د . ميثم الجنابي
من الناحية التاريخية كان الانتقال الأول للإسلام من الجزيرة إلى ارض السواد والشام (العراق وسوريا) يعني انتقال العقائد الدينية المباشرة إلى مستوى العقائد اللاهوتية والفلسفية والروحية والثقافية. وقد ارتبط ذلك بحدثين كبيرين يمتلكان طابعا تأسيسيا بالنسبة للوجود والفكر على السواء، الأول وهو نقل مركز الخلافة إلى العراق الذي قام به الخليفة علي بن أبي طالب. والثاني نقلها من العراق إلى الشام الذي قام به معاوية بن أبي سفيان. وفي كليهما جرت حروب أهلية طاحنة، كانت تجري من حيث الجوهر بين تيارين، الأول اجتماعي إسلامي عام مثله علي بن أبي طالب وأتباعه المختلفون (من شيعة وخوارج)، وتيار عائلي قبلي يتمثل تقاليد الجزيرة (عائشة وطلحة والزبير في الحرب الأولى، ومعاوية وآل سفيان ومروان في الثانية). ومنهما تبلورت المعالم الأولية للتشيع والتسنن. الأول بوصفه حركة اجتماعية سياسية وأخلاقية مناهضة لنمط “الخروج على حقيقة الإسلام” والثاني يتمثل تقاليد العائلة والقبيلة وأولويتهما في العقائد والسياسة (فكرة القرشية بالنسبة للخلافة، وفكرة الجبرية الدينية والسياسية). وكلاهما ما زالا يؤثران في الوعي التاريخي والسياسي والديني حتى الوقت الحاضر، وذلك بسبب عدم نفيهما في منظومة تذلل هذا الخلاف عبر نقله إلى مستوى آخر من المرجعيات الثقافية الجامعة.
وقد استمر ذلك وتعمق في مراحل الانحطاط وانهيار المراكز الثقافية السياسية العربية الكبرى (بغداد ودمشق)، حتى انهيار الهيمنة التركية العثمانية. وإذا كانت اغلب عقود القرن العشرين أقرب ما تكون إلى صعود في هذا المجال، فانه اخذ بالتعرض للتثلم والتسويس والانهيار التدريجي حتى نهاية القرن، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها هو:
•هيمنة الراديكالية السياسية وصعود الهامشية بمختلف أشكالها وأصنافها،
•الصراع الحزبي الضيق على السلطة والجاه والمال بأثر ضعف الرؤية السياسية الاجتماعية،
•فشل النموذج الوطني والقومي في التحديث والعصرنة
•العوامل الخارجية الضاغطة لمراكز الكولونياليات القديمة والحديثة
•البؤرة الخربة للكيان الصهيوني
•انهيار الاتحاد السوفيتي وصعود الهيمنة الأمريكية
كل ذلك أدى إلى ظهور مراكز القوى المتنافرة في العالم العربي وتحلل فكرة الوحدة أيا كان شكلها ومحتواها. بحيث أصبح الصراع الداخلي هو الهم الوحيد للأنظمة السياسية، التي تحولت بدورها إلى نظام العائلة والعصابة.
إن هذا المسار المنحط من حيث خطوطه البيانية يعكس مضمون الانحطاط الفعلي الذي تعرض له العالم العربي في مختلف الميادين والمجالات التي أدت في نهاية المطاف إلى انغلاق افقه المستقبلي. فمن الناحية المجردة انه يعكس مرور قرن من الزمن (العشرين) وانعدام التاريخ فيه، وبداية قرن جديد هو تفجير لما يختزن فيه من تحلل وفساد.
فقد دارت دورة الزمن العربي الحديث، بحيث تحولت أطرافه وهوامشه (النجدية) إلى “مركز” العالم العربي. ولا يمكن لهذا الحالة أن تستقر ما لم تستقر “الحالة النجدية” في المشرق العربي. غير أن استقرار “الحالة النجدية” في المشرق العربي أمر مستحيل. وذلك لان المشرق العربي يتعالى على نجد والجزيرة في كل شيء. كما أن قواه الذاتية الجوهرية والحاملة لتقاليده ومستقبله هي مشرقية ثقافية عريقة، أي أنها مركز سياسي ومركزية ثقافية لا يمكن للتقاليد النجدية أن تقترب منها. كما إنهما عالمان مختلفان من الناحية الثقافية والاجتماعية.
وبغض النظر عن الخسائر والهزائم التي تعرض لها المشرق العربي وما يزال، فان الأمر الجلي فيه هو، انه وراء كل هزيمة تظهر قوى أكثر استعدادا للتحدي والمواجهة والمقاومة. وهذه في الأغلب سنة الحياة والوجود. لاسيما وان المسار الطبيعي للعالم العربي اخذ بالتحول التدريجي (البطيء لحد الآن)، صوب توسيع الأبعاد الاجتماعية للفكرة السياسية، التي تؤسس بالضرورة لفكرة الحرية وتوسيع مداها في كافة نواحي الوجود الإنساني. الأمر الذي يجعل من تقاليد ما قبل الدولة الحديثة، التي تمثلها النجدية بصورة تامة، عائقا فعليا. وبالتالي ليس الاشتراك الفعال للقوة النجدية في الصراع العربي الحالي سوى الحالة أو الخاتمة التي لابد منها من اجل إيقاف المدى الفعلي لفكرة الحرية والنظام الأمثل. ولم يبق في الواقع سوى تجريب البعد الأخير في مواجهة القوى الاجتماعية الصاعدة غير البعد الديني الطائفي. لاسيما وانه اتخذ من الناحية الواقعية والفعلية، هيئة المواجهة والتحدي التي يمثلها المشرق العصي بجداره الثقافي أمام الموجة النجدية.
فمن الناحية العملية المباشرة لا تعني محاولات سحب الصراع الاجتماعي والسياسي العامل من اجل إحداث تغير بنيوي ومستقبلي في العالم العربي، نحو صراع مذهبي، سوى الوجه الخبيث والخنيث لتقاليد النجدية الوهابية. أما من الناحية المستقبلية فانه بلا آفاق. والقضية هنا ليست فقط في أن تقاليد قطاع الطرق والسرقة والغيلة والقتل والسلب والنهب والابتزاز والرشوة لا يمكنها العمل طويلا في ميدان الحياة السياسية الدولية، بل ولصعوبة تغلغلها في بنية الوعي الاجتماعي والأخلاقي للمشرق العربي.
مما سبق نستطيع القول، بان الصيغة المفتعلة لتذكية نار الصراع المذهبي والطائفي (السني – الشيعي) هو صراع من حيث الجوهري بين رؤى مختلفة تجاه الماضي والحاضر. ومن ثم هو صرع سياسي وثقافي تجاه المستقبل. ومن ثم ليس الصراع الخفي والعلني بين “التسنن” و”التشيع” سوى الصيغة الظاهرية لهذه الحالة. بعبارة أخرى، لقد دفع الصراع الاجتماعي والسياسي والقومي الفكرة السياسية الإسلامية لان تبلغ حالتها الحالية بوصفها صراعا مذهبيا سياسيا بين التشيع والتسنن. وهي حالة ليست غريبة على مسار التطور التلقائي للأديان والأمم. فقد مرت أوربا وتذوقت وعرفت كل مرارة الصراع الديني والمذهبي، كما هو جلي بين البروتستانتية والكاثوليكية، لكي تذلل في وقت لاحق مقومات الصراع الديني وتبني على أنقاضه فكرة ونظام الدولة القومية والمجتمع المدني والثقافة الدنيوية.
ففي العالم العربي، كان ينبغي لهذه الحالة أن تكون في بداية القرن العشرين، إلا أن المسار التاريخي لا يعرف “لو”. وها إننا نقف أمامها كما هي بوصفها مرحلة عابرة في المخاض الصعب للصيرورة العربية المعاصرة من اجل أن تتكامل في بنية وطنية وقومية ثقافية لا يمثل حقائقها الكبرى في العالم العربي الآن سوى المشرق. بحيث يمكنني دفع الفرضية القائلة، بأنه إذا كانت المناطق الجرمانية والبروتستانتية هي البديل التاريخي الثقافي لروما والكاثوليكية، فان المشرق العربي والتشيع هو البديل التاريخي الثقافي للنجدية والسنية الحنبلية.
إن المقارنة مهما كانت دقتها، لا تحل مشكلة، لكنها تسلط الضوء على طبيعة الحالة وآفاقها. فقد ظهرت في أوربا بالارتباط مع مرحلة الانتقال من الوعي الديني اللاهوتي إلى السياسي في ظل انتقال اجتماعي اقتصادي كبير (رأسمالي). ووجد ذلك انعكاسه في البروتستانتية بوصفها حاملة الروح الإصلاحي ومن ثم مقدمة التنوير. لقد فازت هنا “أقلية” نوعية وحكمت المصير التاريخي للمستقبل الأوربي والغرب. لقد كانت البروتستانتية “الأقلية النوعية” الناشئة من أحشاء الكاثوليكية ونقدها الذاتي. وبالتالي كانت نخبة الصيرورة النصرانية وكينونتها الثقافية. ومن ثم شكلت القاطرة التي سحبت روح البدائل الكبرى في الصيرورة الأوربية الحديثة. ولاحقا أخذت بالتلاشي في مجرى حل إشكاليات الوجود الاجتماعي والثقافي والقومي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. وهذا هو التيار الفعلي والطبيعي للوجود والعدم. بينما بقت الأغلبية الكاثوليكية ما بين متخلفة ومتوسطة في تطورها، أو على الأقل أنها فقدت طابع الريادة في كل شيء. أما سلوكها العنيف والإرهابي تجاه المعارضة من اجل إيقاف هذا التمرد و”الهرطقة” الجديدة، فأنه لم يؤد رغم كل الخراب والدمار الهائل والحروب الدينية والأهلية التي اتبعها، إلا إلى فقدان زمام المبادرة التاريخية مرة واحدة والى الأبد. الأمر الذي ساهم لاحقا في جعلها أكثر واقعية ومدنية.
والسؤال الذي يمكنه البروز في مجال المقارنة، هو هل سيعيد العالم العربي نفس هذه الحركة وآفاقها؟ والإجابة عليه هي إجابة التطور التاريخي ذاته. بمعنى أن الشيء الأكيد والثابت والعام هو أن العالم العربي سيمر بحالة الانتقال من المرحلة الدينية – السياسية إلى المرحلة السياسية – الاقتصادية. وهو انتقال يتسم بقدر كبير من التعقيد والتشاؤم بسبب المسار التاريخي الخاطئ للصيرورة العربية الحديثة.
إذ إننا نقف أمام حالة مزرية في انحطاط النظام السياسي والاجتماعي والوطني والقومي، التي وجدت وتجد تعبيرها في انحسار الإسلام السني بهيئة وهابية بدائية محكومة بعقائد نجدية ورشوة مالية، وانحسار الإسلام السياسي السني في تيارات إرهابية ولاعقلانية بصورة مطبقة. والسؤال الذي يمكنه الظهور هنا والقائل، لماذا انحدر التيار السني صوب حنبلية وهابية تشتعل فيها نفسية التجريم والتكفير والبراءة؟ اي أولوية القتل والإرهاب؟ والجواب عليه يقوم في انه لم يجر سقوط أو هبوط، بل مجرد رجوع التيار السني إلى أصوله الأولية، بأثر فشل مشاريع الحداثة في العالم العربي بتجاوز المرحلة الدينية السياسية.
ومن دون الخوض في حيثيات هذه الظاهرة وآليتها الداخلية، الواقعية والفكرية، فإننا نقف أمام خط بياني يقول، بان الفكرة الإسلامية السياسية السنية تتطرف مع كل فشل في سلوكها العملي أو انحطاط في النظام السياسي والاجتماعي، بمعنى أنها لا تتقدم صوب البدائل المستقبلية، بل على العكس أنها تحشر نفسها أكثر فأكثر صوب الأنماط الأشد بساطة وبدائية، بحيث تحول الإسلام إلى مجرد كمية من العادات والعبادات الميتة وأحكام وحكايات وروايات لا علاقة لها بالحياة والواقع والمستقبل. مع انغماس “واع” صوب الغلو والانغلاق وأولية القوة والعنف والإرهاب بوصفها صفات الإسلام الجوهرية. فوراء حياة الحركة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (للأفغاني وعبده والكواكبي) واندثارها تظهر السلفية الضيقة لرشيد رضا، وبعده تيار الراديكالية المتشدد لحسن البنا (الإخوان) وبعده تجذر تيار الغلو السياسي والعقائدي (عند سيد قطب) ثم تبعته مختلف نماذج الغلو الجزئي والواسع الانتشار لمختلف الحركات السلفية المتشددة والتقليدية إلى أن برزت القاعدة وأصنافها في تمثيل “الإسلام السني” و”الجهادي” على المستوى العالمي، وأخيرا مختلف “جيوش الإسلام” التي تعتنق أسلوب الإبادة والتوحش بوصفه قمة “الجهاد” كما هو جلي في تنظيمات وعقائد النصرة وداعش. فوراء كل فشل فعلي تفعيل اشد لذهنية الفشل، بحيث أدى إلى انغلاق “الطريق الاسلامي” بصورة تامة. وأصبح الموت والتفجير والقتل المجاني هو الأسلوب الوحيد الباقي للبرهنة على “حيوية الإسلام” وطاقته المستقبلية. بمعنى مطابقة البدائل بما في ذلك في الوسائل مع ظاهرة الانتحار والتفجير!
إن السبب الجوهري القائم وراء هذا الخط البياني للانحطاط في الفكرة السياسية الإسلامية (السنية) يقوم في كونها لم تذلل الأبعاد الدينية اللاهوتية في الفكرة السياسية. وضمن هذا المسار الواقعي، تبقى الفرضية المحتملة هنا للتشيع السياسي بوصفه الحامل الموضوعي لهذه المهمة بالمعنى الذي قامت به البروتستانتية في موقفها من الإصلاح الديني وتذليل الهيمنة التاريخية والثقافية للكاثوليكية. بمعنى أن التشيع المعاصر بوصفه حامل الفكرة السياسية الإسلامية البديلة، يمكنه أن يؤدي ما قامت به البروتستانتية في الغرب – دفع الحركة الاجتماعية صوب التنوير الفعلي وأولوية المصالح العليا للعمل والدولة والأمة.
ومما يؤكد هذه الفرضية إن الصراع في المشرق العربي يسير ضمن هذا السياق. ولكن مع فارق تاريخي ثقافي، وهو أن التشيع أقدم واعرق وأول التيارات الاجتماعية السياسية الإسلامية، كما انه عربي الأصول والجذور وثقافي المحتوى. وذلك لان أصوله وقواه الأولية التأسيسية هي عربية مدنية عراقية (الكوفة والبصرة). وبالتالي، فانه على خلاف من حيث جذوره وطاقته، من التسنن، الذي تشكل من حيث أصوله بوصفه عقائد أعرابية بدوية وعائلية قبلية (الأموية السفيانية والمروانية).
فقد كان التراث الاسلامي الثقافي بأغلبه صنيعة أهل العراق أولا والشام ثانيا، ومصر ثالثا والمغرب والأندلس رابعا. وأغلب شخصياته العقلية والعقلانية الكبرى في الكلام والفلسفة والتصوف والأدب والشعر كانوا مرتبطين بالمعارضة. والتشيع هو أكثر من مثل وتمثل تاريخ المعارضة. وليس مصادفة أن يجري إلصاق مصطلح “الروافض” بهم. وهو مصطلح عميق المحتوى سليم المغزى بمعايير الفكرة التاريخية المجردة والعقل النقدي، وليس بمعايير الأحكام العقادية المذهبية. إنهم من حيث الأصل “روافض”، اي من ارتبطت بهم فكرة الرفض وعدم الإقرار بقدسية الأفعال أيا كان شكلها (في بادئ الأمر). والتسليم اللاحق بالتاريخ المقدس هو الوجه المتسامي لرفض الرذيلة السائدة، تماما كما أن فكرة المهدي هي فكرة الهداية التي لا يمكن للسلطة وأعوانها وخدمها من شرطة وجيش الإمساك به.
لقد تحول فعل الرفض الأول إلى فكرة الرفض الدائم للظلم والطغيان والعبودية والتسليم وما شابه ذلك. وتحول مع مرور الزمن إلى عقائد وجدانية وفلسفية ارتبطت بإشكاليات الوجود الاجتماعي السياسي(الإمامة) والشخصية الإنسانية(الإمام). الأمر الذي يفسر أهميتها وأولويتها في الفكر والتفكير والعمل. وقد ظلت هذه الصفات الجوهرية ملازمة للتشيع، رغم تحجره مع مرور الزمن بأثر القهر والإكراه والقتل والتشريد. ومع ذلك وجدت هذه الصفات مخارج متنوعة لها في مختلف النظريات الفلسفية والعرفان، وفي فكرة الظاهر والباطن، وفي مناهج التفسير والتأويل، وفكرة حتمية العدل والحق الذائبة في الأبعاد السياسة والأخلاقية لفكرة المهدي.
لقد كان البروتستانتيون روافض النصرانية (كلمة بروتستانت تعني الرافض). الأمر الذي يجعل، بأثر المسار التاريخي للتشيع الحديث من أن يكون الشيعة روافض الإسلام التقليدي (التسنن) الآيل للسقوط الروحي التام. وهي فكرة قد حاول التأسيس لها قبل عقود علي شريعتي، الذي يمكن اعتباره أول من تكلم عن التشيع باعتباره بروتستانتية الإسلام. حيث دعا إلى إصلاح الفكرة الشيعية بتحويلها إلى طاقة اجتماعية سياسية لفكرة الحرية والنزعة الإنسانية ومن ثم تماهيها مع حقيقة الإسلام المحمدي، أو ما أطلق عليه عبارة التشيع العلوي عوضا عن التشيع الصفوي، والإسلام المحمدي عوضا عن الإسلام الأموي.
طبعا، إن الحديث هنا لا يجري عن تطابق وتشابه. فلكل منها تاريخه الذاتي الخاص وخصائص فعله ضمن سياق تطور الدين ومؤسساته وعقائده الخاصة. إلا أنهما يعكسان طبيعة الحالة التي رافقت وترافق مرحلة الانتقال من التدين اللاهوتي صوب الدين السياسي ومنه إلى الفكرة السياسية الاجتماعية. وقد أنجزت البروتستانتية في أوربا هذه المهمة بنجاح بعد صراع (ديني) عنيف ودموي هائل امتد لعقود طويلة، شمل اغلب مناطق القارة الأوربية وشعوبها. فقد كان القرن السادس عشر والسابع عشر، وبأثر حركة الإصلاح البروتستانتية، هما قرنا الحروب الدينية العنيفة. بحيث استمرت هذه الحروب لما يقارب الثلاثة عشر عقدا من الزمن، أو مائة وواحد وثلاثين سنة (1517- 1648) بحيث تحولت دول مثل سويسرا وفرنسا وألمانيا والنمسا وهولندا وانكلترا وأيرلندا والدنمرك وبوهيميا وغيرها إلى ميادين قتال دموي شرس ولا عقلاني. ففي فرنسا وحدها جرت ثمان حروب دينية عنيفة. إلا أن النتيجة كانت تسير صوب خفوتها بأثر تدمير البنية التقليدية القديمة وصعود الدولة المدنية، بمعنى انتصار الدنيوية بوصفها النتيجة المنطقية المترتبة على نفاذ المرحلة الدينية اللاهوتية.
ونعثر على نفس الملامح المجردة فيما يجري من صراع ديني في المشرق العربي المعاصر. بمعنى انه يعكس مرحلة الانتقال من الإسلام اللاهوتي إلى الإسلام السياسي، الذي تحول فيه التشيع إلى قوة ريادية، كما كانت البروتستانتية في أولها، بسبب انغلاق الأفق التاريخي المستقبلي للتسنن بشكل عام. ومن ثم فان مضمون الصراع التاريخي بهذا الصدد، هو سياسي بنيوي أولا وقبل كل شيء.
فالصراع في المشرق العربي من حيث الجوهر هو صراع اجتماعي سياسي يتمثل نموذجين متباينتين ومختلفتين بل ومتناقضتين، ليس الصراع السني – الشيعي سوى مظهرها الديني لا غير، كما كان الصراع بين البروتستانتية والكاثوليكية قبل قرون مضت في أوربا، اي الصراع بين قوى تقليدية وقوى مستقبلية. فالجزيرة ونظمها السياسية والاجتماعية لم تتوصل بعد إلى حقيقة الفكرة الاجتماعية والوطنية والقومية الثقافية. كما أنها لا تعترف بفكرة الدولة المدنية الحديثة وفكرة المواطنة الدستورية. من هنا يمكن فهم السر القائم وراء تأجيج مختلف النوازع البدائية وغير العقلانية للوقوف ضد الإصلاح الفعلي لتيار الحداثة المنحرف في مجرى القرن العشرين في المشرق العربي، والذي اخذ يشق لنفسه الطريق قبيل وبعد “ثورة الربيع العربي” من حيث كونها قوة اجتماعية مدنية وقومية مستقبلية.
لقد تحولت الجزيرة النجدية إلى حاملة الحطب، شان أسلافها، لرميه تحت قدور المحرقة التاريخية للبشر والعقائد. لكنها لا تعي الحقيقة القائلة، بان هذا الحطب السريع الاحتراق لا يلتهم من حيث الجوهر سوى أوهام الماضي والعقائد الميتة.
إن المشرق العربي هو جغرافيا التاريخ الثقافي المتراكم في وادي الرافدين (العراق) والشام (سوريا ولبنان وفلسطين). لقد اتخذ في التاريخ الفعلي للعرب ومصادر وعيهم الذاتي صفات “ارض السواد” و”الشام”، ثم “الهلال الخصيب”، ثم “المشرق” وأخيرا “المشرق العربي”. وبالتالي ليست تجزئته المتكررة بين الحين والآخر سوى لحظات زمنية عابرة في صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية بوصفه كلا واحدا. وهي كينونة متراكمة في البنية الذهنية والنفسية والتجربة الثقافية. فهو “مهد الحضارة ومقوماتها” و”مهد الدولة ونماذجها” و”مهد الإمبراطوريات وآثارها”. إذ هنا تكاملت الدول والأمم والإمبراطوريات والعقائد والأديان. فالمسيحية أصبحت عالمية بفضل أهل الشام ومصر. والإسلام أصبح عالميا بفضل أهل العراق والشام. والشخصية العراقية الشامية هي شخصية واحدة. الأمر الذي يجعل من مواجهة الدين الوهابي النجدي بالفكرة العربية الحديثة بوصفها فكرة قومية ثقافية، الأسلوب الوحيد لتذليل مرحلة الانتقال من التدين اللاهوتي والسياسي صوب الفكرة المدنية والقومية الحديثة. وسوف لن يغير من هذه الحقيقة شيء كونها تجري من خلال اشد الأشكال لا عقلانية في الظرف الحالي. فهو الأسلوب الذي يذلل بسرعة مقدمات ونفسية وذهنية اللاعقلانية الدينية والمذهبية والطائفية.
فالتجارب التاريخية تبرهن على أن الحروب الدينية تضعف الدين والتدين وتصنع قوى نوعية جديدة. إننا نراها على مثال تجربة لبنان وحزب الله، وتجربة اليمن وصعود الحركة الحوثية، وتجربة العراق وصعود الحشد الشعبي. كما نراها في الاستعادة العميقة والصعبة في مصر للفكرة الوطنية العربية الاجتماعية والثقافية وليس الدينية. والشيء نفسه ينطبق على تونس. بعبارة أخرى، إن الحروب الدينية صنعت أمما مدنية قوية وحيوية وحرة وعقلانية. وهو المصير المحتوم للمشرق العربي، بمعنى قدره ومستقبل قدرته.