فيينا / الأحد 20. 04 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
عبدالرحيم الجرودي / المغرب
حين تتشنف أذنك بعبارة “ضحكوا علينا” على لسان مناضل عتيد، فلا تحسبنها مجرد كلمات نابعة من لحظة خيبة شاردة على مسرح العمر، بل هي صرخة مكتومة تختزل تاريخًا من التضحيات والدموع والدماء، وتستشرف حلما تبخر بين كواليس المصالح الشخصية وألاعيب الانتهازيين.
ما أكثر الذين انخرطوا بصدق في مشاريع سياسية ووطنية كبرى حاملين قضايا شعوبهم على أكتافهم، مؤمنين بأن التغيير يبدأ من الالتزام بالمبادئ، وأن الوطن لا يبنى إلا بالتضحية ونكران الذات. ولكن الزمن، كما يقال: كفيل بكشف الأقنعة، وتعرية النيات، وتمييز الصالح من الطالح.
فمع مرور السنين، تفاجأ كثير من هؤلاء المناضلين الملتزمين بأن المشروع السياسي الذي دافعوا عنه وتحملوا في سبيله السجون والإبعاد والملاحقة، أصبح شيئا آخر لا يشبههم، ولا يمت لقناعاتهم المؤسسة بصلة. فالتنظيمات التي كانت يوما ما منارات للفكر والتنوير والعدالة والنضال، تحولت إلى دكاكين سياسية للتملق والاسترزاق، وصالات انتظار لحجز مقاعد في مجالس وهمية صممها الطغاة للحفاظ على أنظمتهم الشمولية الفاسدة.
كانت خطة تسلل هؤلاء الانتهازيين إلى مفاصل التنظيمات الوطنية محكمة وبرعاية أجهزة المخابرات ليحكموا قبضتهم بمعية المتطفلين وضعيفي النفوس على الهياكل التنظيمية، ويعيدوا تشكيلها بما يخدم مصالح الوكلاء ومصالحهم الشخصية. أصبح الطريق إلى القيادة مفروشا بالمجاملات، والولاءات الزائفة والتقرب من مراكز النفوذ، في حين جرى تهميش الشرفاء، وإقصاء من ظلوا أوفياء للمبادئ.
وجد المناضلون الحقيقيون الذين دفعوا من أعمارهم ثمناً لحرية غيرهم، أنفسهم فجأة خارج الحلبة، لا مكان لهم في منظومة تحكمها المصالح الضيقة والصفقات، وتدار بمنطق الربح والخسارة، مع تجميد أدوارهم وتجاهل تضحياتهم حتى أصبح ينظر إليهم كعقبة أمام “المرحلة الجديدة”، التي تتطلب في زعمهم “براغماتية” و”مرونة” و”فهما للواقع”، مصطلحات فضفاضة تُستعمل لتبرير التخلي عن المبادئ والإنبطاح.
عبارة “ضحكوا علينا” تكشف خدعة كبرى تمتد بين وعد كاذب وخديعة كبرى، تعكس مأساة جيل كامل آمن بإمكانية التغيير من الداخل، وظن أن العمل السياسي النزيه يمكن أن ينتصر ولو بعد حين. فخابت آمالهم، لا لأنهم فشلوا، بل لأن المشروع اختُطف وحُرف وابتُلِع من طرف طفيليات لا تؤمن بشيء سوى مصالحها الشخصية المبتذلة، فالمناضلون الذين حلموا بوطن يتّسع للجميع، وجدوا أنفسهم مطرودين من جنة كانوا هم أول من زرع أشجارها، والمشروع الذي آمنوا به انحرف ولم يعد يُدار بعقل جماعي، ولا تُتخذ فيه القرارات من القواعد التنظيمية، بل في غرف مغلقة يتداول فيها المتسلقون أسماء بعضهم البعض لتقاسم المناصب والهبات والمنح.
رغم الحزن ورغم الألم لا يزال كثير من هؤلاء المناضلين يحملون في داخلهم قبسًا من النور. يكتبون، يشهدون، يفضحون، يرفضون أن تموت الحكاية بصمت. لكنهم يتساءلون، بمرارة لا تخلو من وجع: “هل يستحق هذا الوطن أن نضحي من أجله؟ أم أن الوطن نفسه صار لعبة بين أيدي الانتهازيين؟”
الإجابة ليست سهلة، لكن الأكيد أن الاعتراف بالخديعة لا يعني الهزيمة، بل قد يكون بداية لولادة جديدة من رحم الألم. فكثير من المصلحين لم يبيعوا أحلامهم، بل دُفنت معهم لتزهر من جديد.
“ضحكوا علينا” ليست نهاية الحكاية، لكنها جرس إنذار يدعونا لنُقيِّم ونُراجع ونعيد البناء من جديد، على أسس صلبة، تضمن ألا يُضحك علينا مرة أخر. “ضحكوا علينا“، نعم… لكنهم سقطوا ولن يضحكوا إلى الأبد.
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات