياتية، علماً أن جميع المواضيع المتعلقة بأشكال المعاناة مترابطة في أصولها، ولكن المنطق يفترض أن معاناة الانسان ببعدها الحياتي تأخذ الأولوية خصوصاً إذا ما تفاقمت تلك المعاناة الى حدود غير مقبولة .
هنالك فرق بين الانهيار السياسي وانهيار الدولة، ولكن واقع الأمور يشير الى أن الانهيار السياسي إذا ما استمر واستفحل سوف يؤدي بالضرورة الى انهيار الدولة من الداخل والى تحولها الى دولة فاشلة أو ما أصبح متعارفاً عليه عالمياً “بجمهوريات الموز” . وأكبر مثال عربي على ذلك هو لبنان، الذي تناحر وانتحر من أجل حصص ومكاسب طائفية وفساد مستشري ولعقود طويلة أدت بالنتيجة الى انهيار الدولة . وهكذا، عندما انهار لبنان ووقع فإن الدمار أصاب جميع مواطنيه بغض النظر عن انتماآتهم الطائفية وبالرغم عن تناحرهم الذي أدى بالنتيجة الى ذلك الأنهيار، ولعل في ذلك درساً قاسياً لبعض الدول العربية التي تتبنى نهجاً سياسياً عنصرياً يُفَرق بين مواطنيها دون أن تعي أن ذلك المسار سوف يؤدي الى تدمير دولهم ويلقي بجميع مواطنيها في التهلكة دون أي تمييز بين الأصول والمنابت أوالأنتماء العرقي أوالطائفي أوالمذهبي .
العالم العربي قد أصبح، بشكل عام، مجموعة من “دول الموز” تحكمها أنظمة تفتقر الى الفطنة والشفافية والحساسية المطلوبة تجاه معاناة مواطنيها وحقهم في حياة كريمة حتى في حدودها الدنيا، علماً أن الشعوب المستكينة الخانعة المتواضعة في مطالبها الى حد الاستسلام لا تستحق أفضل مما تحصل عليه من فتات من حكامها المستبدين لأن الحقوق لا تعطى بل تؤخذ .
الاردنيون مثلاً وبشكل عام مسالمون في ردود فعلهم، هادؤن في غضبهم، محافظون في سعيهم الى التغيير، يرضون بالفتات ويضحون بالغالي والنفيس من أجل الاستقرار وبقاء الأمور على ماهي عليه حتى ولو كان ذلك استقراراً شكلياً، ولكن كل ذلك كان مقبولاً في الأوقات التي لم يؤثر فيها ذلك الانهيار السياسي على حياتهم وعلى قدرتهم على تلبية متطلبات الحياة الأساسية . الأمور تختلف الآن فالإنهيارالسياسي أصبح متلازماً مع الانهيار الاقتصادي والاجتماعي بحكم ترابط الأمور وعدم القدرة على الفصل بينها .
من الملاحظ مؤخراً أن قدرة الدولة الأردنية على القيام بواجباتها تجاه مواطنيها قد ضعفت في الوقت الذي زاد فيه اعتمادها وبشكل متزايد على سياسة الجباية الضريبية الجائرة وتنامي نهج الانفاق الغامض الخالي من الحكمة والاتزان والشفافية والضوابط التي ينص عليها الدستور والقانون .
الجنون الذي أصاب الدولة الأردنية في سعيها المحموم الى زيادة مواردها المتناقصة بحكم سياساتها الاقليمية المتأرجحة وفشلها في جذب الاستثمار، والفساد المستشري المتنامي والمرتاح جداً في الأردن، وضعف وانصياع جهاز القضاء، وتدني مستوى أداء جهاز ادارة الدولة وتفشي الرشوة، بالإضافة الى الضعف المتزايد في مدخلات ومخرجات التعليم العالي، كل ذلك أدى الى انهيار ملحوظ في أداء الدولة وعوائدها، وفي قدرتها على القيام بواجباتها تجاه مواطنيها .
السؤال الذي يقض الآن مضاجع معظم الأردنيين هو الى متى تستطيع الدولة الأردنية الاستمرار في هذا النهج، وماذا سوف يحصل عندما تأتي لحظة الحقيقة ويصبح الشعب عاجزاً عن دفع كل تلك الضرائب المجحفة المباشرة منها وغير المباشرة؟ هل ستقوم الحكومه باعتقال الشعب أو الحجز عليه أو مصادرة أملاكه وأمواله لصالح الخزينة الجائعة، وماذا عن طبقة المسؤولين الذين يفتقرون الى الكفاءة والعزيمة والرؤيا الواضحة والمستمرون في ادارة شؤون الدولة والتخطيط لمستقبلها بالرغم عن عدم كفاءتهم؟
الأمثلة على سوء إدارة الدولة الأردنية عديدة . فإذا كان الإسلام مثلاً قد َحَّرم الربا، فإن الغرامات التي تفرضها الدولة على المواطنين هي الربا في أبشع صوره، كما أن الماء الذي َحَّرمَ الدين بيعه، تتم المتاجرة به لصالح شركة أجنبية تستعمل سطوة الدولة في تعاملها مع المواطنين متناسية أن المياه لم تعد ملكية عامة للدولة الأردنية وأنها عبارة عن شركة أجنبية تستثمر في الأردن لغايات الربح . أما الكهرباء فهي قمة الفضائح التي تعكس فساد من قام ببيعها أولاً، ومن قام ثانياً بتوقيع اتفاقات توليدها بضمانة الحكومة بإسعار باهظة تفوق كلفة شرائها من الآخرين ناهيك عن توليدها، مما جعلها عالة على خزينة الدولة ناهيك عن الفساد الذي ينخرعظامها وواقعها كشركة ليلاً نهاراً . أما أسعار المشتقات النفطية فهي اللغز الذي ما زال عصياً على الجميع. لا أحد يعلم دخل الدولة من الضرائب على المشتقات النفطية ولا أحد يعلم الى أين يذهب ذلك الدخل ولماذا نحن من أغلى دول العالم في تسعير تلك المنتجات النفطية الأساسية والمؤثرة بشكل مباشر وكبير على تكلفة المعيشة للمواطن الفرد، علماً أن الأردن دولة فقيرة طبقاً للمقاييس الدولية حيث أن مستوى دخل الفرد فيها متدني ولا يسمح بمثل تلك الأسعار على المواد الأساسية التي لا غنى عنها .
الحديث قد يطول الى حدود الألم إذا ما اخترنا الغوص في تفاصيل الخراب الذي ينخر في دول العالم العربي، ولكن الذي سيدفع الثمن في النهاية وللأسف هم الشعوب .
05 . 09 . 2021
* مفكر عربي