السيمر / فيينا / الثلاثاء 13 . 12 . 2022
د. نضير الخزرجي
تتوفر في اللغة العربية مفردات غير قليلة، هي في واقعها حمّالة أوجه، بالإمكان صرفها إلى معانٍ عدة قد تقترب من المطلوب وقد تبتعد عنه، ويفهم مرادها من سياق الحديث، أو من التثبت من معانيها، وبعض المفردات صرفها قوم إلى معنى دون غيره حتى ظن الناس رواية أنها منحصرة بهذا المعنى والفهم، وإذا ما وقفوا على معنى آخر للمفردة استهجنوه على غير دراية، وساهم ابتعاد الناس عن اللغة العربية في هلامية المعاني وتشتيت مواردها وحصرها في معنى واحد أو دفعها عن كنهها.
في صغري حيث مدينة كربلاء المقدسة المليئة بمنابر الخطابة كنا نجلس تحت منبر الخطيب جلسة العبد نستمع اليه مشدوهين وتزيدنا الدهشة عندما تتناهى الى أسماعنا كلمات لا نفقه معناها أو نحصرها في المعنى الذي تدركه أفهامنا وقد تتطابق مع معناها الحقيقي او تتعارض، ولطالما سمعنا الخطيب وهو يصف اللقاء الذي حصل بين ولي العهد هشام بن عبد الملك المتوفى سنة 125هـ وحفيد الرسول (ص) الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) المتوفى سنة 92هـ عند البيت الحرام وهو في معرض بيان قصة قصيدة أبو فراس همام بن غالب الفرزدق المتوفى سنة 110هـ في مدح السجاد (ع) ومطلعها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحِلُّ والحرمُ
والكلمة التي يطرق الخطباء مسامعنا هي “السماط”، فعندما عجز هشام المرواني القادم من دمشق نيابة عن والده عبد الملك بن مروان الأموي المتوفى سنة 86هـ عن استلام الحجر الأسود لكثرة الزحام اقتعد كرسيه جانباً مع عليَّة القوم من أهل الشام وهو ينظر إلى الحجيج، وإذا بحفيد الرسول (ص) يقدم فانفرج له الحجيج سماطين واستلم الحجر بأريحية، فتعجب أهل الشام من المنظر فكيف للحجيج أن يتفرقوا سماطين لرجل لا يعرفوه ولا يتاح لنجل خليفة المسلمين؟ فسألوه عن هذا القادم؟ فأصابه حرج الجواب فتجاهله وقال لا أعرفه، وكان بينهم الشاعر الفرزدق فأجابهم أنه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وأنشد القصيدة.
فالسماط هو مورد الشاهد إذ كانت المفردة غريبة على الأسماع، لم ندرك في بادئ العمر معناها ولكن بالتكرار استطعنا تجميع الصورة وندرك بأدواتنا المعرفية القليلة أن القوم تفرقوا جماعتين أو صفَّين حتى يسهل الطريق وينفرج لحركة القادم، فالسماط هو الصف من الناس، وهو ما يمكن استنتاجه من الكلمة، ولكن عند الرجوع إلى معاجم اللغة مثل لسان العرب: 7/322- 325 لإبن منظور المتوفى سنة 711هـ نكتشف الكثير من المعاني لهذه الكلمة الواحد، فالسمط هو الصف المنظم، وهو الحلف واليمين، وهو نزع الشيء، وهو السكوت أو إسكات المتكلم، وهو الهناء، وهو تعلق الشيء، وهو الإلتزام بالشيء والثبات عليه، ومنها قول الشاعر:
تعالَيْ نُسمِّط حُبَّ دَعْدٍ ونغتدي … سواءين والمرعى بأمِّ درين
وحسبما يقول الزبيدي المتوفى سنة 1205هـ في تاج العروس: 10/288: أي تعالي نلزم حبنا، وإن كان علينا فيه ضيقة.
وربما قيل لخبزة السميط أو السميت بالتركية سميطاً لأنها ذات نسق دائري واحد مرصعة بحبات السمسم والحب الأسود في الغالب كما هو السلك أو الخيط المرصع بحبات الخرز أو اللؤلؤ الذي يقال له السمط أو السماط، ولعلّ أكلة المسموطة التي اشتهرت بها مدينة البصرة جنوب العراق أخذت اسمها من كلمة السمط أو السماط، لأن تشريب المسموطة أو مرق المسموطة أصلها سمك مقدد مملح يوضع على حبل فيكون الناظر إلى حبل السمك كالناظر الى سلك الخرز المنظم، وما زال اهل البصرة وعموم جنوب العراق يتناولون أكلة المسموطة في الأعياد وغيرها كما هي عادة المصريين في أكل سمك الفسيخ المقدد المملح في عيد شم النسيم.
مسمَّط التخميس
وبعيداً عن سماط الحجيج وسمط الحبيبين وخبزة السميط ومسموطة العيد وفسيخ شم النسيم، يأتي الجزء الرابع من “ديوان التخميس” للمحقق الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثاً عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 437 صفحة من القطع الوزيري مع مقدمة باللغة الأوغاندية للأديب الأوغندي آدم سيبيالا، فالتخميس يمثل نوعاً من جنس الشعر العربي المسمّط أورد فيها الكرباسي القصائد المخمّسة المسمطة من الشعر العربي القريض التي قيلت في الإمام الحسين (ع)، وإنما أُدخل التخميس في خانة الشعر المسمط لأن التسميط في عنوانه الخاص هو التنظيم وفي عنوانه العام هو نظم الشعر بشكل خاص ضمن أسس معينة يراه الناظر أو السامع منظماً على نسق واحد.
ولما كان التخميس في عنوانه العام هو بيت شعر من خمسة أشطر، وفي عنوانه الخاص إضافة شاعر لثلاثة أشطر جديدة على بيت أصل من شطرين لشاعر آخر وتنتهي قافية الأشطر الثلاثة الجديدة بنفس قافية صدر البيت الأصل، على أن تأتي الأشطر الثلاثة بشكل عام أولاً يليها الأصل، فيكون البيت الأصيل كقاعدة البناء يقام عليه هيكل البيت، ويكون بيت التخميس واضح المعنى، ومن ذلك تخميس المؤلف لمطلع قصيدة للشاعر محمد بن الأبّار البلنسي المتوفى سنة 658هـ:
يقولون خسرانٌ ومِن ذاك يُبتغى … مديحٌ وتأييدٌ قضى للذي طغى
ولكنْ حسينٌ فيه كان المبلِّغا
هو الفتح بعد الفتح يأتي مُسوِّغاً … وما وَلجت في مَسمعٍ لُجَّةُ الوغى
وقد اعتمد المؤلف في تنظيم باب “ديوان التخميس” على قافية البيت الأصل، ولهذا بعد ما انتهى في الأجزاء الثلاثة من قوافي: الألف والباء والتاء والثاء والجيم والحاء والحاء والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد، بدأ في الجزء الرابع بحرفي العين والغين، ولما كان من دأبه تقصي الشعر حتى ولو بعد حين فإنه ادخل في هذا الجزء ما تم اكتشافه من جديد مسمطات التخميس، فاستدرك على الجزء الثاني من قوافي: الباء المفتوحة والمضمومة والمكسورة، والحاء المفتوحة والمضمومة والمكسورة، والدال المفتوحة والمضمومة والمكسورة والساكنة، واستدرك على الجزء الثالث من قوافي: الراء المفتوحة والمضمومة والمكسورة.
كثير العين وقليل الغين
ضم الديوان الجديد المخمسات الداخلة في قافية العين والغين، وكان نصيب الغين تخميساً واحداً، على أن ديوان التخميس من الشعر الحسيني وإن جاء حسب الحروف الهجائية فإنه لا ينغلق أبداً ما بقي الدهر وإن كانت قاعدة بيت التخميس هي واحدة أي البيت الأصل، فإذا تمكن المؤلف في هذا الجزء أو ذاك من استفراغ كامل جهده في اكتشاف التخميسات، فإن الشعراء في قادم السنين سينظمون على البيت الأولي التخميسة تلو التخميسات، ولهذا سنشهد استدراكات على دواوين التخميس تليها استداراكات.
ويذهب معظم الذين تناولوا نوع التخميس من جنس المسمطات إلى التأكيد على أهمية البيت الأصل وأهمية قائله مما يشجع الناظم على إيراد التخميس، وهو أمر لا خلاف فيه، ولكن أرى أن أهمية البيت المخمَّس (بفتح الميم) وقوته أو القصيدة بكاملها أمر نسبي خاضع لسليقة الشاعر المخمِّس (بكسر الميم)، فهو الذي يرى القوى الشاعرية في البيت الأصل وجاذبيته فيخمِّسه، وإذا خمَّسه آخر ثم ثالث أخذ شهرته، وإذا كان البيت مشهوراً أو قائله مشهوراً فإن التخميسة تأخذ شهرتها كما يأخذ المخمِّس شهرته، على أن بعض الأبيات أو المقطوعات أو القصائد تدفع الشعراء إلى تخميسها دفعاً لقوة الشعر والشاعر معاً، وهذا ما نلحظه في الديوان، فالقصيدة العينية للشاعر محمد بن مال الله آل فلفل القطيفي المتوفى سنة 1261هـ خمّسها حتى الآن إثنا عشر شاعراً، يليها عينية الشاعر السيد حيدر بن سليمان الحلي المتوفى سنة 1304هـ سبعة شعراء، ومثلها عينية الشاعر محمد مهدي بن عبد الحسين الجواهري المتوفى سنة 1417هـ سبعة شعراء، وبعدها عينية الشاعر السيد رضا بن محمد الهندي المتوفى 1363هـ ستة شعراء.
فمن تخميسة الشاعر حسين الموسوي الغريفي البحراني المتوفى بعد سنة 1246هـ على عينية أبو الفلفل القطيفي في بيان الحوار الذي جرى بين الإمام الحسين (ع) وشقيقته زينب الكبرى (ع):
أَحسينُ طيبُ العيش بعدكَ لا هنا … ليتَ الردى من دون فقدك غالنا
كي لا نُساقُ حواسراً لبني الخَنا
فأجابها من فوق شاهقة القنا … فقضى القضاءُ بما أرى فاسترجعي
ومن تخميسة الشاعر سلمان بن أحمد التاجر آل نشرة المتوفى سنة 1342هـ على عينية الشاعر حيدر الحلي:
واندُبي إنْ ندبتِ بالحُزنِ قوماً … سامها الدهر بالمصائب سوماً
لا تنامي للحشر هاشمُ يوماً
واملأي العينَ يا أميًّةُ نوماً … فحسينٌ على الصعيدِ صريعُ
ومن تخميسة الشاعر المعاصر كاظم الحلفي على عينية الشاعر الجواهري مناجياً شهيد كربلاء:
تعاليتَ من ثائرٍ أشجعِ … تحدّى المنايا ولم يَفْزَعِ
بِرُغْمِ جيوشِ الخليعِ الدَّعي
فداءٌ لمثواكَ من مضجعي … تنوَّر بالأبلج الأروعِ
ومن تخميسة الشاعر مهدي بن راضي الأعرجي المتوفى سنة 1359هـ على عينية الشاعر رضا الهندي عن اللقاء الأخير في طف كربلاء:
مرّت بهم زينبٌ لمّا نَوَوا سفرا … بها العدى فأطالتْ منهمُ النظرا
ومُذ رأت صِنوها في التُرب مُنعفرا
همَّت لتقضي من توديعه وطرا … وقد أبى سوطُ شمرٍ أن تودِّعَهُ
من فنون التخميس
جرت العادة أن يكون التخميس من سنخ البيت أو القصيدة، فلما كان التخميس في هذا الكتاب خاص بالإمام الحسين (ع) فإنه من الطبيعي أن يكون بيت التخميس من الفرع والأصل قد نظم في الإمام الحسين (ع)، ومن فن المسمط في التخميس أن يأتي الشاعر الثاني بتخميسة على بيت أو قصيدة لشعر ليس من سنخه، أي تجيير للبيت وانزياحه عن أصله لما يُراد له، ومن ذلك تخميس المؤلف الكرباسي على عينية الشاعر عامر بن طفيل العامري المتوفى سنة 10 للهجرة، وفيها:
أنا عن هموم الطفِّ بي كيفَ أقلَعُ … حسينٌ قضى من بعدهِ مَنْ سيفزعُ
فلا في الردى خوفٌ ولا منهُ منزعُ
رَهبتُ وما من رهبةِ الموتِ أجزعُ … وعالجتُ همّاً كنتُ بالهمِّ أُولَعُ
ومن فنون التخميس أن تكون الأشطر الثلاثة مع شطري البيت الأصل لشاعر واحد، من ذلك تخميس الشاعر حسن بن عبد الله الخطي المتوفى سنة 1362هـ، وهو يحكي واقع حال السيدة زينب (ع):
أخي ذا فؤادي سقيمٌ جريحْ … وجفني عليكَ ابنَ أمِّي قريحْ
وَلِمْ أنتَ ظامٍ عفيرٌ طريحْ
أخي هُدَّ رُكني، وصبري استُبيحْ … وبُدِّدَ شملي فَلَمْ يُجْمَعِ
ومن فنون التخميس أن يقوم الشاعر الثاني بتخميس البيت الأصل أكثر من مرة، من ذلك تخميستا الشاعر فاخر بن حسين آل ليل الموسوي المتوفى سنة 1386هـ على بيت من عينية الشاعر محمد أبو الفلفل القطيفي، وفيها:
قضى القضاءُ بما رأيتِ فاصبري … وبحقِّ رأسي والدماءِ بمنحري
لا تُشمتي فينا العِدى وتصبَّري
وتكفَّلي حال الأيامى وانظري … ما كنتُ أصنع في حِماهُم فاصنعي
ويعود الشاعر لينقل حوار السيدة زينب (ع) المتوفاة سنة 62هـ مع الإمام الحسين (ع):
أختاه لا تُجري الدموعَ بمحضري … وإلى الخباءِ تعجَّلي وتستَّري
وتفقَّدي تلك الصَّبايا وتصبَّري
وتكفَّلي حالَ الأيامي وانظُري … ما كُنتُ أصنعُ في حِماهُم فاصنعي
ومن فنون التخميس أن تكون الأشطر الخمسة لشعراء ثلاثة وذلك عندما يقوم المخمِّس باستعارة شطر بيت من شاعر، من ذلك تخميسة الشاعر عباس بن علي الترجمان المتوفي سنة 1429هـ على البيت رقم 59 من عينية الشاعر الجواهري مضمناً قول امرئ القيس الكندي المتوفى نحو سنة 39 ق.هـ:
“كجلمودِ صخرٍ هوى من علٍ” … على القلب حتى غدا مُثقلي
وظلَّ مقيماً ولم ينجلِ
إلى أن أقمتُ عليه الدليــ ….. ـــلَ من مبدأ بدمٍ مُشبَعِ
وكلما أمعن الناظر في التخميسات وجد فيها فنوناً استخدمها الناظمون زادوا من رونق البيت أو القصيدة الأصل، وهذه الفنون في واقعها انعكاس للمشاعر والأحاسيس التي تنبض في عرق الشاعر وهو ينظر إلى ما جرى على الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره في عاشوراء سنة 61هـ، فكربلاء ملهمة الشعراء والأدباء وكل صاحب قضية ورأي، وهو ما يؤكد عليه الأديب الأوغندي الدكتور آدم سيبيالا (Adam Sebyala) أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة المصطفى العالمية فرع كمبالا عاصمة أوغندا وهو يقدم لهذا الديوان، معتبراً أن الإمام الحسين (ع) نهض لإحياء دين الرسول (ص) والحفاظ على الرسالة الإسلامية بعدما أصاب الأمة الوهن فقرر أن يستشهد من أجل أن تبقى سارية الإسلام عالية، معتبراً أن استشهاد الحسين (ع) هو إنتصار للدم على السيف وانتصار لرسالة السماء الحقَّة.
ومن إلهامات سيد شباب أهل الجنة كما يؤكد الدكتور سيبيالا دائرة المعارف الحسينية بوصفها عملاً عظيماً، مثنياً على مؤلفها المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي بوصفه عالماً متفانياً فاق الأقران، داعياً الناس إلى الإستلهام من الإمام الحسين (ع) ونهضته المباركة على طريق التحدي والعيش بكرامة.
الرأي الآخر للدراسات- لندن