الرئيسية / مقالات / أزمة شبه مثقف، إشكالية الهندام والمبدأ

أزمة شبه مثقف، إشكالية الهندام والمبدأ

فيينا / الأحد 02 . 02 . 2025

وكالة السيمر الاخبارية

عبد الرحيم الجرودي / المغرب

مثقفنا نموذج للبؤس والجبن والخيانة، يبيعك عند أول صفعة يتلقاها من مخبر، يساري الهوى جبرا، امبريالي الطموح مع رشة كفر، مفكر بلا إنتاج، منظر بلا فعل في زمن يمضي ولا يتوقف. يعطي انطباعا كأنه الحصن الأخير للقيم الإنسانية والمدافع الشرس عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، لا يكف الحديث عن الثورة ومقاومة الظلم والاستغلال، وعند المواجهة والتمحيص لا يتردد أبدا في دوس أجساد رفاقه والوشاية بهم بسبب الخوف من المواجهة الحقيقية، إلا أنه والشهادة لله، يمقت الرجعية، فهو حداثي حتى النخاع.
هو شخص يفهم العالم من خلال محرابه المتنقل يسارا ويمينا، ورغم شعوره بأن العالم لا يهتم لتحليلاته العميقة، يشارك رؤاه حول نظرية تفكيك الخطاب الفلسفي في زمن الرداءة على منصة X ، ليعلق أحد معارفه قائلا: بدل الفلسفة أكتب شيئا مفيدا؟ هذا الرد يحطم الروح المثقفة لديه ويستفز أناقته ويدفعه إلى كتابة رواية عاطفية مؤجلة، بعنوان: عزلة المثقف خيار وجودي، لأنه لا يريد أن يكون ظاهرة صوتية أو ملصقا سينمائيا مبتذلا. هنا تكمن أزمته التي تشكل مراسيم سحره وغموضه.
يعيش مثقفنا على هامش الحياة، بينما يعتقد أنه في قلبها. ولعل هذا التناقض هو ما يجعله مميزا، ابتداء من طقوسه اليومية، فالسهر والاستيقاظ في وقت متأخر، وشرب القهوة ببطء، ثم الجلوس أمام الحاسوب لكتابة مقال طويل نوعا ما عن “أزمة المثقف” في زمن أصبحت فيه الثقافة موضة جديدة، والمثقفون أبطال على منصات التواصل الاجتماعي. يبدو أن هذه الأزمة ليست كغيرها، فهي ليست أزمة جوع أو فقر بل أزمة هوية وانتماء في نظره.
إذا كنت تحب التعرف عليه أكثر، أرجوك لا تبحث عنه في عوالم صيحات الموضة أو العطور الغالية لأنه لا يهتم بها، فهو مشغول بقضايا أعقد من تنسيق ألوان ملابسه. يرتدي قميصا يبدو وكأنه قد مر عليه عقد كامل من الزمن، لم ير المكواة منذ القرن الماضي لأنه غالبا يذكره بانتمائه الطبقي ويؤوخ لمرحلة سياسية لعب فيها دور الدينامو المشغل للفعاليات الثورية، أما وشاحه الذي يضعه حول عنقه صيفا وشتاء وقبعته الروسية، فإلهام بيولوجي. أما سراويله فدائما تبدو على غير مقاسه تمامًا، إما واسع بشكل غريب يكاد يسقط دون سابق إنذار أو ضيق حد إبراز عقيدته. أما الحذاء وما أدراك ما الحذاء إنه سرد لتاريخ الحضارة الإنسانية عبر التصبغات والخدوش، سفينة نوح وبساط علاء الدين، كلما كان مهترئا زادت مصداقيته الثقافية، إذ يدل ذلك على أنه يقطع المسافات بحثا عن الحكمة والإلهام بطريقة تجعله يتساءل كيف يمكن للإنسان أن يتخذه وسيلة للستر قبل الحركة.
أما النظارات يا سادة، فليست مجرد أكسسوار لتحسين الرؤية، ومن يعتقد ذلك فهو مخطئ تماما، لأن مثقفنا يعتبر النظارات رمزا للذكاء والعمق والأناقة أيضا. حتى لو كانت عيناه في حالة ممتازة، لأن ارتداء نظارات بدون إطار أو ربما بنصف إطار تجعله يبدو وكأنه يفكر في أمور أكبر بكثير من قدرة الإنسان العادي على الفهم، وهذا أمر يؤكده صديقنا علال من خلال خبرته في سبر أعماق المثقفين الذين يترددون عليه. فرواد الثقافة يرتدون نظارات طبية حتى وإن لم يكونوا بحاجة إليها، لأنها تضيف سحنة من الغموض والعمق، حتى لكأنك إذا نظرت إلى أحدهم تبادرإلى ذهنك أنه يفكر في نظرية ما بعد النسبية أو ربما في معنى الوجود بتصور رباعي الأبعاد. وفي الواقع، قد يكون فقط يحاول تذكر اسم الطبخة التي تناولها في الليلة الماضية. أما الشعر (إن كان له شعر) فهو حكاية أخرى، غالبا ما يكون مبعثرا كأفكاره، وقد يحاول أن يجعله يبدو وكأنه غير مصفوف عمدا حيث يبدو وكأنه خرج من معتقل أو من معركة مصيرية طويلة مع الوجود. ففي عالم يعج بالفوضى والصراعات، حيث يستوطن مثقفنا عالمه الخاص بهويتة الفريدة والأساسية حيث الأفكار أهم من الواقع، والمظهر أقل أهمية من الجوهر، يذكرنا دائمًا بأهمية التفكير والتأمل حاملا شعلة الثقافة على كتفه.
في هذا العالم يبدو أن هناك الكثير من العادات الغريبة التي تجعل من مثقفنا شخصا لا يمكن فهمه إلا إذا كنت مثله، كما أن المجتمع لا يتفهم دائما معاناته في وسط لا يدرك مثلا أبعاد الديالكتيك الهيغلي ولا يشغله مصير العالم بعد الحداثة حيث يتم تفكيك السلطة من خلال الخطابات البنيوية التي تعيد إنتاج الهيمنة الرأسمالية، الأمر أكثر تعقيدًا مما يبدو، خاصة عندما يمتهن السياسة لأن ذلك يجعله يبدو وكأنه يمتلك الإجابات على جميع الأسئلة المتعلقة بمصير كوكب الأرض.
لا تتفاجأ إذا رأيته يحمل منسوخا سميكا لم يفتحه منذ أسابيع لأنه مشغول بقراءة كتاب آخر، أو ربما لأن الكتاب الذي يحمله ليس سوى ديكور جميل لإطلالته اليومية وهو يتردد على مقهى لتقديم صورة اجتماعية مقبولة، أو حتى لبناء شبكة علاقات قد تفتح أمامه أبواب الفرص مستقبلا، فهو مجرد مستفيد من حالة الغضب الاجتماعي، يستغلها لتحقيق مكاسب شخصية، وهذا ما وقفنا عليه واقعا معاشا، رغم إنكاره.
يجلس في زاوية استراتيجية بحيث يراه الجميع، لكنه يتظاهر بأنه غير مهتم بأحد، متجهم يحمل هموم البشرية على كاهله محاولا التأمل في التشكيل الطبقي لرواد المقهى متكئا بيده على جبينه، غارقا في تفكير عميق حول بؤس العالم. قد يسجل ملاحظات غامضة في دفتره المهترئ، لكنه في الحقيقة يرسم خربشات بلا معنى، فقط ليبدو مشغولًا بقضايا تفوق فهم العامة حتى تفاجئه النادلة بالسؤال، ليطلب قهوة سوداء، فتسأله عن سكرها ليغازلها مغازلات فلسفية، فيقتبس من شعر بودلير وقليل من شعر قيس.
تهز النادلة رأسها باحترام وابتسامة مبتذلة وتستأذن بلطف وهي تفكر في كيفية التملص منه ومن حديثه وشكله الممل وهو يريد إقناعها أن السكر يفسد لذة البن.
كل شيء يحتاج عند مثقفنا إلى تحليل عميق، وكل كلمة تحتاج إلى تفسير فلسفي. شعوره بالتميز يضفي عليه نوعا من الغرور ليحدث نفسه عن الجمهور الجاهل الذي لا يفهم شيئًا. قد ينخرط مثقفنا في نقاش جانبي حول سؤال بسيط عن معنى السعادة ليجد نفسه بعد دقائق قد تصدر الطاولة المجاورة ليناقش الوجود والعدم، وتأثير الجاذبية على الروح البشرية. لا يعرف كيف يتوقف عن التفكير. حتى الصمت يجب أن يفسر، وحتى فنجان قهوته الذي برد منذ ساعة وهو يتوسط أكواب الشاي التي ملأت الطاولة يجب أن يُفهم في سياق سياسي واجتماعي. الجميع يخرجون من النقاش بنفس الحيرة التي بدأوا بها متذمرين، ولكنه ينظر إلى من حوله بأسى وفخر، قبل أن يعود إلى تأمل فنجان قهوته بسعادة لأنه جعلهم يدفعون عنه. يحدث نفسه خلسة: التفكير هو الهدف وليس الوصول إلى أي استنتاجات فعلية. فالمهم في هذه اللحظة هو كتابة تدوينة على فيس بوك تؤرخ لهذه الملحمة، حتى لو لم يكن أحد يسأل، فهذا مجتمع لا يقدّر المثقفين أمثاله.
لا بأس عليك عزيزي القارئ، إن لاح لك في الأفق صورة مخلوق بهذه المواصفات قد أصبح مسؤولا أو حتى وزيرا، فهو مشهد من واقعنا البئيس وليس دربا من الخيال، فأي تشابه في الصفات والمواقف هي مجرد صدفة تتكرر على امتداد الجغرافيا والتاريخ.

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات

اترك تعليقاً