السيمر / فيينا / الأربعاء 02 . 02 . 2022
د. لبيب قمحاوي / الاردن
يبدو أن التلميح حيناً والتصريح أحياناً لم يَعُد يُجدي نفعاً مع هذا النظام . فالقدرة على التفاعل مع الاحداث والاستجابة لنبض المواطنين وآلامهم وآمالهم هو سمة من سمات الأنظمة الديمقراطية التي تقر وتعترف بأن الشعب هو أساس شرعيتها وتتصرف على هذا الأساس . أما الابتعاد والانعزال والجمود وفقدان الاحساس تجاه آلام الآخرين أوالرغبة في التجاوب مع مطالب جموع الشعب ومعاناتهم فهي من صفات الأنظمة الديكتاتورية التي تعتبر نفسها فوق الشعب وارادته ومشاعره وآلامه ، بل والأكثر من كل ذلك أنها تعتبر الشعب امتداداً وظلاًّ لها وفي خدمتها وخدمة مصالحها وليس العكس .
لم يستطع الشعب الأردني في تعامله مع النظام أن يميز بين الأمن والإستقرار من جهة ، والخنوع والاستسلام من جهة اخرى ، وهنا تكمن المشكلة . فالأمن والاستقرار لا يمكن أن يأتيا من خلال مسار الخنوع والإستسلام والإستعداد للقبول بإختزال الدولة بأكملها في شخص واحد ، تتم مناشدته دائماً لحل هذه المشكلة أو تلك ، علماً أن كل شئ هام يجري في البلد ، سواء أكان ذلك الشئ سلبياً أم ايجابياً ، لا يتم إلا بموافقتة وقبوله المباشر أو غير المباشر ، العلني أو المكتوم .
ما دام الشعب الأردني يسير في نهج المناشدة كوسيلة وحيدة للمطالبة بالإصلاح في مختلف المجالات ، فإن الاصلاح سوف يبقى أمنية ، وكل حقوق الأردنيين سوف تتحول بالتالي من حقوق دستورية وقانونية ملزمة وواجبة على الدولة ، الى عملية إستجداء من خلال المناشدة والمكرمات والاعطيات وغيرها من مسميات بائسة غير دستورية . ولكن لماذا يفعل الأردنيون ذلك ؟؟
هنالك خلط واضح في ذهن معظم الاردنيين في حصر تفسير مفهوم الانتماء للوطن بالولاء للنظام . وهذا الخلط بين مفهومي الانتماء للوطن والولاء للنظام قد يؤدي الى تفسير خاطئ ينفي عن أي معارض للنظام حقه الدستوري في المعارضة السلمية حتى لا يتم التشكيك في انتمائه للوطن . إن هذا الخلط والالتباس قد جعل العديد من الأردنيين البسطاء يعتقدون أن الولاء للنظام هو رديف للانتماء للوطن ، وأن المعارضين للنظام وأعوانه لا ينتمون بالتالي الى هذا الوطن . وقد ساهم النظام وأعوانه و أبواقه في تكريس هذا الفهم الخاطئ على مدى عقود من الزمن مما مهد الطريق لما يعانيه الأردن الآن من مشاكل ومآسي و ساهم في تعزيز نهج الانفراد والتفرد بالسلطة وتفاقمه الذي أخذ منحاه الدستوري الخطير من خلال التعديلات الدستورية الأخيرة .
الشعب الأردني شعب طيب ، ولكن الطيبة لا تعني إفتقار الأردني الى القدرة على التمييز بين الغث والسمين ، مما يعني عدم أحقية أحد مهما كان موقعه للإستهتار به أو بمفاهيمه أو قناعاته أو بكيفية التعامل معه . فالطيبة تعكس أصالة معدن الأردنيين وجوهرهم الكريم ولا تعكس ضحالة في رؤيتهم أو تفكيرهم .
عند الحديث المتكررعن الاصلاح في الأردن وسقوطه بالضربة القاضية ، لم يدر بخلد أحد أن هذه الضربة القاضية سوف تكون شاملة ومتواصلة إلى حد يجعل من السقوط عملية مستمرة لا قعر لها أو نهاية . فالإدعاء الرسمي بالإصلاح السياسي من خلال التحول إلى حياة سياسية حزبية نشطة وغير خاضعة لسطوة الأجهزه الأمنية ، كما يجب أن يكون عليه الحال دستورياً ، والإدعاء المرافق بأن هذا سوف يؤدي إلى برلمانات ديمقراطية وحكومات حزبية نيابية فاعلة ، بالرغم من أن هذا الإدعاء قد رافقه المطالبة غير المحقة بتعديلات دستورية فورية وسابقة لاقرار القوانين الاصلاحية المقترحة ، كل ذلك قد ادى عملياً إلى إلغاء النظام النيابي كما نص عليه الدستور بحجة عدم السماح للحكومات الحزبية بالتأثير على المفاصل الأمنية للبلد . وهذا الأمر يثبت عدم صحة ذلك الادعاء بالإصلاح عندما إتضح للجميع أن العقلية الأمنية هي السائدة والمهيمنة على كل القرارات وستبقى كذلك.
الاحزاب السياسية المطلوبة في ذهن النظام لترجمة حقبة الاصلاح الموعود هي في الواقع أحزاب مسبقة الصنع برعاية أمنية ولا تختلف عن ما سبقها من أحزاب وسطية الا في العنوان والاسم . ما إبتدأ يرشح من أحزاب جديدة بقيادات و طواقم تقليدية قديمة قد صدم معظم الأردنيين و أكد للكثيرين بأن الاصلاح هو شعار شكلي وأن الطاقم السياسي القديم الذي أوصل الأردن الى الخراب هو المرشح من قبل الدولة العميقة للإستمرار في ادارة البلد تحت رعاية الأجهزه الأمنية و إن بصورة مُحَسّنة وعناوين جديدة تهدف الى تلميع الشكل والحفاظ على المحتوى كما كان دائما ً .
لقد رافق كل ذلك محاولات الحكم الواضحة والحثيثة لإختطاف جيل الشباب من خلال الادعاء بأن الاصلاح الموعود موجه لهذا الجيل بشكل خاص ، وبالتالي فإن عمل الدولة العميقة يجري بشكل حثيث و واضح على اعادة تشكيل رؤيا جيل الشباب الأردني بما يتوافق ورؤيا النظام . وهذا الأمر في غاية الخطورة لأنه سوف يؤدي عملياً الى مصادرة المستقبل وتطويعه لخدمة الماضي . أمر شيطاني عجيب و أقرب ما يكون الى استعمال حقنه كبيرة من المسكنات دون معالجة حقيقية للأمراض المستشرية والكامنة في جسم الدولة الأردنية .
إن هذا المسار يؤكد أن النظام قد إختار اللعب في الوقت الضائع عوضاً عن مجابهة الحقيقة وقيادة مرحلة جدية وجديدة من التغيير الحقيقي الذي يهدف الى إعادة الحياة الى الجسم السياسي الأردني والدفع بجيل جديد من الشباب القادر على مقاومة ورفض ضغوط الدولة العميقة و على قيادة المرحلة المقبلة بقوة وشفافية وعلى التصدي للفساد المالي والاداري والسياسي ، كوسيلة لتقدم الأردن والحفاظ على مصالحه الوطنية ومستقبل أجياله . وبخلاف ذلك فإن ما يجابهه الأردن من تحديات خطيرة مثل انهيار الجهاز الاداري و انهيار العملية التعليمية والاقتصاد والاستثمار و تفاقم البطالة واستمرار الفساد المالي والسياسي واستعمال السطوة الأمنية للسيطرة على مختلف نواحي الحياه العامة ، وسطوة القواعد الأجنبية على سيادة الأردن تشيرجميعها الى اتجاه واحد يربط استمرار و استفحال تلك المشاكل والتحديات المختلفة بازدياد ضعف الدولة ومؤسساتها والخضوع الرسمي الأردني لإرادة الأجنبي ، والى الحد الذي قد يجعل من المواطن الأردني في نهاية المطاف ضيفاً في بيته ، ومن الدولة الاردنية جسر عبور للآخرين ومصالحهم وعلى رأسهم العدو الاسرائيلي وحلفائه .
31 . 01 . 2022
*مفكر عربي