السيمر / فيينا / الجمعة 09 . 10 . 2020
مظهر محمد صالح*
بين العقل والإرادة، بدا الثائر الأرجنتيني، أرنستو جيفارا، يقاوم فساد الصمت، في الاجتماع الأول لقيادة الثورة الكوبية، برئاسة الزعيم فيديل كاسترو، ذلك الاجتماع الذي عُقِد بعد أيام من موعد التاسع من كانون الثاني/ يناير 1959، وهو اليوم الذي دخل فيه كاسترو العاصمة هافانا، وقد سبقه دخول جيفارا في اليوم الثالث من الشهر نفسه، بعد أن فر الرئيس السابق باتيستا بطائرته صوب كوستاريكا في الثاني منه.
كان اللقاء بين القادة الثوار هو الأول لرسم خريطة طريق وجدول أعمال بناء الثورة الكوبية، وكان أشبه بمهرجان اللهب الثوري المستعر في موجة برد عاصف، فعند توزيع المسؤوليات الوزارية بين قادة الثورة والتحدث عن البناء البيروقراطي للدولة الثورية، دبت في عروق جيفارا كتلة متحركة من الثلج البارد، وهو يقول في نفسه: إن الثورة تتجمد، وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون على الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة في داخلي.
اتخذ الزعيم عبد الكريم قاسم، في ربيع 1959، قرارا بإرسال وفد فني رفيع الخبرة إلى العاصمة الكوبية هافانا بغية تعميق العلاقات التجارية بين البلدين الثوريين. وبُعيد وصول الوفد، توجه صاحبي للالتقاء بمحافظ البنك المركزي الكوبي، الذي يسمى (رئيس بنك كوبا الوطني)، . . توجه إلى جناح ضم غرفة شديدة البيروقراطية، ليجد أمامه رجلا في فمه سيكارة هافانا وهو يبتسم لضيفه القادم من بغداد. تساءل صاحبي محدثا جيفارا: كيف يمكن للطبيب الثائر أن يصبح مصرفيا، ويدخل في حقل المعارف التطبيقية الاقتصادية؟ وما حدود معرفتك بالصيرفة المركزية؟ هنا، ضحك الثائر جيفارا بوجه الرجل القادم من حوض المتوسط، والذي حط في جزيرة البحر الكاريبي، هافانا، قائلا له وهو يبتسم: أرجو أن تستمع إلى هذه المفارقة، حتى أفرغ من حكايتي. أجابه صاحبي: نعم.
قال جيفارا، مسترسلاً: نادى القائد المعلم، كاسترو، قي اجتماع خريطة الطريق وتوزيع الكراسي، المذكور آنفاً، معلناً، وبلغته الإسبانية: مَن منكم (إيكونومستا)؟ أي اقتصادي. جيفارا فهم أن القائد يقول: مَن منكم (كومنستا)؟ أي شيوعي، فأجاب: أنا، أيها الرفيق كاسترو. قال كاسترو لجيفارا: إذن، ستشغل مناصب اقتصادية مهمة، وفي مقدمتها محافظ البنك المركزي الكوبي. وبين (الاقتصادي) و(الشيوعي)، اختلط المعنيان، ليولدا وظيفة اقتصادية متخصصة للثائر الطبيب جيفارا. عاد الوفد إلى بغداد باتفاقية تبادل تجاري بين البلدين يقايض فيها السكر الكوبي بالتمر العراقي، حين كان العراق من أكبر منتجي التمور في العالم، قبل أن تنتهي بلادنا، اليوم، باستيراد التمور من بلدان الخليج المحيطة، الشحيحة المياه العذبة.
كان السؤال الأول الذي وجهه جيفارا إلى موظفيه قي البنك المركزي الكوبي هو: أين تودع احتياطات كوبا الرسمية من الذهب والدولار؟ كان الجواب في (فورت نوكس) في الولايات المتحدة. عندها، قرر جيفارا تصفيتها وتحويلها إلى عملات أخرى دولية خارج الولايات المتحدة، وتحول الطبيب جيفارا إلى اقتصادي مصرفي ثوري، إذ أخبر شغيلة كوبا وعمالها: بإمكانكم تمويل مشاريعكم الاشتراكية، ولا تشغلوا بالكم قي كيفية سداد تلك القروض. وهنا، يأتي جيفارا على عكس الصيرفة المحافظة الرأسمالية، التي تأخذ المخاطر بعين الاعتبار، حيث تنظر إلى كيفية استرداد القرض قبل منحه، وبأي عائد سيكون.
جعل جيفارا العملة الكوبية في موقع الشهرة. وقد حملت العملة ألجديدة عند إصدارها بعد انتصار الثورة، توقيع (تشي)، التي تعني (الرفيق). ترك جيفارا مكتبه اليروقراطي، في بنك كوبا الوطني وغيرها من المهام الرسمية، لينتهي في أدغال بوليفيا، ولتقتله، بدم بارد، فرق الموت، التي اصطادته في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 1967، في غابة (فالي غراندي) من مقاطعة (لاهيغوبرا) في بوليفيا، عندما كان يقود حرب عصابات ثورية لإسقاط نظام الحكم في بوليفيا، وقت ذاك.
ترك جيفارا رسالة وداع لأطفاله الخمسة، جاء فيها: “وفوق كل شيْ، كونوا قادرين، دوماً، على الإحساس بالظلم، الذي يتعرض له أي إنسان، مهما كان حجم هذا الظلم، وأيّاً كانت مكانة هذا الإنسان، وهذا أجمل ما يتصف به الثوري. وداعا إلى الأبد يا أولادي”.
نعى جون بول سارتر، المفكر الوجودي، جيفارا بالقول: “إنه ليس مثقفاً حسب، ولكنه كان أكمل إنسان في عصرنا”، وقال عنه كاسترو: “إن جيفارا أنموذج لا ينتمي لعصرنا. إنه ينتمي للمستقبل”. ولم أجد أبلغ مما قاله عنه الزعيم الأفريقي، نيلسون منديلا: “إنه مصدر الهام لكل إنسان يحب الحرية”.
ختاما، سألت صاحبي، الذي ترأس وفد الخبراء الرفيع المستوى إلى هافانا والتقى بجيفارا في العام 1959: هل شُحن التمر العراقي من ميناء البصرة إلى هافانا؟ وهل تسلم العراق شحنات السكر بموجب ذلك الاتفاق؟ أجابني: نعم. ولكن، هل علمتم مَن هو صاحبي؟ إنه الأستاذ العلامة الراحل الدكتور عبد المنعم السيد علي، نائب المحافظ الأسبق للبنك المركزي العراقي، وأستاذ النظرية النقدية، الذي توفي العام الماضي بصمت وهدوء، من دون أن ينعاه أحد في بلادي، التي علّم أجيالها بالتعاقب ، علومَ النقود، والصيرفة، والاقتصاد. وربما نعته عائلة جيفارا نعيا يليق به وبأبيها الثائر، لو كانت تعلم بموته.
* خبير اقتصادي ومالي، النائب السابق لمحافظ البنك المركزي