د. نضير الخزرجي
كلما طرق سمعي حديث نبي الرحمة: (إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)، وفي لفظ آخر: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا)، توقفت متأملا في متن الحديث ومراده ومغزاه، وأظل أتساءل: يا ترى ما الذي يفكر فيه المرء عندما تحين قيامته وأجله، وإذا قامت الساعة على البشرية فما هي فاعلة؟
فالمرء في عالم الشهود إذا حلّت بناديه مشكلة أو مصيبة يظل حيرانا لا يلوي على شيء إلا حلّها أو الفكاك من وشائجها، وأكثرنا في مواطن البلوى تزداد شكواه للقريب والبعيد ناسيًا ربّه الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، وكيف وهو يقطع المرحلة الأخيرة من عالم الشهود لينتقل الى عالم البرزخ والغيب؟
لاغرو إن من يعتبر الموت مصيبة وبلاءً فإنه لا خيار له إلا التسليم لقدره مؤمنا كان أو ملحدا، وإن كان الأمل يحدوه لأن يخرج من تحت مبضع مرض الموت مشافيا معافيا، وهو أمل مشروع لكل ذي روح بغض النظر عن الإيمان من عدمه، حيث لا ينقطع أمل الشفاء بالدعاء أو بغيره، على أن الدعاء مرهم وشفاء إن أسبغ الطبيب الأعلى على عبده وضوء العافية أو نقله إليه عبر المَلَك عزرائيل، فالدعاء في الحالتين زاد العبد في عالمي العاجل والآجل.
يا ترى لو كان في يد أحدنا فسيلة ونادى منادي الموت أن أقدم إلى حتفك .. هل يرميها بعيدا أو يقدم على غرسها لينتفع بها في عالم الشهود غيره وينتفع بآثارها ملحودا في قبره!
لو كان في يد الكاتب قلمه ونابه مرض الموت، هل يستسلم لقدره ويغلق على دواته ويتوقف عن بري قلمه!
لو جرى المال في يد التاجر يداوله هنا ويناقله هناك، ثم أمسك المرض يده وكبّل الوجع قدمه، هل يتوقف عن الإستثمار ويدع تجارته هملا!
وغيرها من الأمثال التي نعيشها ونمارسها كل يوم، وهي حاكية عن الحركة الدؤوب ومواصلة العطاء والبناء في السراء والضراء.
بل وأكثر من ذلك عطاءً هو التجديد فيه وتحسينه وتطويره، فالتاجر لم يصبح تاجرا وهو في بطن أمّه، بل عركته الحياة وذاق مرارتها وتنوع في الأعمال حتى بلغ مبلغ رجال الأعمال طال عمره أو قصر، وهو حيث وصل اليه ما وصل لا يرضى بما بلغ، يطلب المزيد، ومن طلب المزيد مراعيا للقواعد الحياتية نال العلى، وخير الزاد ما نفع العباد.
وبتعبير آخر إنَّ إنماء العمل أو العلم أو المال أو الأرض أو النفس أو الأخلاق أو التربية، أو أي مفردة من مفردات الحياة، هو عملية حيوية دالة على نشاط الفاعل الذي لا يقنع بالقليل مع قدرته على كسب المزيد وإكساب الآخرين مما وهبه الله وأعطاه، ولهذا جاء في الحديث النبوي الشريف على سبيل المثال: (من قال أنا عالم فهو جاهل)، لأنّ العلم محيط عميق القاع، يغترف منه المتعلم بقدر سعيه، والعالم الحقيقي هو الذي قال فيه الإمام علي عليه السلام: (لا يستحيي العالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا علم لي به)، وقوله “لا علم لي به” هو بحد ذاته علم يدفعه لأن يبحث عن جواب السؤال فيزداد معرفة وينمي عيبة معلوماته، ولذلك فإن من التنمية التطلع نحو المزيد، وقد ورد عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قوله: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في نقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة).
فالتنمية وما أدراك ما التنمية الثمرة المثمرة التي تتطاول إليها الأيدي بحب وشغف، يتابع أحكامها الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب “شريعة التنمية” الصادر في بيروت نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 48 صفحة متضمنا 75 مسألة شرعية مع 37 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري إلى جانب مقدمة الناشر ومثلها للمعلِّق مع تمهيد أبان فيها الكرباسي معالم التنمية ونتائجها الطيبة.
إنماء ذو شعب
شاع في القرن العشرين الميلادي بعد الحرب العالمية الثانية مصطلح “الدول النامية” في مقابل الدول الصناعية، أو بلدان العالم الثالث في مقابل العالمين الرأسمالي (الناتو) والإشتراكي (محور روسيا السابقة)، ومصطلح الدول النامية التي تشكل -حين اطلق المصطلح- نحو 70 بالمائة من سكان الكرة الأرضية في واقعه يعكس التباين الكبير الذي عليه البشرية بين مجتمع غني وآخر فقير، بين حكومات تستغل ثروات الآخرين لتنمية بلدانها، وبين حكومات ضعيفة أو ظالمة أو عميلة لم تستطيع استغلال ثرواتها البشرية والإقتصادية وما تحويه الأرض باطنها وظاهرها، ورغم محاولات عدد من الدول النامية القفز إلى الإمام، فإن القرن الواحد والعشرين الميلادي شهد اتساع الهوَّة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، فازاد الفقير فقرا وازداد الغني غنى على أن غنى البلدان الغنية غنى ظاهر لأنه محتكر من قبل عدد من العوائل والأسر الثرية والشركات العملاقة، فحتى الدول الغربية يعيش في بعضها من الفقراء والبائسين والمشردين أكثر من بعض البلدان النامية نفسها.
هذه الحقيقة يتابع الفقيه الكرباسي جانباً من مسائلها في “شريعة التنمية”، وفي تقديره: (تُعد التنمية البشرية أهم التنميات لأنها بالتالي تقوم بتنمية العقل البشري الذي وراء كل تنمية أخرى سواء في المجال العلمي والتوعوي أو في المجال العملي والصناعي، فلا يمكن الحديث عن أيّة تنمية من دون تنمية العقل والفكر، إذ هما الأساس لكل تنمية أخرى، وإذا ما ضُمَّت إليهما التنمية الأخلاقية فإنها تخلق المعجزات من دون الوقوع في المتاهات).
ومن التنمية العقلية التخلص من الإحتلال العسكري والإقتصادي والثقافي الذي تفرضه الدول الكبرى على دول ما تسمى بالدول النامية أو العالم الثالث، وأول سلّم في هذا الطريق هو العمل على إنماء الذات، وبتعبير الفقيه الكرباسي في تعريف التنمية: (العمل على زيادة الجانب الإيجابي في الشيء، أيًّا كان متعلقه من ذات إنسانية أو فيما له علاقة بتصرفات الإنسان)، وبتعبير أوضح: (التنمية قد تكون للإنسان نفسه في الجانب الإنساني وبناء بنيته التحتية لنحو الكمال وذلك بتفعيل قوى الخير فيه ليكون إنسانًا فاعلًا صالحًا قادرًا على فعل الخير من خلال بناء شخصيته الإنسانية).
وحتى تأخذ التنمية دورها الإيجابي في حياة الإنسان والمجتمع والأمة، فلابد من التمسك بالأخلاق والعقيدة لأنهما في نظر الفقيه الكرباسي: (ضمانتان أساسيتان لعدم الإنحراف في كل تنمية، فإذا ما نما المجتمع على أسس أخلاقية لا يمكنه أن ينحرف إلى ما لا يضره، ويقضي عليه بالفساد الأخلاقي الذي منه الكذب والدجل)، وحتى يقرّب المعنى يضرب مثلاً بالتنمية العملية التي عليها الولايات المتحدة، فعندما تخلت عن الأخلاق ضربت اليايان بأسلحة محرمة دوليا خلال الحرب العالمية الثانية، ولهذا يؤكد: (إذا ما قُرنت الأخلاق والعقيدة بالنسبة إلى التنمية الصناعية فمن المستحيل أن يستخدم الإنسان الطاقة النووية في التوجه نحو الدمار والهدم والفساد)، وعندما تغيب الأخلاق وتنعدم يُصار إلى استخدام التنمية العلمية في تدمير الإنسان والحيوان والبيئة والإضرار بالطبيعة والفضاء كما في الأسلحة الذرية والنووية والجرثومية والبيولوجية والغازات السامة التي استخدمت في حروب القرنين العشرين والواحد والعشرين، وما زالت، فضلا عن استخدام التقنية العلمية في غزو البرمجة الإلكترونية للبلدان للسطو عليها أو تخريبها وما يعرف بالحرب الإلكترونية أو الحرب السيبرانية (Cyber electronic warfare -cyber EW-).
التنمية أولا
لا يجد المرء الثروة المائية في المياه الراكدة، وبالتأكيد فإن الخير يحصل عليه في المياه الجارية من نهر وبحر محيط وبحيرة متجددة، ولا يجد الإنسان الخير في الجمود، لأن في الحركة بركة، ومن البركة التجديد والتنمية والتطوير، وهو ما يقول به العقل الإنساني السليم، ولهذا يعتقد الفقيه الكرباسي أنه: (من المطلوب شرعا أن ينمّي المؤمن نفسه وعقله نحو الأفضل وعدم تركهما في حالة من الجهل أو السذاجة ما دام قادرًا على التغيير نحو الأفضل)، ويزيد الفقيه الغديري معلِّقا: (ويمكن القول بوجوب ذلك بنحو من الأنحاء وبوجه من الوجوه، وبحسب الموارد لو لم نقل بالعموم والإطلاق)، وربما هي إشارة إلى قوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) سورة هود: 61، فالله الذي خلق الإنسان وأهبط آدم إلى الأرض أراد منه تشغيل عقله لاستعمارها عبر الإنماء والتطوير واستخراج خيراتها ولهذا يُقال للكرة الأرضية “معمورة”، وبتقدير الكرباسي: (التنمية البشرية تكمن في تنمية القدرات التي أنعمها الله عليهم، منها العقلية ومنها النفسية ومنها الفكرية ومنها العلمية ومنها الثقافية ومنها المعرفية والإنتاجية).
ولا شك أن العلم مفتاح كل تطور وتنمية، والبلد الذي ينفق على الأبحاث العلمية والتطور في المجالات الحياتية المختلفة هو الذي يبتوأ مقعده بين الأمم بخاصة إذا استخدم التطور في الصالح العام، والوحي الذي نزل على النبي محمد (ص) نادى أول ما نادى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) سورة العلق: 1- 5، ولطالما شجع الأمة على التعلم وطلب العلم أينما كان ولو بالصين بلحاظ بعد المسافة آنذاك، لأن العلم يُصار اليه ولو بشق الأنفس، ولو استعرضنا جانبا من النسب المئوية للإنفاق على البحث والتطوير من إجمالي الناتج المحلي حسب بيانات البنك الدولي، لاكتشفنا علة تفوق بلد على آخر، فعلى سبيل المثال أنفقت كوريا الجنوبية سنة 2017م 4,55%، إسرائيل 4,54%، السويد 3,33%، اليابان 3,21%، ألمانيا 3,02%، أميركا 2,79%، وروسيا 1,11%، فيما أنفق العراق 0,04%، وإيران 0,83%، وبشكل عام فإن العالم العربي أنفق سنة 2011م 0,56%، فيما أنفقت أميركا الشمالية سنة 2017م 2,69%، والإتحاد الأوروبي 2,13%.
ولأن الأمم ترتقي سلّم المدنية والحضارة بالعلم فإن الفقيه الكرباسي يشدِّد على أنَّ: (المنهاج الدراسي لابد وأن يعتمد على التنمية الذاتية للطلاب)، و(يجب أن تكون المدارس مركز إشعاع فكري وأصيل وبناء المنتسبين إليها وتنميتهم) باعتبار المدرسة نواة العلم وتطوره، وعلى الحكومات ومن بيده مقاليد الحكم وشؤون العباد أن يبذل المزيد في هذا السبيل، ولهذا يشير الكرباسي إلى أن: (صرف المال في هذه الإتجاهات التي ذكرناها – التنمية البشرية بكل صنوفها- لا يُعد من التبذير بل مستحب مؤكد لمن له القدرة على ذلك)، ويزيد الفقيه الغديري على ذلك في تعليقه: (بل وقد يجب بلحاظ الشخص والمجتمع)، ولهذا على مستوى فردي يؤكد الكرباسي: (إذا وجد الإنسان في نفسه قدرة على الإختراع وكشف الحقائق التي أودعها الله في مخلوقاته عليه أن ينمِّيها ويفيد نفسه وغيره، وإذا انحصر فيه وأدرك ذلك وجب عليه وجوبًا عينيًّا).
ولأن التنمية بأنواعها فيها مصلحة البلاد والعباد، يقرر الكرباسي إنه: (إذا تقاعست الجهة المسؤولة عن التنمية فعلى جميع الأمة العمل على إعادة الأمور إلى نصابها بالطرق السلمية)، لأنه في الأساس: (من الواجب على المسؤولين القيام بتنمية شعوبهم في جميع مناحي الحياة وتنمية البلاد في جميع الإتجاهات والإخلال بذلك موجب للفساد وهو محرّم شرعًا)، وهذا الرأي الذي يذهب الكرباسي يعكس أهمية التنمية البشرية في تقدم الأمة والعكس بالعكس، ولهذا يدعو الأمة بمؤسساتها المعنية إلى أخذ زمام المبادرة بالتي هي أحسن إذا تقاعست الحكومة عن ذلك، لأن واحدة من آثار التنمية هو الإكتفاء الذاتي، وهو مدعاة للإستقلال السياسي وحفظ كرامة البلد وقطع دابر قوى الشر المحلية والإقليمية والدولية واستئذابها، وفق القراءة الحكيمة التي يقررها أمير الكلام والحكمة علي بن أبي طالب عليه السلام: (أُمنن على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره)، وهي قاعدة تنموية على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، فمن تدرّع بها ظفر بالنائلة، ومن تخلى عنها لم يأمن الغائلة.
الرأي الآخر للدراسات- لندن