السيمر / فيينا / الأثنين 01. 05 . 2023
سهيل الزهاوي
في ليلةٍ ليلاءَ
وفي أعماقِ النومِ أحلم:
في ضواحي المدينةِ أسير.
ها أنا ذا اتأملُ البدايات
في وحدتي الموحشة.
كنتُ أسْرَحُ بِأفْكَارِي بَعِيداً
فجأةً داهمَني لَهيبُ الذكريات
أيقظَ أجراسي الراقدةَ خيالاً
اقتحمَني محمولاً على أمَوْاج الريح.
منْ بعيد،
صوتٌ ساحرٌ يتناهى الى سمعي،
أسمعُ صدى خريرِ الماء
آخذاً بيدي نحوَ نهرِ الوند
على حافةِ النهرِ الحزينِ أترجّلُ،
أتطلعُ الى مجرى النهر،
والصمتُ مخيِّمٌ على الوند،
على إيقاع شجى الأوجاع
أرى الوندَ العظيمَ مقطوعَ النَّفَس
حزيناً كالوداعِ، وجانباه قاحلانِ،
صوتُ النهرِ الحزين تفجَّر،
فهل منْ مُجيب؟
———–
يا نهرَ الوندِ لا تشكُ،
ما جدوى شكواك المتنهِّدِ مِنْ ماردٍ.
لسْتَ الوحيدَ،
في وطني يلفُّ الحزنُ أنهارَنا
وسواقينا وسهولَنا وجبالَنا.
يا نهري، يا طاويَ أحزانِ شبابي،
ليتَ قلبكَ الهابطَ يُدركُ ما يَحُوكُ لك
الأشرارُ، والشرقُ!
أجمعَ الجيرانُ على أنْ يخنقونا.
كم مِنْ مرةٍ وضعوا السيفَ على رقابنا،
حاولوا قطعَ أعناقنا.
يا نهرَ الوند،
اليومَ عادوا، وأحيوا مآسينا.
أيُّها النهرُ،
هيهاتَ، هيهاتَ أن يُعودَ ماؤك،
نَبْعُك النَاضِبُ أقفلوا عليهِ الأبواب،
غَيَّروا اتِّجَاهَهُ الى روابٍ وسدود،
ليجفّفوا الزرعَ والضرعَ،
وتموتَ الأزهارُ على ضفتيك،
وعلى جانبيك بقايا عظامِ الأسماك.
——–
لمَنْ تغنّي الطيورُ المرفرفةُ؟
الأعشابُ جفّتْ وفقدت رونقَها،
بالأمس كانتْ رياضاً ترفلُ بالخُضرةِ والأزهار.
أين رائحتُك العطرةُ، وريحُكَ الطَّيِّبةُ!
اليومَ
حتى الحَجَرُ لمْ يسلمْ من الخراب،
نهبَ اللصوصُ قيثارتَك الجميلةَ،
كانتِ الطيورُ على أنغامها ترقصُ،
تملأُ الأفقَ ترانيمَ منْ دَفقاتِ الشُّعور.
في الماضي القريب
كانَ في نهري العذبِ صدىً يأسرُ القلوب.
لم يعدْ أحبابُكَ يسمعون هديرَكَ المدوِّي
منْ بعيد.
………
على شاطئ النهرِ الحزينِ أسيرُ
صعوداً وهبوطاَ
وفي عَيْنيَّ أسىً عميق.
كانَ الحجرُ يبكي معي،
دموعُنا انهمرتْ في النهر
ظنَّها مطراً يهطلُ من السماء.
طوالَ الشتاءِ
لم تتوقفْ عن المَدِّ.
ها هو الوندُ ينحسرُ
وانفاسُه تلهثُ!!
——-
بالأمسِ كنتَ تجري متحدّياً العوائق
وموجاتُك تتلاطمُ مع الصخور.
وفي الصيف تزهو كالربيع.
تتدفَّق نميراً صافياً،
كنتَ سرَّ مدينتنا
كنتَ الكوثرَ على الأرض
أسقيتنا وأسقيتَ مزارعنا،
في لهبِ الصيفِ كنتَ مأوانا.
بالأمس كنتَ تناجي شوقَنا
باسطًا لنا ذراعَيك،
تأخذُنا في أحضانك،
نجلسُ، نتجادلُ، نتسامرُ.
كنتَ لنا منهلَ الأفكار.
——-
أيُّها النهرُ،
في صبايَ كنتُ أعشقُ خريرَكَ،
وأنينَ موجاتك.
وإنْ ارتحلْنا بعيداً
فإِنَّ حنينَنا وشوقَنا يشدُّنا إِلَيك
مُقيماً في قلوبنا حتى مماتنا،
نسمعُ في يقظتِنا وفي منامِنا
لحنَك الجميل،
تحتَ ظِلِّك الوارفِ التقينا.
كنتَ لنا النورَ الذي يضيئنا
في ليالينا،
أنا ورفاقي ولفيفاً من الشباب
على ضفافِك نسرحُ ونمرحُ.
مللْنا أيُّها النهرُ الحبيب،
كيف لنا أنْ نرويَ ظمأنا
في هَجِير النَّهَار.
أيُّها النهرُ، لا تيَأْسْ،
إنَّ اليأسَ يخنقُنا.
دعْني أجوبُ بينَ فلواتك.
سيبقى جسرُك صامداً رغمَ الجفاف.
سيحكي قصصَ آماسي الربيعِ للأجيال،
وعن قمرِ الصيف مضيئاً وجهَكَ.
وفيضانُ الشتاء ينسابُ في أزقةِ المدينة.
كم مرة حلمْتُ بكَ شوقاً ملتهباً.
مهما استبدَّ بنا الألمُ،
واشتدّتْ جراحُنا،
يا نهري العذب،
يبقى صَـداكَ يرنُّ في أُذني.
أجوبُ بينَ شاطئيك الحزينين،
أجمعُ بقايا صوتِكَ في الصخور،
سيظلُّ صوتُكَ يرافقُني
في كلِّ صباحٍ ومساء.