السيمر / الجمعة 11 . 03 . 2016
كاظم فنجان الحمامي
لابد من احترام خصوصيات الشعوب، فخصوصيات الإنسان ترتبط بخصوصيات احترام الشعوب، وقد اقتضت حكمة الله أن تختلف ثقافات الشعوب والأمم، فالتنوع الثقافي يشكل أهم جذور التنمية، وإن أهميته للجنس البشري شبيهة بالتنوع البيولوجي في الطبيعة، ولن يكون هنالك تفاهم بين الشعوب من دون احترام تلك الخصوصيات.
بداية لابد أن نتفق على إن فضائياتنا، التي دأبت على تشويه صورة الأقطار غير العربية لن تقلل من شأن تلك الأقطار، ولن تؤثر عليها، لكنها تخدعنا وتضحك علينا، وربما تقودنا شطحاتها إلى منزلق التورط معها في جريمة الاستخفاف بالشعوب والأمم، فنشتم الناس ونحقد عليهم من دون أن نتعرف على حقيقتهم.
قبل بضعة أيام اضطررت للسفر إلى إيران، وعلى وجه التحديد إلى الأحواز من أجل إجراء عملية جراحية في عيادة طبيب الأسنان (كاميران بهمن)، فكانت هذه أولى زياراتي للأحواز، وقد اخترت الأحواز لأن أهلها يجيدون العربية بلهجتها الريفية الجنوبية، ولأنني لا أجيد اللغة الفارسية، ولا هم يجيدون الإنجليزية، فجاء اختياري لها باعتبارها تمثل الحل المتاح للطرفين، وقد وجدتها فرصة سانحة للتعرف مباشرة على ديمقراطية إيران ومقارنتها بديمقراطية بلدان المنطقة.
مكثت هناك عشرة أيام بلياليها. تجولت فيها على راحتي من دون قيود احترازية، ومن دون مضايقات أمنية، فزرت الزقورة السومرية في موقع جغازنبيل، وكتبت عنها أجمل مقالاتي الاستطلاعية المصورة (نشرتها صحيفة المستقبل العراقي)، وزرت ضريح سيدنا (النبي دانيال) في الشُوش، ثم توجهت نحو قرية (البيضاء) في شيراز لزيارة قبر عالم النحو والصرف (سيبويه).
كانت دهشتي عظيمة عندما شاهدت الناس على حقيقتهم، وعندما اكتشفت إننا لا نعرف شيئاً عن الشعب الإيراني، فالناس هناك لم يسمعوا افتراءات الفضائيات العربية، التي وصفتهم بالمجوس والصفويين، ونعتتهم بأبشع النعوت، ومن حسن حظنا نحن العرب إن الشعب الإيراني لا يقرأ صحفنا، ولا يتابع برامجنا التحريضية، ولا يعبأ بمهاتراتنا الطائفية، فالشعب الإيراني شعب مسالم يعيش على سجيته، ويتصرف بطريقة متحضرة مثلما يتصرف أي فرد أوربي. الناس هناك لا علاقة لهم بالسياسة، ولا علاقة لهم بالطائفية – لا من بعيد ولا من قريب.
ربما ينزعج البعض من هذه الحقيقة الدامغة متأثرين بحجم التهويلات الباطلة، التي تبنتها وسائل الإعلام العربية، لكن الحقيقة تبقى هي الصوت الناطق باسم الشعب الإيراني المتطلع نحو الحرية على طريقة الشعوب الواعية الحريصة على مستقبلها، ولا شأن لهم بما يقوله زيد، أو يقوله عمر.
لا أحد يتحدث هناك بالطائفية، فعندما ذهبت إلى شيراز وجدت النسبة العظمى من سكانها من أهل السنة والجماعة. يعيشون هناك من دون أن تكون لديهم أي نوازع تحريضية، وهكذا عندما ذهبت إلى (ديزفول) وجدت الغالبية من سكانها من العرب (الشيعة) مع خليط من القبائل الفارسية والكردية، لكنهم يعيشون هناك بأمن وأمان، من دون فوارق مذهبية ومن دون حواجز تكفيرية. الناس هناك منصرفون إلى أعمالهم اليومية، فالطالب في مدرسته، والفلاح في حقله، والعامل في مصنعه، والبائع في دكانه. ملتزمون بنظام المرور من دون أن أشاهد شرطيا واحداً في شوارعهم، حتى (الحجاب) والزي المحتشم يكاد يكون أقل تطرفاً من المستوى الذي وصلنا إليه، فالنساء هناك يتصرفن كما الرجال. يجلسن في المقاهي، يدخنن الأركيلة، يقدن السيارات، من دون أن يضايقهن أحد.
كانت إيران معتمدة على موارد النفط، فقلصت اعتمادها عليه إلى 15% من ميزانيتها. كانت تستورد القمح، وهي الآن تصدره بسفن عملاقة. كانت صادراتها أقل من خمسة مليارات دولار، لكنها اقتربت من (75) مليارا وهي تحت ظل الحصار المفروض عليها، فما بالك بما ستحققه بعد أن زال شبح الحصار عنها ؟.
جاءت زيارتي لها في موسم الانتخابات التي انتهت قبل أسبوع تقريبا. ذهب الناس إلى صناديق الاقتراع ببطاقاتهم الالكترونية، ثم عادوا من دون أي مضايقات، حتى الصور واللافتات الدعائية كانت قليلة جداً بالمقارنة مع حجم حملاتنا الانتخابية الغارقة في التخلف الديمقراطي.
تطبع إيران أكثر من 300 مليون نسخة كتاب في السنة، وتحتل المركز الأول في المنشورات الثقافية في الشرق. أطلقت قمرين صناعيين إلى الفضاء بجهودها الذاتية، وأرسلت قرداً إلى الفضاء، وأعادته حياً إلى الأرض. تحتل الآن المرتبة (12) في صناعة السيارات، والأولى في الشرق الأوسط، وتنتج أكثر من مليون سيارة في السنة، حقولهم الزراعية غنية بالثمار والمحاصيل، ومعاملهم تعمل على مدار الساعة. لا توجد في أسواقهم سلعة مستوردة، فالأدوية والآلات والمعدات والهواتف النقالة والكومبيوترات والسيارات والدراجات من انتاجهم. قلت لرجل يبيع المواد الإنشائية في سوق الأحواز، لماذا لا تستوردون البضائع التي لا تنتجونها محليا ؟، فقال لي: كلا يا سيدي أنت لا تعلم أننا نستورد هذه المادة من اصفهان، بينما نستورد تلك المادة من تبريز، وأحيانا نجلبها من معامل قزوين، ضحكت وتعجبت، وتبين لي إن التكامل الاقتصادي بلغ عندهم مبلغا عظيما، وإن 85% من ميزانيتهم تعتمد على مواردهم الذاتية، ولن تؤثر عليهم تقلبات البورصة النفطية.
ما لفت انتباهي في إيران أنني لم أر عسكريا ولا شرطيا، ولم أر كلبا سائبا أو قطه تائهة، شوارعهم نظيفة، ساحاتهم أنيقة، حدائقهم وارفة الظلال، أسعارهم رخيصة. يحبون العرب إلى حد الهبل، لا يتحدثون بالمفردات الطائفية، ولا يجيدون المهاترات المذهبية، ولا مجال في جلساتهم ولا في مدارسهم ولا في معاملهم ولا في حقولهم لرجال الدين، فرجل الدين مكانه المسجد، ولا دخل له في حياتهم الخاصة، وإن مفردة (آزادي) وتعني (الحرية) هي الأكثر تداولا بين عامة الناس.
خلاصة القول إن إيران ليست كما يصورها لنا الإعلام التحريضي البائس، ويتعين علينا أن نفهم الشعوب المجاورة لنا فهما صحيحا قائماً على الدقة والموضوعية، وأن لا ننساق وراء الإعلام المضلل واستنتاجاته المغلوطة، حتى لا تضيع علينا الحقائق بين سطور الكتابات غير الواعية.
ينبغي أن نفهم الناس على حقيقتهم، لا كما يصورهم لنا البعض، فالذي يريد أن يحارب إيران يتعين عليه أن يعرف الشعب الإيراني على حقيقته، أما الذين لا يصدقون هذا الكلام فأنصحهم بزيارة إيران والتجوال فيها للوقوف على الحقيقة كما هي من دون رتوش، ومن دون إضافات، ومن دون حاجة لتشويه صورة الشعوب والأمم. المشكلة إن الإيرانيين أنفسهم لا يكترثون بما يقوله البعض عنهم، لأن اهتماماتهم منصبة على كيفية رعاية الأسرة والاهتمام بها، ومنصبة على أعمالهم ومكاسبهم اليومية.
نحن نعلم إن الغرب يخشى إيران، ويحسب لها ألف حساب، لأنها دخلت حلبة التنافس العلمي والانتاجي من أوسع أبوابها، ولأنها تشكل الآن مصدراً مزعجاً لإسرائيل وزبانيتها في المنطقة، ولأنها تتفاوض الآن مع الغرب من مواقع القوة والاقتدار.
أنا أعتز بعروبتي، وأفاخر الدنيا بعراقيتي، لكنني أحرص أشد الحرص على أن تكون الأقطار العربية بالمستوى الحضاري المتقدم. شأنها شأن تركيا وإيران والهند وماليزيا واندونيسيا، وأن لا تضع ثقلها كله تحت عجلات التسليح والتفخيخ والنسف والتخريب، وأن تتوقف عن نشر ثقافة الموت والدمار. وأن لا تراهن على التضليل الإعلامي الذي تخصص بتكريس الطائفية والعرقية والفئوية، حتى جاء اليوم الذي غرقنا فيه في مستنقعات الحقد والكراهية.