فيينا / الأثنين 22. 04 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
د. نضير الخزرجي
صحت موسكو في السادس والعشرين من شهر نيسان أبريل عام 1986م على أكبر فاجعة نووية في تاريخ الإتحاد السوفيتي، تداعت أخبارها إلى العالم بعد أيام من انفجار مفاعل تشيرنوبل النووي لتوليد الطاقة الكهربائية قرب العاصمة الأوكرانية كييف، الذي بقيت أخبار ضحاياه حتى اليوم طي الكتمان، ولكن من المؤكد أن أكثر من نصف مليون روسي أوكراني تأثر بإشعاعات المفاعل المميتة والمؤذية حتى يومنا هذا، حينها وحتى عام 1991م وهي السنة التي انفرط فيها عقد الإتحاد السوفيتي كانت أوكرانيا جزءاً منه.
ومن أوكرانيا ظهر زعماء قادوا المعسكر الشرقي وطارت أسماؤهم في الآفاق منهم الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف (1906- 1982م)، ومنهم الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف (1931- 2002م) الذي على يديه تم تفكيك الإتحاد السوفيتي.
وعاد العالم مرة أخرى ليشهد في الرابع والعشرين من فبراير شباط 2022م نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، وطار مر أخرى اسم أوكرانيا في الآفاق ووقف العالم الغربي السياسي الرأسمالي والسياسي الديني المؤدلج على قدميه إلى جانب أوكرانيا لمواجهة ما أسموه أطماع الزعيم الروسي فلاديمير بوتين لتوسيع المملكة الروسية على حساب أوكرانيا، وتم في هذه الحرب تجنيد الميزانية الغربية وميزانية بعض الدول العربية والإسلامية الواقعة في فلك اللاعب الأميركي لدعم الماكنة الحربية الأوكرانية، وهو صراع عسكري على النفوذ كاد أن يشعل حرباً عالمية ثالثة بين المعسكرين القديمين الروسي والأميركي، على أنَّ الصراع العسكري الموضعي في واقعه حرب عالمية ثالثة جارية ولكن مع وقف التنفيذ العلني والجهري لها، فمخازن شركات الأسلحة الكبرى الغربية المتفرغة لمعسكر الناتو بدت خاوية ومكائن التصنيع ما زالت أزيز عجلاتها تسمع على خطوط النار بين روسيا وأوكرانيا.
حدثان مهمان نفضا عن أوكرانيا غبار النسيان، ففاجعة تشيرنوبل عام 1986م مهدت الطريق لتفكيك الإتحاد السوفيتي (1922- 1991م)، وحرب 2022م يُراد لها تفكيك الفيدرالية الروسية وما تبقى من الإتحاد السوفيتي القديم.
ولكن بالتأكيد أن انحسار الهيمنة الشيوعية على دول الإتحاد السوفيتي السابق عام 1991م وعودة الجمهوريات والدول إلى ما قبل عام 1922م مهد الطريق إلى عودة الخارطة الإجتماعية والعقائدية لكل بلد حيث تنفس المجتمع الصعداء وأتيح لكل طائفة دينية ممارسة معتقداتها الدينية بعيداً عن رقابة منظمات الشبيبة الشيوعية التي كانت تطارد الفرد في دينه وما يؤمن فارضة عليه معتقد الإلحاد بقوة النار والحديد بدعوى الشيوعية والإشتراكية كما يفعل الغرب اليوم بفرض الإلحاد ومحاربة الفرد في دينه ومعتقده، ومحاولة تسويق الإلحاد إلى دول الشرق إسلامية أو غير إسلامية تحت شعار الديمقراطية مرة والعلمانية مرة أخرى، مما يقطع الشك باليقين أن اللاعب المتمرس ومنذ انطلاق مباراة معاداة المعتقد في المعمورة هو واحد يتلون حسب مقتضيات الزمان والمكان، فيهاجم جهة بعينها تحت وهج الحرية الدينية وسقف الديمقراطية، ويدافع عن جهة بعينها تحت مقصلة محاربة الكراهية ومواجهة العنصرية، وبين كفي اللاعب المحترف ضاعت أجيال وأجيال، وقامت حكومات ودالت أخرى، والمباراة لم تنته بعد، والحرب سجال حتى مجيء ساعة ذهاب الآجال.
ولعل أوضح صور السجال الذي كان قائماً بين الإلحاد والمعتقد في الإتحاد السوفيتي القديم ما يمكن قراءته في جمهورية أوكرانيا التي يسكنها أكثر من ستين مليون نسمة والواقعة بين قارتي آسيا وأوروبا، ولنا أن نرى أبرز محطات السجال في الكتاب الذي صدر هذا العام (2024م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت تحت عنوان “الإسلام في أوكرانيا” للباحث والمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي في 112 صفحة من القطع المتوسط أعده للطبع وقدّم له مدير مركز أهل البيت في مدينة أوديسا الأوكرانية الشيخ تورال باختجمال محمدوف.
محطات ومراحل
كانت للمؤلف مع جمهورية أوكرانيا ثلاث محطات، أبانها في ثلاثة مؤلفات:
الأولى: في الجزء الثالث من كتاب “معجم المشاريع الحسينية” الذي يوثق للإسلام في دول: أنغولا وأروغواي، وأوزبكستان، وأوغندا، وأوكرانيا، وإيران، وأيرلندا، وآيسلندا، وإيطاليا.
الثانية: في الجزء الثاني من كتاب “الرحلة الأوروبية” الصادر عام 2022م وهو يوثق رحلته البرية المكوكية لأربع وثلاثين دولة أوروبية.
الثالثة: ثم جاء الشيخ تورال محمدوف الآذري واستلّ ما حرره الكرباسي في “معجم المشاريع الحسينية” عن أوكرانيا وأعده في هذا الكتاب الموسوم بـ: “الإسلام في أوكرانيا”.
وما يميز المحطة الثانية أنها كانت رحلة ميدانية قام بها الشيخ الكرباسي مع وفد علمائي لجمهورية أوكرانيا عبر السيارة بدأها ظهر الأربعاء 10 أبريل نيسان 2019م قادماً من جمهورية مولودفا وانتهت ظهر السبت 13 أبريل نيسان 2019م متوجهاً إلى بولندا، وفي هذه الرحلة وثق ميدانيا وعلى أرض الواقع ما حرره في “معجم المشاريع الحسينية” عن أوكرانيا.
تقع أوكرانيا ضمن سلسلة المقاطعات التي تناهى إلى سمعها دخول الإسلام إلى دول ما وراء النهر وجزيرة القرم في القرن الأول الهجري، وربما تأثرت به منذ ذلك الحين، وبتعبير المؤلف: (إن دخول الإسلام إليها يمكن أن يصنَّف بالشكل التالي: إنَّ الشعب الأوكراني تأثَّر بالعلاقات التي كانت تربطه مع بقية شعوب المنطقة، وبسبب هذا الترابط التجاري أو علاقة الجوار أو الإجتماع فقد تأثرت مجموعة منهم بالإسلام في بادئ الأمر، ومن جهة أخرى فإنَّ المسلمين من سائر القوميات الأخرى ممَّن سكنوا هذه البلاد فقد فتحوا لأنفسهم آفاقاً جديدة، وتمركزوا فيها حتى أصبحوا من شعوبها، والشكل الآخر هو توجه المسلمين من خارج المنطقة كالطلاب والتجار، والروابط الزوجية التي سادت بينهم كانت وراء أسلمة الكثير منهم).
ويرى البعض أن دخول القائد المغولي بركة خان بن جوجي بن جنكيزخان (1208- 1267م) الإسلام وامتداد مملكته إلى جزء من أوكرانيا كان عاملاً مساعداً على بدء انتشار الإسلام في أوكرانيا في القرن الثالث عشر الميلادي، وتأكد الأمر بعد إعلان القائد المغولي محمد أوزبك خان (1282- 1340م) الإسلام دين الدولة الرسمي وذلك سنة 1320م.
وبتقدير المحقق الكرباسي وحسب بيانات مجلس مسلمي أوكرانيا: (إنَّ دخول الإسلام إلى أوكرانيا وتعرَّف الشعب الأوكراني على الإسلام يرجع إلى منتصف القرن الرابع الهجري – النصف الأول من القرن العاشر الميلادي- عن طريق الرحالة والتجار المسلمين الذي كانوا يتوافدون إلى مدينة كييف عاصمة دولة روس كييف محملين بالبضائع المختلفة، وهذا ما أثبتته المراجع والعملات النقدية التي عثر عليها مصكوكة بأحرف عربية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع الهجري -10 ميلادي-).
وفي المحصلة فإن إنتشار الإسلام في اوكرانيا التي فيها اليوم أكثر من مليوني مسلم: تم كما يفيدنا الكرباسي بأهم خمسة أمور وهي:
أولا: هجرة المسلمين إلى أوكرانيا.
ثانيا: تأثر الأوكرانيين بالمهاجرين المسلمين.
ثالثا: تأثر الأوكرانيين في هجرتهم إلى البلدان الإسلامية بالمسلمين.
رابعاً: الزواج من المسلمين.
خامساً: دراسة الإسلام والقناعة بالمعتقد الإسلامي.
وبشكل عام فإن مسلمي أوكرانيا يتشكلون من الأصناف التالية:
أولا: المسلمون سكان البلاد الأصليين الأوكرانيين.
ثانيا: المسلمون المهاجرون الذين قدموا إلى اوكرانيا طوعاً أو قسراً من آسيا الوسطى من طاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان وآذربايجان، وبخاصة أثناء الحكم الشيوعي والتهجير القهري لهم.
ثالثاً: مسلمو شبه جزيرة القرم.
إنهيار وظهور
من طبيعة الحياة وسنَّتها أنه إذا انهار شيءٌ ظهر المستور، وبان ما كان مخفيا قهراً، فاذا انهارت العملة ظهر العجز الإقتصادي وساد الفقر، وإذا انهارت الأخلاق سقط بنيان المجتمع وقلاعه وفشى الفساد، وإذا انهار سلطان الملك تفككت البلاد إلى إمارات ودويلات وظهرت المعتقدات وانتشرت الأفكار حقها وباطلها.
وقد تصبح المتغيرات المفاجئة لشريحة من الناس نقمة ولأخرى نعمة، وهذا ما حصل لأوكرانيا عندما انهار الإتحاد السوفيتي، حيث عاد أكثر الناس إلى ممارسة طقوسهم ومعتقداتهم من مسيحيين وهم الأكثرية، ويهود ومسلمين، وبشكل عام ارتفع سيف منظمات الشبيبة ومفارز الشيوعيين عن رقاب سكان أوكرانيا وعموم سكان الإتحاد السوفيتي القديم، وأصبح ممارسة المعتقدات الدينية سياسة عامة، فبعد أن كان مسلمو أوكرانيا في العهد الشيوعي يمارسون عباداتهم وطقوسهم تحت الأرض، عادت إليهم الأنفاس وأصبحت مؤسساتهم علنية، وحسبما جاء في الكتاب كان يوجد في أوكرانيا مطلع العام 2014م 624 تجمعاً مسلماً مسجلاً وما لا يقل عن بضع مئات غير مسجلة، وفي مطلع العام 2015م تم تسجيل أيضاً 220 تجمعاً مسلماً، ويشمل العدد 300 ألف من مسلمي القرم يعيشون في أوكرانيا من مجموع مليوني مسلم أوكراني، وهؤلاء كان أجدادهم وآباؤهم قد أبعدوا من منازلهم تحت القبضة الشيوعية الحديدية، وبتعبير المؤلف: (إن عمليات النفي القسري للمسلمين وبالخصوص الشيعة من القوقاز وآسيا الوسطى في العهدين القيصري والشيوعي ساهمت في انتشار الإسلام في أوكرانيا، وربَّ ضارة نافعة).
ولا يمكن هنا نسيان دور الطلبة العرب والمسلمين الذين قدموا إلى اوكرانيا قبل وبعد الإستقلال لمواصلة دراساتهم الجامعية والعليا، حيث استفادوا بعد الإستقلال من فسحة الحرية في ممارسة عباداتهم وشعائرهم، وبخاصة لدى الشيعة الإمامية من العراق ولبنان وإيران وسوريا الذي أتيح لهم إحياء ليالي شهر رمضان المبارك وممارسة الشعائر الحسينية في ذكرى سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المستشهد في كربلاء في عاشوراء سنة 61 للهجرة.
ويسجل في هذا المقام أن الطلبة العرب من عراقيين وغيرهم أسسوا في محرم سنة 2437هـ (2006) في مدينة سومي شمال شرق أوكرانيا “موكب شباب مالك الأشتر” في القسم الداخلي رقم 3 لجامعة سومي الحكومية.
كما ويسجل في هذا المقام أن معد الكتاب الشيخ تورال محمدوف الذي يتولى إدارة مركز أهل البيت عليهم السلام سيَّر في شوارع مدينة أوديسا جنوب غرب أوكرانيا أول مسيرة عاشورائية في محرّم سنة 1440هـ.
كما ويسجل في هذا المقام أن مركز أهل البيت في مدينة أوديسا قام وفي ذكرى ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بتوزيع الورود على السكان في مركز المدينة لبيان مقام المرأة في الإسلام وعظمته.
وفي نهاية الكتاب، وكعادته في سلسلة مؤلفاته عن الإسلام في البلدان، يسجل المحقق الفقيه الشيخ محمد صادق الكرباسي شهادات لإثني عشر ممن أعلنوا إسلامهم من الأوكرانيين رجالاً ونساءً، ويكاد يكون في هذا الجانب شبه إجماع أنَّ الذين دخل الإسلام قلوبهم في أوكرانيا أو غيرها إنما تأتَّى عن قراءة ومعرفة، وبخاصة لدى المستشرق الذين يروم التعرف على الإسلام معرفة الناقد ولمستقبله بصير، لا معرفة الحاقد ولمسبَّقاته أسير.
باحث عراقي مقيم في لندن
الرأي الآخر للدراسات- لندن