السيمر / فيينا / الجمعة 25 . 11 . 2022
د. ماجد احمد الزاملي
ان النخبة التي حكمت العراق المعاصر لمدة اربعة عقود تقريباً عن طريق الانقلابات العسكرية العنيفة الدموية,مما جعلهم يؤمنون بمبدأ القوة والدكتاتورية ، والمنافسة على أساس القوة ثم سوء الظن وعلى هذا الأساس إعترى العلاقة الداخلية بين النخب أنفسهم علاقة عدم الثقة والشكوك ، والعلاقة بين هذه النخبة والمجتمع أيضاً علاقة دكتاتورية تفرض القوة لأي مبرر لاستمرار هذه النخبة ,والتي خلقت سياسة التبعية لها من قبل الجمهور بالقوة مما أدى إلى عدم الانسجام بين النخبة والمجتمع, إضافة الى الولاءات والانتماءات القبلية هي التي تجعل النسق السياسي في العراق نسقًا انقساميًا، وإن كانت هذه الانقسامية تقوى وتضعف أمام قوة الانتماء الفكري والسياسي أو ضعفه، ووجود عصبيات أقوى وأكثر فاعلية من عصبية قربى الدم. أن الأنظمة السياسية العراقية طيلة العقود الماضية في أغلبها أمّا قائمة على أساس الحزب الواحد، أو العائلة الواحدة، او أبناء جهة واحدة. ومن هؤلاء وهؤلاء تتكون الأجهزة القيادية والرئاسية. وعلى رأس هذه الأجهزة مجموعة من الأشخاص يرتبطون بتلك الانظمة السياسية بصلات قربى كثيرة. ويعاني مجتمعنا اليوم من تناقضات وصراعات جعلته يعيش فراغاً أمنيا وثقافياً واضحاً اخترق وتسرَّب إلى جميع مناحي الحياة مما أدى إلى انهيار الامن الداخلي والثقافي لأفراده اذ إن سلامة المجتمع وقوة بنيانه ومدى تقدمه وازدهاره وتماسكه مرتبط بسلامة وقوة تماسك وولاء افراده للعشيرة التي ينتمي لها، اذ ان الفرد داخل المجتمع هو صانع المستقبل وهو المحور والمركز والهدف والغاية المنشودة، أما ما حوَّلَ هذا الفرد من إنجازات وتخطيط ليست أكثر من تقدير لمدى فعالية هذا الفرد، ولهذا فإن المجتمع الواعي هو الذي يضع نصب عينه قبل اهتماماته بالإنجازات والمشاريع المادية الفرد كأساس لازدهاره وتقدمه الاجتماعي، وحتى يكون هذا الفرد عضواً بارزاً في تحقيق التقدم الاجتماعي لا بد من الاهتمام بتنشئته الاجتماعية. وتنطوي الطائفية السياسية على اضفاء طابع مؤسسي على الانتماءات المجتمعية من خلال إعادة صياغة الأسس التي تُبنى عليها السياسات العامة للدولة، وذلك من أسس قائمة على مبدأ “المواطنة” إلى أخرى قائمة على “الانتماءات الأولية” للأفراد. أن نموذج السيادة الداخلية أو بناء السلطة داخل الدولة والدرجة التي يمارس بها هذا البناء الضبط والتحکم الداخلي فى ظل العولمة أصبحت تهدده تلك الجماعات خاصة فى المجتمعات الطائفية القائمة على المحاصصة السياسية، ناهيك عن التحديات الإقليمية والدولية فى النظام العالمى الراهن.
أن عملية التحديث تُطال في تأثيرها مختلف جوانب المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والتحديث في علم اجتماع التنمية يعني حسب اغلب المنظرين لهذا العلم نقل للنموذج الغربي ,واعتبار الديمقراطية بمفهومها الواسع، خاصية رئيسية للمجتمع الحديث في المجال السياسي. أن التنمية السياسية من المواضيع الحديثة التي إستنبطها العلم السياسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ ودخل في الإستخدام الأكاديمي , وخاصة في مراكز الأبحاث والدراسات السياسية التطبيقية، حيث وظَّف مفهوم التنمية السياسية من قبل الجامعات الاوروبية والاميركية تحت شعارات التطوير والتحديث السياسي وتم إجراء العديد من الدراسات بهذا القصد تحت إطار المشاريع التنموية والتحديثية، من أجل إستمرار تحقيق مصالحهم الإقتصادية والإستراتيجية ودفع الأنظمة السياسية للإقتراب الشكلي من النموذج الغربي؛ لأنه على حد زعمهم يُشكِّل النموذج الذي يحتذى به في العالم، والقائم أصلاً على الديمقراطية والليبرالية السياسية القائمة على التعددية السياسية، وحرية الفكر وإنتقال السلطة عبر صناديق الإقتراع ونظام البرلمان . إن التنمية الإقتصادية والإجتماعية هي في الغالب عملية غير متوازنة. فبعض المناطق وبعض الطبقات الإجتماعية والجماعات الأثنية أو الدينية/ أو المذهبية تكون مهيّأة أكثر من غيرها لإستثمار العملية التنموية والإفادة منها، وهي بالتالي أكثر إلحاحاً على المشاركة السياسية، أمّا لكونها قد سبقت غيرها في ميدان التعليم والنمو الإقتصادي والخدمات الإجتماعية فتكونت لديها الحاجة ,واما لديها التطلّع وتهيأت لإستثمار الفرص المتاحة أمامها نحو المشاركة السياسية، وأما بسبب عكسي تماماً، أي أنها قد تكون أكثر حرماناً وأكثر التصاقاً بهويّاتها الخاصة (مناطقية أو قبلية أو طائفية) وتجد في موضوعة التنمية السياسية مخرجاً لها من وضعها الثانوي، ومُعاملتها السيئة، وهي بالتالي تصرّ في المطالبة من أجل رفع مستواها الى مستوى الجماعات والمناطق الأ وفي المجال السياسي أيضا هناك من يرى أن عملية التحديث السياسي هي التحولات والتغييرات السياسية التي حدثت في أوروبا وبقية أنحاء العالم منذ النهضة الأوروبية. وهذه التغييرات يُشار لها كخصائص لعملية التحديث السياسي، وتشمل, تحقيق مزيد من المساواة وإعطاء فرص للمشاركة في صنع السياسة، وقدرة النظام السياسي على صياغة وتنفيذ السياسات، والتنوع والتخصص في الوظائف السياسية، وعلمانية العملية السياسية وفصلها عن الدين.
وكانت النظرة إلى التنمية التي حدثت في الغرب، على أنها عملية ذات صفة عالمية يصلح تطبيقها أو نقلها إلى كل دول العالم الثالث. وكان التركيز والاهتمام في دراسات التنمية السياسية الأولى منصب أكثر على التعرف على الخصائص التي تميز المجتمعات المتقدمة وتطورها عن الخصائص التي تميز المجتمعات المتخلفة. كما جرى التركيز على المراحل التي تمر بها المجتمعات نحو التطور، والقوى والعوامل التي تُعجِّل من عملية التنمية . كما اعتبرت عملية التنمية والتحديث بأنها تمر بمراحل متعاقبة باتجاه واحد صاعد، وأن كل المجتمعات البشرية لا بد أن تسير في هذا الاتجاه الذي مرت به الدول الغربية. رغم الصعوبات التي واجهت الباحثين في مجال التنمية السياسية في تحديد مفهوم محدد وواضح، إلا أنهم حاولوا وضع بعض التعاريف التي قد تؤدي إلى تقريب الرؤى حول هذا المفهوم. وآليات التنمية السياسية هناك مجموعة من الآليات التي لابد من توفرها لضمان نجاح عملية التنمية في مجتمع معين وخاصة في دول العالم الثالث ومن أهمها, المعايير الاجتماعية عن طريق مختلف مؤسسات المجتمع، بما يساعده على التفاعل معه. ومنه فإن التنشئة السياسية تهتم بشخصية الفرد وتطويرها وصياغتها وفق نموذج معياري مسبق لتعميق القيم والتوجهات السياسية الشائعة المستقرة في المجتمع، كما تسعى إلى تنمية مدركات الفرد وتعزيز قدراته السياسية بحيث يستطيع التعبير عن ذاته من خلال سلوكيات ينتهجها في الحياة السياسية خاصة إذا كان النظام السياسي غير عقلاني وغير رشيد ومنه إمكانية خلق مجتمع مدني منَظَّم قادر على القيام بدوره الفعّال.
وألانظمة السياسية التي تتمتع بنوعٍ كافٍ من الاستقرار السياسي، هي تلك الأنظمة التي تمكَّنت من بناء آليات ومؤسسات تتيح أكبر قدر ممكن من الحراك الاجتماعي وتداول القوة الاقتصادية والسياسية بين أفراد المجتمع، لذلك فإن الديمقراطية التي ينادي بها أي نظام سياسي لا تقاس من خلال عدد الأحزاب التي أجيز لها أن تمارس العمل السياسي، وإنما من خلال التداول السلمي والفعلي للسلطة بين الجميع، وعبر الطبقات الاجتماعية المختلفة، مما يترتب على ذلك من آثار على المستوى الواقعي بحيث تتاح المشاركة الشعبية، وتكافؤ الفرص لكافة أفراد المجتمع دون تمييز. وإذا كان يُنظر الى التنمية بمفهومها العام على أنها عملية شاملة ذات مضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية، أي انها عملية لا تقبل التجزئة ، وأن أي تحوّل في أحدها يقود دون مناص الى تحوّل وتغيير في البقية. لكن التنمية السياسية كنشاط يقوم به المواطن العادي من أجل التأثير في صناعة القرار الحكومي، بقيت الغائب الأكبر لدى صانع القرار، ولدى الباحثين والكتاب، الأمر الذي أدى الى التشكيك في حتمية (شمولية) التنمية، بالنسبة لبعض الدول، خاصة الريعية منها، أي تلك الدول التي تعتمد على مصادر دخل غير (الضرائب) وتقوم بصرفها على التنمية. أن الكلام عن التعددية في الشارع العراقي يختلف عنه عند النخب ولاسيما السياسية, ولفهم سلوك هذه النخبة وتأثيرها على المجتمع لابد لنا من الرجوع إلى الخلفيات الثقافية والاجتماعية التي ترسِّبَت في الذهنية والتي تسيطر وتوجه هذه النخب بصورة شعورية أو لا شعورية ومن أبرز هذه الخلفيات هي المرجعيات ونعني بالمرجعيات, مجموعة العقائد والرموز الاجتماعية التي غُرِست في ذهنية الأشخاص بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق التنشئة الاجتماعية بصورة عامة فقد تكون هذه المرجعية ذات سمات دينية أو عشائرية أو سياسية أو اقتصادية أو عسكرية وانطلاقا من الموقف العلمي والعقلاني في التحليل، أي انطلاقاً من الظروف الاقتصادية والاجتماعية في التحليل، إن ظاهرة العشيرة والقبيلة في مجتمعنا العربي عموماً ومجتمعنا العراقي خصوصاً، هي من إحدى الظواهر الأساسية التي يتكون منها المجتمع، إن لم نقل إنها الظاهرة الأكثر حضوراً التي تُشكل البنية الاجتماعية والذهنية للمواطن العربي، فمجتمعنا ، ومعظم ما نراه من ممارسات في نطاق المجتمعات العربية يُشير ويؤكد على دور العشيرة في انتاجها ، بالرغم من التحولات الكبيرة التي تمت في بنية هذه المستويات كافة، والتي نجزم تماما أنها – أي التحولات – قد لامست في واقع أمرها الشكل أكثر من المضمون، فما حدث من تطوّر في بنية المجتمع، لم يتحقق بعد في جوهر هذا المجتمع ، أي لم يصل بعد أو يتسرب إلى سلوكيات الفرد والمجتمع، الأمر الذي خلق حالة من الانفصام ما بين شكل المجتمع، الذي يدل على التمدين والعمران، وبين جوهره الذي لم تزل تعيش فيه عقلية العادات والتقاليد الفاسدة .
أنَّ الحكم الديمقراطي اليوم يقوم على مجالس نيابية وأعضاء مجلس النواب من نخب المجتمع المنتخبين، وبذلك يحق لشيوخ العشائر أن يكونوا من النخب طالما هم موجودون ومستشارون وطالما القبيلة مكوِّن من مكونات الدولة وممثل من الممثلين الشرعيين لهذا الشعب، فهم نخبة، اختارهم الناس، ليس فيها أي تناقض. هذه المرجعيات تسيطر على تفكير وسلوك الأفراد وتوجههم الوجهة المناسبة لها سواءً كان هذا الشخص ينتمي فعلياً لمرجعية معينة أو لا ينتمي ، فقد لا ينتمي الشخص لأية مرجعية حسب ظنه لكن بلا شعور هو منتمي لإحدى المرجعيات غير المرئية لذلك يكون السلوك مبطن بضغوط اجتماعية نفسية صعبة تجعل الفرد يسير بفعلها مما ينتج في كثير من الأحيان تناقض في شخصية الفرد لأنه يقول ما لا يفعل. فغالبية الشارع العراقي لا يعرف معنى التعددية ولا حتى يفكر أو تشغل نفسها فيها وإن حاول البعض الكلام فيها فقد يعني فيها التعددية السياسية حتى وإن قصد فيها هذا المجال فالكثير من المواطنين لا يدركون معنى هذه التعددية إلاّ القليل منهم وقد يكون المثقفون والمتعلمون تعليماً عالياً بالذات. فقد تفسر هذه المفاهيم تفسير مختلف فقد يفسرها البعض بالفدرالية وبعض آخر ينظر إليها بالانفصال وتقسيم العراق إلى دويلات وبعض آخر يعني بها نظم إدارية وغيرها.
وبعد سقوط النظام عام 2003 كررت النخبة السياسية التي اعتلت سدة الحكم بكافة مشاربها وتوجهاتها الاثنية والفكرية الاخطاء التاريخية نفسها الملازمة للسياسي العراقي، فما يهم السياسي ليس نجاح الديمقراطية أو إخفاقها، بقدر اهتمامه بالبقاء في السلطة وعدم التخلي عنها تحت أي ظرف كان. لذا غالبا ما تصب القوانين والإجراءات الحكومية في مصلحة السياسيين، في الوقت الذي تقتضي الديمقراطية جعلها في مصلحة الشعب. كما أن تعطيل القوانين أو تجاوزها، وعدم تحمل استحقاقات نجاح الديمقراطية، ومحاولة توظيفها لمصلحة هذا الطرف أو ذاك هي مؤشرات تثبت الإخفاق الأخلاقي للسياسي العراقي في التعامل مع القضية الديمقراطية. لذا لم يستطع السياسيون في العراق ضرب قوة مثل أي شخصية سياسية لها كارزما. ولم يتجرأ أغلبهم على الاعتراف بفشله أمام الناس، ولم يقدِّم استقالته نتيجة تقصيره أو سوء أدائه، ولم تشرَّع القوانين المرتبطة بمصلحة الناس، ولم تستكمل المؤسسات الدستورية… فأغلبهم لم يكن يعنيه نجاح الديمقراطية في العراق، بقدر ما يعنيه مصالحه وامتيازاته ونفوذه. فتتحول الدولة من کونها إطارا مؤسسياً محايداً إلى دولة تميز فى تعاملتها مع أفراد المجتمع طبقاً لانتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الإثنية أو العرقية. وبهذا تتحول الطائفية إلى خطر حقيقى يهدد التجانس الاجتماعي وکيان الدولة، إذ تقترن الطائفية فى حالتها السياسية بضعف الاندماج الاجتماعي فى المجتمع بسبب قيام الجماعات ذات الانتماءات الطائفية المختلفة بإعلاء قيمة الهويات الفرعية أو الأولية، وهو ما يجعلها مع مرور الوقت غير قادرة على الاندماج فى هوية وطنية واحدة تحقق الانسجام والاستقرار والتعايش السلمي فيما بينها. ففى ظل الهيکلية السياسية الطائفية فإنه يتم شرعنتها دستورياً، وتمکينها وترسيخها سياسياً من خلال المحاصصة والنظم الانتخابية الطائفية، وبهذا المعنى تصبح الطائفية السياسية عامل أساسى لتفکيك وتهديد المجتمعات، وتمثِّل خطراً حقيقياً يهدد التجانس الاجتماعي وبناء الدولة أو بقائها.
لذلك فإن ما يهمنا في هذا المقام هو سوء العلاقة المستمرة بين النخبة والجمهور والذي تنتجه دائماً الظروف السياسية والعسكرية والواقع الاجتماعي والثقافي المفروض قسراً على الشعب أكثر مما هو مفروض على النخب. مما يؤكد واقع حال الوحدة بالقوة دون تعددية لذلك يصعب فهم التعددية من قبل الشعب وحتى النخب لعدم وعيها بمضمون هذا المفهوم ولهذا نحن الآن بأمس الحاجة إلى وعي اجتماعي ثقافي يُنمّي هذه المفاهيم ( الوحدة والتعددية ). لذلك إن من يريد أن يصلح وضعاً سيئاً فلا ينشغل بتغيير الوضع نفسه وإنما يمضي في سبيل تغيير القوى والمؤثرات التي تكمن وراء هذا الوضع أو التي أوجدته. أنَّ لكل مجتمع ظروفه الخاصة به فلا يمكن تعميم أي نموذج مهما كان ناجحاً على أي مجتمع ونتوقع منه أن ينجح كما كان في النموذج الأصلي ، وعلى هذا الأساس ننظر لمجتمعنا. فقد باتت التعددية أشبه بالمودَّة يُرددها السياسيون والمثقفون وحتى الناس البسطاء دون فهم عميق لمعانيها فهم غالباً ما ينظرون إليها على أساس تعددية انقسامية تتميز بحقوق وواجبات خاصة لكل فئة منها مما تُبشِّر مستقبلاً بتجزئة على المستوى القومي والوطني وحتى الديني وهم يتناسون مفهوم التنوع الذي يمكن أن يضفي للمجتمع الأصالة والتحدي والإبداع والتنوع في ظل وحدة وطنية لها كل مقومات النجاح والازدهار.