أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / العراق بين دارين .. دار مقر ودار ممر

العراق بين دارين .. دار مقر ودار ممر

السيمر / فيينا / الأحد 02 . 04 . 2023 

د. عبد علي سفيح

المفهوم الفلسفي لكلمتي المقر والممر، يعبر عن الصور الذهنية الممكنة لما يمثله هذان المفهومان، كانعكاس لأشياء حقيقية موجودة، إذ صدر كتاب في باريس بعنوان “زمن السحرة ” لولفرام ايلنبرمر، يحكي عن أربعة فلاسفة في القرن العشرين ومن بينهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، على أنهم غيروا وجه الفلسفة وكأنهم فلاسفة المكان، أي انطلقوا من” الفضاء المكاني” الملموس، وبيئته الطبيعية ومنه استطاعوا أن ينقلوا الفلسفة التجريدية والغيبية إلى المحسوس والحياة والمعاناة.
ومن هذه الفلسفة حاولت ان اربط بين مفهوم المقر ومفهوم الممر بالحياة اليومية بابعاده الاجتماعية، والسياسية، والدينية كافة وتبعا للمكان.
أن دراسة المكان من اختصاص علم الجغرافيا؛ لأنه علم يركز على دراسة مظاهر سطح الارض والظواهر الطبيعية والبشرية، مع دراسة التأثير والترابط الانعكاسي بينهما، ولذلك تعد الجغرافيا ذات خاصية متميزة، إذ نجدها تصنع قدمًا على العلوم الطبيعية، وقدمًا على العلوم البشرية، الا أن الوعي الجغرافي بنحو عام في الشرق ومنه العراق عندهم ضعيف، ولذلك الإنتاج والإبداع في مجال التاريخ والأدب أكبر بكثير مما في مجال الجغرافيا.
يقول بن خلدون في مقدمته “أن اختلاف البشر في الوانهم وميولهم ونشاطهم وصفاتهم الجسمية والعقلية تعود إلى البيئة الجغرافية “. ومن هذه المقدمة البسيطة ممكن القول بأن نجاح أي مشروع وخاصة في العراق، بأن تكون نقطة بدايته الجغرافية، وذلك لضمان الوصول إلى نقطة النهاية.
وينبغي ان نوضح لا الجغرافيا ولا الشعب يتغير، بل المتغير هو الحكومة، يشترط على أية حكومة أخذ بياناتها من الجغرافيا لبناء دولة حديثة، وقد وجدنا عند أخذها من الموروث العربي أو الديني فقط، قد حكم عليها بالفشل.
أرجع إلى العنوان بطرح السؤال الاتي: ما هي علاقة الجغرافيا بمفهوم المقر والممر؟، أي ما هي علاقة الجغرافيا بالفلسفة؟ الجواب يأتي من الحقل الفرعي للفلسفة وهو فلسفة الجغرافية الطبيعية، والبشرية، وهو علم اكاديمي، ونظام فكري، ونسق منهجي، ومسار بنيوي، أن الجغرافية هي التي تجعل المكان مقرًا أو ممرًا، لتوضيح هذا المفهوم الفلسفي يتطلب منا التعمق فيه مع إعطاء أمثلة ملموسة من الواقع وهي:
1. الجغرافية جعلت من العراق وادي الرافدين، تنبع الانهار والروافد من تركيا وايران وتصب في العراق جميعها وبفضلها ولدت اكبر حضارات العالم في وادي الرافدين؛ لأن الانهار اتخذت من ايران وتركيا ممرًا، بينما اتخذت من العراق مقرًا، كذلك في مصر وادي النيل، ينبع النيل من خارج مصر ويمر في إحدى عشر دولة ممرًا ولكنه يصب في مصر فاتخذ النيل من مصر مقرًا ومنه ولدت اكبر حضارة فرعونية في مصر وليس في بلاد الممر.
2. السياسة: للسياسة دور كبير في جعل البلاد بلدان مقر وليست بلدان ممر، ولو تفحصنا التاريخ لوجدنا قبل بزوغ الاسلام كان العراق أرض ممر لتجارة قريش إلى أرض مقر هي الشام واليمن(رحلة الشتاء والصيف)، حول الامام علي(ع) عاصمة الخلافة الاسلامية من المدينة المنورة إلى الكوفة فاصبح العراق دار مقر للخلافة وأصبحت الكوفة منبع الإشعاع الفكري والحضاري والروحي، نقل الامويين الخلافة إلى دمشق، فاصبح العراق أرض ممر، والشام أرض مقر، الا أن العباسيين ردوا الخلافة إلى العراق كدار مقر فأصبحت بغداد حاضرة العالم.
3. الهجرة: عندما يأخذ المهاجر بلد الهجرة كدار مقر له، يحصل على نتائج مغايرة لمن يتخذها كدار ممر له.
4. الرجل والمرأة: عندما يتخذ الرجل من المرأة دار مقر، بقوله جل وعلا ” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم ازواجا لتسكنوا إليها”، يحصل بناء العائلة وهي نواة المجتمع، بينما في حالة اتخاذ المرأة دار ممر كما في حالة زواج المسيار أو زواج المتعة، لا يحصل بناء حقيقي للعائلة
5. الدين: الخصائص والسمات التي امتازت بها الأديان السماوية وغير السماوية هو العزوف عن الدنيا وجعلت الدنيا دار ممر أي تبنت نزعة الزهد فيها ابتغاء الكمال، هذه الاشكالية حلها الامام علي(ع) بقوله ” أعمل لدنيا كأنك تعيش ابدًا واعمل لاخرتك كأنك تموت غدًا” اي بهذه النظرة الفلسفية للحياة استطاع الإمام أن يجمع في وقت واحد بين المتضادين، الخلود والفناء، وبين الممر والمقر، كما جمع بين ” اما أخيك في الدين أو نظير لك في الخلق” .
6. النظام الملكي والجمهوري: نجحت الانظمة الملكية في الحكم لأنها حولت البلاد إلى دار مقر كما حصل في الجزيرة العربية كانت أرض ممر للقوافل، بينما نرى اليوم تحولت إلى أرض مقر ومستودع لبضائع العالم وللمال العالمي وللهجرة العالمية، على عكس النظام الجمهوري حول البلد من دار مقر إلى دار ممر، مما فقدت كل من القاهرة ودمشق وبغداد هيبتها ورونقها على عكس دبي وقطر والرياض وعمان.

اترك تعليقاً