الرئيسية / ثقافة وادب / قصة قصيرة / الأرجوحة

قصة قصيرة / الأرجوحة

فيينا / الأحد 04 . 05 . 2025

وكالة السيمر الاخبارية  

سعاد زكراني / المغرب 

تسير الطفلة وهي تحمل حقيبتها على ظهرها. تتمايل ضفائرها كأنها تداعب جسدها الصغير كالنحلة التي تحتفي بوردة من زهور القلعة، في طريقها إلى المدرسة الواقعة على تلة عالية. مرت سنتان وهي تسلك هذا الطريق المتعرج بين الحقول مع بقية أطفال القرية وسط ضباب كثيف، وعلى التلة الأخرى تمتد أشجار اللوز وأريج الورود. تبدو الطفلة كأنها لا تسمع سوى صوت المعلمة، وأصوات أطفال المدرسة، والجرس الصغير الذي يعلن بداية الفصل. كان لديها عالمها الصغير الخاص بها، ولكن عندما أصبح كل شيء غير جيد، سألت: “أين ذهب أخي، يا أمي؟” فأجابتها: “إنه بالخارج يلعب مع الأطفال الآخرين”. 

كان محمد يكبر زهرة بثلاث سنوات، وعندما لا يكون مع الآخرين، تستطيع زهرة أن تجده بسهولة في الفناء الخلفي. كان لديه أقفاص للأرانب، وكلما عادت أخته من المدرسة، كان يشاكسها برسم ضفائرها على لوحته، وهي تهم بملاحقته بينما يحاول الاختباء خلف والدته في أسعد لحظاتها مع أطفالها.أما أمي، وكعادتها بعد أداء صلاة الفجر، تختفي في المطبخ ثم تنشغل مع باقي النسوة في حياكة السترات الصوفية لتحمينا من البرد القارس في الشتاء، وقبل كل شيء، تقوم بصناعة السجاد الملون لمهرجان الورد.عاد الربيع ومعه الموسم الذي تُقطف فيه الورود. سارت النساء على الأقدام في الصباح الباكر، ووجوههن مبتسمة وهن يضعن الورود بتؤدة كما لو كن يصنعن سبيكة ذهبية.

تخجل شقائق النعمان من لون خدودهن القرمزي، وتدغدغ هبات نسائم الصباح أصواتهن، فتحمل صداها إلى أعالي جبال الأطلس. تبعث هذه الأصوات بالدفء والحياة، فتتمايل الورود في الهواء. تنهض الشمس من سريرها، فتتزين بثوبها الفضي وتلحق بموكب النساء لتدفئ أجسادهن وتكسر الأشواك التي خدشت أقدامهن وأيديهن. كبرت زهرة، وسحر الورد يسكر روحها ويغمر كل بيت في القلعة.

“متى سيتسنى لي أن أرتدي تاجاً حقيقياً؟” تساءلت وهي تمسك بإكليل بين يديها، تنسدل منه أشرطة ملونة وذكريات من زمن مضى.

“لقد وعدتني أمي أن أرافقها في جني الورود هذه المرة، وتهديني أول إكليل زهور لهذا العام!”

هتفت زهرة لفتيات فصلها وهي تداعب ضفيرتيها بفخر عند عودتهن من المدرسة.

ذات صباح، انفتح باب الغرفة ودخل والدها، مرسلاً إليها نظرة حادة من عينيه العميقتين، ثم جذب بقوة حقيبتها المدرسية من يديها. وقال بصوت عالٍ: “لن تذهبي إلى المدرسة بعد اليوم. ابني الوحيد هو من سيكون فخر العائلة”. ثم أمسك بدفترها الملون ولوح به نحو الأعلى بينما كانت والدتها تغادر الغرفة في صمت، وقد خفضت بصرها إلى الأرض. شعرت في تلك اللحظة بغصة في قلبها وهي تكتم مشاعر الغضب التي تعتمل في صدرها. “ماذا حدث فجأة؟” تساءلت في حيرة.

توجهت زهرة إلى غرفتها، تحت ضوء القمر، تغني ألمها وتناجي حلمها الضائع. مرت الأيام والسنوات، وفي لحظة تأمل أمام مرآتها، خلصت إلى أن شعرها الأسود المسدل هو بالفعل هبة من السماء. وعادت بها الذاكرة إلى عقد من الزمن، حينما كانت تحمل وروداً مجففة تساقطت من دفتر صغير كان على الأرض. التقطتها بيدين رقيقتين ووضعتها في مزهرية فارغة، محتفظةً بذكريات جميلة في قلبها. 

تسلل يوم آخر عبر النافذة ومعه صورة لمعَلِّمتها وهي تمسك بحبلي أرجوحة، والطفلة التي تبلغ من العمر خمس سنوات تجلس هناك، يهتز جسدها الصغير نحو الأمام تارة، ونحو الخلف مرةً أخرى. تستمر تلك اللحظات حتى يحل الليل ويتسرب الضوء الخارجي إلى الدهليز المعتم، بينما أصابعها مشدودة حول قماش سريرها، مستمتعة بإيقاع الأرجوحة بين ذكريات تخدش قلبها، في انتظار طلوع قمر جديد. ما الذي جعلها تتذكر الآن، في هذه اللحظة تحديدًا؟ كان يوم الأمس عادياً، وكذلك أول أمس. لقد مضى وقت طويل منذ أن التقت بأحد ينبش في حلمها القديم، ذلك الحلم الذي نسيه الأقربون منها.   

إلى أعلى، ارتفع الدفتر الملون منذ عشر سنين. “هل تراه لا يزال موجودًا؟” هناك أحرف نسجتها أنامل صغيرة بأماني وأحلام كبيرة. صعدت فوق الكرسي ومدت يدها نحو الخزانة الخشبية. كان الغبار يحمي كتلة صغيرة من الورق. سحبتها ونزلت عن الكرسي، وافترشت الأرض، وكانت تمسح الغبار عنها بلهفة، رغم مضي عشر سنوات، حيث انقضى عمرها وزاد عمر الدفتر. احتضنته بينما امتلأت عيناها بالدموع.عاشت تحت ضوء القمر عشر سنوات. في المساء، تبدأ حياة جديدة، تخصها وحدها، ليست مرهقة ولا مترددة في النهوض، واثقة من خطواتها رغم الظلام. انتظرت الليل وعتمته، بينما الجميع نائمون في هدوء وسكينة. بدأت تبحث عن ضوء القمر، تمشي ببطء ولطف على أطراف أصابعها، تود عدم إيقاظ أحد. تتلمس الجدار، وكان قلبها يتسارع خوفًا من أن يخذلها صمت المكان.

ذهبت إلى غرفة أخيها حيث كان هناك السرير الذي ينام فيه محمد، وطاولة صغيرة مستديرة تحتوي على دفاتر وكتب متناثرة من حولها، وسجادة قديمة على الأرض. اقتربت من الطاولة وأمسكت كتابًا بسرعة، ثم عادت إلى غرفتها ببطء وبدأت تغوص في الكلمات. كثيرًا ما كانت تنام والكتاب على صدرها، يكاد يسقط على الأرض. أخذت بتلات مجففة من المزهرية وضمتها في راحتها، استنشقتها حتى كادت شفتاها تلامسان البتلات، ثم أعادتها لحضن الكتاب. بعد ذلك، كانت تعود لتنسل في عتمة الليل، وتفتح غرفة أخيها الذي غادر إلى المدينة لمتابعة دراسته، تبحث عن مستقبلها الضائع. كانت تلتهم الأحرف والسطور، ولم تنعم زهرة بهذه اللحظات المسروقة إلا في تلك اللحظات.

حل شهر أيار وتزينت القلعة بالورود. “خذي هذه السلة من الورود وانثري بتلاتها حول الناس، سيباركك الله وستصبحين جميلة مثل الوردة”

ذات يوم، رأت زهرة الحلم نفسها وهي تترك حجرة الدرس، حيث انهمرت ورود كثيرة من التلال عبر نافذة غرفتها، وانسابت ضفائرها الطويلة لتصبح ظلًا يخفي جسدها بالكامل وهي تنطلق كطائر عبر النافذة. ثم استيقظت فجأة، قائلة: “أنا عطشى”. “لا تخافي، أنا هنا”. قدمت الأم كأس ماء وحاولت تهدئتها بقبلة على جبينها. ثم حدث كل شيء بسرعة كبيرة حتى أصبحت الطفلة شابة جميلة مثل البدر.

أي فتاة من القرية سترجع بلقب أميرة الورد في أيار لهذا العام؟   

نظرت زهرة اليوم عبر النافذة كطيف جميل ملائكي، بينما تفتر شفتاها عن بسمة حلوة ويشرق محياها! كأنه حلم من ألف ليلة، أجد نفسي، في غفلة من الزمن، في مثل هذا الموكب. لم يسع العالم فرحتي. جاشت في صدري رغبة في أن أغني… أصيح… أهتف… وأنطلق في الهواء، أطير كالعصفور! يبتسم لي الناس، جميع الناس، وتحاط بي الورود. تتصفح زهرة عربة مزينة ومعطرة، ويهتف لها الجميع بينما تنثر بيد مرتجفة بتلات الورد على الأرض التي تمر بها.

” تستحقين كل خير” همست هذه الكلمات بصوت عذب لا يمكن أن تخطئ صاحبته…ومعلمتها.

مهما كانت مشاعري من تهيب أو غفلة، رأيت معلمتي تنسحب أمامي ثم تلوح لي بيدها، وقد بدت لي عن كثب وهي ترتدي بنطالًا ضيقًا وأنيقًا. لوحت لها بيدي، وظللت ألوح وأنا أشعر كأنني ملكة الموكب، حتى بعد أن غابت عن ناظري. الطريق البعيد لن يضللني. أشجار اللوز تضفي على المكان شكل نهاية الطريق، لكنها تمتد مرة ثانية وثالثة.. رائحتها تحمل عبقًا من ماضٍ بعيد. كانت تسكن بالقرب من المدرسة. الطرقات واضحة، وإحساسي أكثر وضوحًا. سأجدها. هناك، وهي تدفع حبلي الأرجوحة، فتتدحرج نسمات قلبي بين الأمس والغد. وجدتها أمامي، ناولتني ظرفًا، ففتحته لأجد فيه منحة دراسية شاملة لجميع التكاليف.

“إن الأيام، التي حرمتني عقدا، تسخو علي، فجأة، بما لا ترقى إليه الأحلام.” 

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات 

اترك تعليقاً