فيينا / الثلاثاء 20. 08 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
نضال خلف / فلسطين
يقول جايمس برادلي، مؤلف كتاب «سراب الصين» (the Chinese mirage)، إنّك «لو وقفت على أطول مبنى في بكين ونظرت إلى المحيطات واليابسة المحيطة بك، فستجد المدمرات والطائرات والصواريخ الأميركية تحاصرك من كلّ اتجاه».هذه الصورة المختصرة تجسّد واقع الهيمنة الأميركية على العالم، وشكل العلاقة التي تحكم أميركا وخصومها في الكوكب. وإذا ما عدنا من شرق آسيا إلى غربها، فسنجد مشهداً متطابقاً في بلاد ما بين المحيط والخليج. إذ تنتشر القواعد العسكرية الأميركية في أكثر من 19 نقطة جغرافية ما بين الخليج العربي وإريتيريا. حوالي 9 من هذه القواعد تعتبر قواعد دائمة مراكزها في البحرين وقطر والإمارات والسعودية والأردن والكيان الصهيوني. ومع كلّ مفصلٍ سياسي تمرّ به المنطقة، تضاعف الولايات المتحدة من عدد قواعدها العسكرية وعدد جنودها في المنطقة. وعلى الرغم من الرقم الهائل للجنود الأميركيين المحتلين لهذه البلاد عبر القواعد العسكرية (أكثر من 35,000 جندي)، يضاف إليهم مخزون هائل من الذخيرة والعتاد الحربي، لا تزال القواعد العسكرية الأميركية في ظلال النقاش السياسي والفكري الذي تفجّر إثر عملية «طوفان الأقصى». فلماذا تغيب القواعد العسكرية الأميركية عن نقاشاتنا؟ وكيف نفهم دور هذه القواعد في حاضر المنطقة ومستقبلها؟
عدوّ «متجاهَل»
يعتبر برادلي أنّ جزءاً من نجاح الهيمنة الأميركية في العالم هو سياسة «التعمية» التي تتبعها في نشر قواعدها العسكرية حول العالم. وعلى الرغم من علانية القواعد التي تطرح في سياق اتفاقيات «دفاع مشترك» مع دول وأنظمة لا يملك أغلبها من السيادة إلا العلم والنشيد، تتعمّد الولايات المتحدة عبر تأثيرها الإعلامي والسياسي التعمية على دور هذه القواعد وقوّة تأثيرها في السياسات الإقليمية والنزاعات بين الدول المتجاورة. على سبيل المثال، تفيض الأخبار والتحليلات حول خلافات يابانية – صينية، فيما يغيب ذكر وجود 85 قاعدة عسكرية أميركية وأكثر من 52,000 جندي أميركي في اليابان بأسلحة متطورة وتقنيات استخبارية موجهة ضد الصين. السياسة ذاتها يتم اتباعها في بلادنا. فتغرق الشاشات في الحديث عن «الخطر الإيراني» وعن «هواجس الدول العربية»، في حين يتم تجهيل حقيقة أن أغلب القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة جرى تشييدها قبل الثورة الإسلامية في إيران، أي أنّ دور هذه القواعد في حصار إيران – الثورة هو دور مستجد. تحويل النقاش من التساؤل عن حقيقة ودور هذه القواعد الأجنبية في الأرض العربية إلى اعتبارها مسلّمة في الواقع السياسي العربي هو جوهر التطبيع الفكري للاحتلال الأميركي المباشر لبلادنا. حتى كلمة «احتلال» لن تجد مكانها في أي توصيف أو نقاش يدور حول هذه القواعد. هذا «التجهيل» المتعمّد هدفه التسليم بألوهية أميركا، فهي القوّة العظمى القادرة على تسيير واقعنا وأمننا وسياساتنا كما تشاء، وتأمين «مصالحها» (ما هي مصالح المستعمِر؟)، هو قدرٌ لا مفرّ منه. عبر هذه السياسة، تنجح أميركا في بسط يد القتل والإبادة بما يخدم أجندتها الاستعمارية، بعيداً عن أي ضجيج رافض للاحتلال والقتل. وأكبر مثالٍ على نجاح هذه السياسة هو الفرق بين ردة الفعل العربية على احتلال أميركا للعراق عام 2003، وردّات الفعل العربية على العمليات الأميركية في سوريا والعراق واليمن وليبيا ما بعد الـ 2005. في الأولى، كان مشهد الاحتلال الواضح المباشر كافياً لاستفزاز الجماهير على تنوّعها للتعبير عن رفضها بالسلاح وبغيره. أمّا الثانية، وهي لم تكن أقلّ فتكاً على شعوب منطقتنا، إلا أنّها لا تحظى حتى بإحصاء ومتابعة، وتعدّ جزءاً من يوميات المنطقة، وكأنّنا جميعاً سلّمنا لأميركا بـ«حقّها» في قصف مَن تشاء كما تشاء من دون أدنى أشكال الاعتراض.
أداة التجهيل
لكنّ دور القواعد العسكرية الأميركية يتخطّى البعد العسكري والأمني والاستخباري، وإن كان هذا الدور هو عمود التفوّق الأميركي. فكلّ أشكال الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية ليست إلا عوارض للهيمنة العسكرية والأمنية. فخريطة انتشار القواعد العسكرية الأميركية في بلادنا تكشف دوراً إضافياً لهذه القواعد، وهو الدور الإعلامي. اليوم، أكثر المؤسسات الإعلامية العربية انتشاراً وتأثيراً في الإعلام التقليدي والرقمي تتمركز وتعمل في حمى القواعد العسكرية الأميركية. وهذا الوجود ليس صدفة، بل هو دور مرسوم واضح المعالم، يحتمل الكثير من توزيع الأدوار مقابل الثبات على الهدف الرئيسي، ألا وهو تجهيل العدو. على سبيل المثال، منذ انطلاق حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة، تكاد لا تتوقف شحنات السلاح الأميركي من قاعدة «العديد» في قطر إلى قواعد العدو في فلسطين المحتلة. شحنات تحمل أدوات الإبادة وتحمل أيضاً رسائل ضغط وتهديد لكل من يعمل على وقف الإبادة بالنار. لكنّ المشاهد العربي لن يتابع خبراً واحداً (ولو عابراً) حول دور قاعدة «العديد» في إبادة الشعب الفلسطيني (ومن قبله السوري والعراقي واليمني والأفغاني والليبي). لماذا؟ لأنّ الإمبراطورية الإعلامية المهيمنة على العقول والشاشات تعمل في حمى هذه القاعدة وهي لن تخرج – ولو خطأً – عن مسار الدعاية الإعلامية التي أسست لأجلها تحت ظلال القاعدة الأميركية. من هنا، نستطيع فهم سهولة «العداء» الذي تظهره «الجزيرة» تجاه إسرائيل، مقابل تعتيم كامل ومقصود لدور القواعد العسكرية الأميركية في حرب الإبادة على الشعب الذي تدّعي المؤسسة مناصرته.
هذا التناقض بين التركيز على إسرائيل والتعمية على باقي القواعد العسكرية الأميركية يشتدّ مع اشتداد وضوح المعركة، وخصوصاً بعد «طوفان الأقصى». واليوم، وعلى أعتاب عام من المذبحة المستمرة والمقاومة المستمرة، رغم التجويع والحصار، وبينما تحتشد جيوش أميركا والغرب في بحارنا وعلى أرضنا من كلّ حدبٍ وصوب، بات من الضروري إكمال جملة العداء لتصبح جملة مفيدة؛ فالعداء لإسرائيل وحدها لم يكن يوماً كافياً أصلاً، وهو اليوم مشاركةٌ في جريمة تشويه الوعي والسماح باستمرار الإبادة. عظمة «طوفان الأقصى» وألم الدم النازف في غزة يقتضيان تصحيحاً للجملة وللبوصلة:
اعرف عدوّك… كل القواعد العسكرية الأميركية عدوّك.
* كاتب فلسطيني