فيينا / الأحد 01 . 12 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
د. نضير الخزرجي
من المحارق الكبرى التي وقعت في العالم الإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين الميلادي هي الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت شرارتها في 22/9/1980م وانتهى أوارها رسميا في 8/8/1988م، حرب مجنونة بالوكالة عن قوى عربية وعالمية لم ترد الخير لا للشعب العراقي ولا للشعب الإيراني، حرب حرّكت ماكنة صناعة الأسلحة العالمية واستنزفت خيرات الجارين والبلدان التي وقفت خلف الحرب، حرب أهلكت الحرث والنسل، فليست هناك من أرقام حقيقية عن عدد الضحايا ولكن بالتأكيد قُتل فيها أكثر من مليون شخص من الجانبين ناهيك عن أمثالهم من الجرحى والمعوقين وأكثر.
في نهار الإثنين 22 ايلول سبتمبر من عام 1980م، كنت جالساً مع عدد من رفاق الهجرة القسرية في بستان كبير على أطراف العاصمة الإيرانية طهران نحتسي الشاي، وإذا بسرب من طائرات الميغ العراقية يمر من فوق رؤوسنا يقطع علينا استراحتنا، وبينا نحن في دهشة وتعجب متسمرة عيوننا نحو كبد السماء، تناهىت إلى أسماعنا أصوات انفجارات عنيفة، عرفنا بعد دقائق أن مطار مهرباد الدولي تعرض لقصف جوي عراقي إيذاناً ببدء حرب مدمرة.
وبعد سنوات من اندلاع الحرب حلَّ علينا في مهجرنا القسري شقيقي الأكبر الفقيد ضياء الخزرجي (1958- 2020م) الذي فرَّ بجلده من حرب عرف وعرف غيره أنَّ حاكم بغداد يقود الشباب إلى محرقة ليثبت لمن دفع له المال والسلاح أنه قادر على فعل ما لم تستطع عليه واشنطن في إسقاط الحكومة الفتية في إيران، ولكن مصيره آل إلى حفرة في حياته أشعث الرأس أغبر الذقن كريه الرائحة، وحفرة في مماته عمد أقرباؤه إلى نبشها انتقاماً لعمومتهم وبني عمومتهم الذين قتلهم في حياته، واللاعب الخفي الظاهر ما زال يتحرك في المنطقة فارضا شروطه!
جاء شقيقي عبر الحدود تاركاً وراءه والدتنا، وحيث كنت للتو من عام 1983م قد أكملت مع الشريكة النصف الآخر من ديني، فكان لزاماً عليَّ من باب الأخوة أن استقبله واستضيفه، وحيث لم أكن أملك من السكن إلا غرفة واحدة في شقة مشتركة من أربع غرف في الطابق الخامس مع ثلاث عوائل مهاجرة مثلي نشترك معها في المطبخ والحمام وبيت الخلاء، شقة من عمارة سداسية الطوابق واقعة في شارع طالقاني شمال شرق طهران على مقربة من السفارة الأميركية التي دخلتها في أحد الأيام مراسلاً لمجلة الشهيد، فكان علي أن أضع ساتراً من القماش في الغرفة التي شاركني فيها أخي وشاركته في المأكل والمشرب والمصروف على قلة ذات اليد وضنك حياة الهجرة، وبعد برهة من الزمن حيث بدا أنَّ الإقامة ستطول ولأنه كان نجاراً محترفاً تحول الساتر القماشي إلى ساتر خشبي وظلت الغرفة الواحدة في الشقة المشتركة غرفة مشتركة لأشهر حتى غادرنا الى مدينة قم المقدسة للعمل مع إحدى المؤسسات العراقية الخيرية.
هذه الشقة الطهرانية هي صورة مصغرة لحياة الهجرة الصعبة لثلة من الشباب الرسالي الذين أخرجهم الظلم من ديارهم، لا يعرف بعضهم بعضاً، تفرقوا في البلدان حتى ساقهم القدر إلى هذا المهجر وإلى الإلتقاء في هذه الشقة المكتظة والحياة الشاقة وهم يبحثون عن مقدمات الحرية لهم ولشعبهم، حتى إذا توقفت الحرب العراقية الإيرانية وبعد سنوات من المعاناة والعمل المضني فرَّقتهم الأيام مرة أخرى في البلدان، فأحدهم ساقه قدره إلى الولايات المتحدة مهاجراً وفيها يؤم المؤمنين مرشداً ومبلغاً، وثانيهم وجد في العاصمة السورية دمشق ملجأً جديداً حتى إذا انتهى حكم صدام حسين سنة 2003م عاد إلى العراق وزيراً في حكومة المالكي الأولى، وثالثهم اتخذ من دمشق هي الأخرى ملجأً وعملاً وبعدها عاد واستقر في مسقط رأسه كربلاء المقدسة، وصاحب القلم قاده قدره إلى العاصمة البريطانية لندن عبر دمشق واستانبول حتى إذا ما فتحت أبواب العراق من جديد وأراد العودة لتقديم خدماته وتجربته الإعلامية في حكومة المالكي الأولى حيث وصلت أوراق تعيينه في مجلس أمناء شبكة الإعلام العراقي مكتب المالكي في المنطقة الخضراء، أقصاه مديره بهامش بائس يتقطر حبره من تحت حد سيف المحاصصة الحزبية المقيتة والمناطقية المدينية القميئة.
الذاكرة الأوغندية
عادت بي الذاكرة إلى تلك الأيام الصعبة من حقبة الشباب في ثمانينيات القرن العشرين، وأنا أقرأ قصة الشاب حبيب بهاي والجي التي وقعت في أوائل عشرينيات القرن العشرين في العاصمة الأوغندية كمبالا عندما عمد جمع من المسلمين المهاجرين من الهند عام 1918م إلى إنشاء تجمع إسلامي (إمام باره) يقيمون فيه شعائرهم الدينية والحسينية، حيث حضر الشاب حبيب بهاي والجي اجتماع اللجنة المؤسسة وكان موضوع الجلسة مناقشة اقتراح لدعوة خطيب ومرشد ديني من خارج أوغندا للإقامة في كمبالا، وأُسقط الإقتراح من جدول أعمال اللجنة لعدم وجود مأوى للخطيب، لكن الشاب والجي الذي لم يمض على زواجه سوى شهر واحد اقترح عليهم إقامة الإمام والخطيب الزائر في غرفته، بيد أنَّ العرض قوبل بالرفض لا لأنه حديث الزواج وإنما لكونه يسكن مع زوجته في غرفة واحدة فقط، ولأنّه تشبع بحب الآخر وكان حريصاً على خدمة الجالية المسلمة التي نشط فيها وله من العمر عشرة أعوام أصرَّ على اقتراحه ووقف عنده، فنزلوا عند رغبته وتمت دعوة مولانا الشيخ أنصاري من الهند، حيث وضع الشاب حبيب ساتراً في غرفته وتناصف المبيت مع الإمام الزائر حتى انقضاء مدة الإقامة.
قصة الشاب العريس الذي تولى فيما بعد قيادة جاليته المسلمة التي تعود أصولها إلى الهند، هي واحدة من القصص الشيقة التي تضمنها كتاب “الإسلام في أوغندا” الصادر في بيروت حديثا (2024م) عن بيت العلم للنابهين في 140 صفحة من القطع المتوسط للمحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، يتابع فيها موقع الإسلام والمسلمين في هذا البلد الأفريقي منذ البدايات الأولى حتى يومنا هذا، مع مقدمة غنية بالمعلومات التوثيقية قدمها البروفيسور أمير حيدر عابدي المقيم في العاصمة الأوغندية كمبالا منذ عام 1971م، وهو المولود بالهند في مدينة نوغان سادات بولاية آتار براديش سنة 1940م وتولى في كمبالا رئاسة مجلس جامعتها الرئيسة جامعة ماكيريري (Makerere University) إلى جانب رئاسة مجلس إدارة كلية المصطفى الإسلامية العالمية في أغندا.
البدايات والمآلات
تمثل أوغندا واحدة من البلدان الواقعة في شرق القارة الأفريقية المطلة على ساحل المحيط الهندي، وهي محاطة شمالاً بالسودان (جنوب السودان فيما بعد)، وتنزانيا ورواندا جنوباً، وكينيا شرقاً، وزائير غرباً، ويمثل سكان العاصمة كمبالاً نحو سدس نفوس البلد الذي يتعدى الخمسين مليوناً.
وتدخل أوغندا في عداد الدول التي دخلها الإسلام عبر حركة التجارة العالمية وقوة رأسمال التجار المسلمين لا سيف المحاربين ورمح المقاتلين، من هنا فإن المحقق الكرباسي عندما يحدث قارئه عن البدايات الأولى للإسلام في هذا البلد الغني بما أنعم الله من خيرات الأرض ومنها تجارة العاج، فإنه يضع في أوّل البدايات: (وصول المسلمين من التجار العرب، والسواحليين المسلمين من شرق أفريقيا) بخاصة في القرن السادس الهجري (القرن الثاني عشر الميلادي) حيث: (ظل هؤلاء التجار يترددون في رحلات تجارية بين ساحل شرقي أفريقيا وأوغندا، واستوطن العديد منهم بقاعاً مختلفة في أوغندا، ونشروا الإسلام حيثما أقاموا، واعتنق الإسلام على أيديهم العديد من الأوغنديين).
ولما كانت أوغندا محاذية للسودان التي كانت فيما مضى جزءاً من مصر الكبرى، فإن الإسلام دخل أوغندا من جهة ثانية عبر هذا المحور الحدودي حتى أنَّ بعض ملوك أوغندا طلبوا من مصر إرسال الأئمة والمبلغين، وقد: (ازدهرت الدعوة الإسلامية في عهد الملك كيويوا – المتوفى سنة 1888م- وكذلك في عهد الملك كاليما –المتوفى سنة 1891م- الذي طرد المُنصَّرين)، وساهم الأزهر في إرسال المرشدين والمبلغين وبخاصة في عهد الخديوي إسماعيل المتوفى سنة 1895م.
وحيث وقعت أوغنداً تحت الإحتلال البريطاني وأصبحت محمية بريطانية في السنوات (1894- 1962م)، فإن اليد العاملة التي استقدمتها بريطانيا من الهند الكبرى، التي كانت هي الأخرى تحت السيطرة البريطانية، للعمل في أوغندا في مجال مد خطوط السكك الحديدية، ساعدت من جهة ثالثة على انتشار الإسلام.
هذه المحاور الثلاثة التي دخل منها الإسلام أوغندا هي الصورة الأوضح لحركة كما يفيدنا الكتاب، لكن المحقق الكرباسي عندما يغوص في التاريخ يرى أنَّ: (نواة إنتشار الإسلام في هذا البلد – أوغندا – بدأت في العقد الثالث من القرن الأول الهجري) وازدادت الحركة مع سيطرة بني أمية على الحكم وقمعهم لمن خالفهم، مما جعل الكثير ممن والى أهل البيت عليهم السلام يتخذ سبيله خارج إدارة وإرادة السلطة الأموية، وكانت أفريقيا الشرقية لأهل الحجاز وعموم الجزيرة العربية هي الملجأ والمأوى، كما كانت إيران الكبرى ملجأً لأهل العراق.
الخارطة المجتمعية
يمثل عموم المسلمين في أوغندا حسب أرقام عام 2012م نحو 40 بالمائة من سكان البلد، وبعضهم توقع أن يصل الرقم عام 2040م إلى نحو 50 بالمائة رغم أنَّ الإحصاءات القديمة تتحدث عن 12 بالمائة، وبعضها عن 13 بالمائة، وبعضها عن 15 بالمائة، وبعضها عن 20 بالمائة، وأفضلها عن 30 بالمائة، ولكن الحقيقة الماثلة للعيان أنَّ الإسلام هو سريع الإنتشار بخاصة وسط الوثنيين، رغم أن الحركات التبشيرية تعمل على قدم وساق وبخاصة منذ عهد الإحتلال البريطاني وقبله حيث يوجد في العاصمة كمبالا وضواحيها لوحدها أكثر من 200 مركز تنصيري، على أن المسلمين في مقاطعة بوغندا أكبر مقاطعات أوغندا الأربعة في عهد ملكها موتيسا الأول “أميدسا” الذي حكم منذ عام 1857م حتى وفاته سنة 1884م كانوا يشكلون الغالبية، وقد عمد ملكها إلى نشر اللغة العربية واستقبل العلماء والخطباء والمرشدين من خارج البلاد.
وبشكل عام فإن الخارطة المجتمعية لما عليه المسلمون اليوم في أوغندا كما يفيدنا الكتاب يؤشر إلى أن المذهب الشافعي يعتبر المذهب الأكثر انتشاراً، يليه جماعة الأحمدية (القاديانية) الذين قدموا من الهند، وبعدهم الأباضية الذين قدموا من جزيرة زنجبار، وبعدهم الجماعة الآغاخانية وهم فرقة من الإسماعيلة قادمين من الهند، وبعدهم الجماعة السلفية، وفي المرتبة السادسة الشيعة الإمامية الإثني عشرية الذين قدموا من جزيرة زنجبار ومن الهند، حيث يُرجع البروفيسور أمير حيدر عابدي: “تاريخ المجتمع الشيعي الإثني عشري في أوغندا إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، مع وصول مجموعة الخوجة من المسلمين الهنود الذين ينحدرون من غرب الهند بشكل رئيسي من كوجرات وكوتش وكاثياوار، مع ذلك هناك أدلة قوية على وجود مسلمين شيعة إثني عشرية في المناطق الساحلية بشرق أفريقيا قبل نصف قرن تقريباً من هذا التاريخ أي بداية القرن التاسع عشر الميلادي”.
وبشكل عام فإن المذاهب هي: الشافعية ثم الحنفية ثم المالكية ثم الشيعة، على أن جزر زنجبار التابعة اليوم لتنزانيا كما يرى البروفيسور عابدي: “أول مركز لإشعاع مذهب الشيعة الإثني عشرية في شرق أفريقيا، تبعتها مومباسا –في كينيا- ولامو –في كينيا- بعد ذلك بوقت قصير جداً، وأصبحت كلها نشطة اعتباراً من سنة 1297هــ/ 1880م فصاعداً”، ويضيف عابدي: “من المهم أن نلاحظ هنا أن وجود الخوجة الإثني عشرية – في أوغندا- سبق إنشاء خطوط السكك الحديدية الأوغندية الممتدة ما بين مومباسا ونيروبي وكمبالا، والتي جلب البريطانيون عبرها عدداً كبيراً من العمال من الهند”.
وتضم أوغندا في الوقت الحاضر آلاف المساجد فضلاً عن المراكز الإسلامية والجمعيات والحسينيات والهيئات الدينية، ويشرف المجلس الأعلى الإسلامي في أوغندا لوحده على أكثر من سبعة آلاف مسجد، ويعود تاريخ أول حسينية (إمام باره) أقامها المسلمون الشيعة القادمون من الهند في العاصمة كمبالا كما يفيدنا الكتاب إلى سنة 1309هــ (1891م)، وأول جمعية إسلامية يعود تاريخ تأسيسها إلى سنة 1318هــ (1900م) التي تمثل اليوم إتحاد الجمعيات الإسلامية في جميع الأقاليم الأربعة في أوغندا.
ولكن على الرغم من الكثرة العددية للمسلمين في أوغندا فإن المحقق الكرباسي يسجل في كتابه مجموعة من التحديات التي تواجهم وهي بشكل عام: (1) الفقر وتدني المستوى المعيشي، (2) المرض، (3) الجهل والتخلف: فعلى سبيل المثال فإن المدارس تحت إدارة الهيئات الإسلامية في عام 1961م بلغت 179 مدرسة في مقابل (2388) مدرسة تحت إدارة المعاهد التبشرية التنصيرية، (4) عدم وحدة مسلمي أوغندا، (5) التغلغل الصهيوني، مشيراً إلى أن أوغندا كانت واحدة من ثلاث دول قرر المؤتمر الصهيوني توطين اليهود فيها إلى جانب فلسطين والأرجنتين، ثم كانت فلسطين عام 1948م هي الموطن لهم بالتنسيق مع بريطانيا التي كانت تحتل فلسطين آنذاك.
ومن المفيد ذكره أن كتاب “الإسلام في أوغندا” يمثل الصفحات (117- 168) من الجزء الثالث من كتاب “معجم المشاريع الحسينية” الذي يُعد أحد أجزاء دائرة المعارف الحسينية من نحو ألف جزء، استقطعها البروفيسور عابدي وقدم لها مقدمة مستفيضة من وحي تجربته الشخصية وإقامته في أوغندا وأعده للطبع مستقلاً مع تعليقات وحواشي، ليدخل الكتاب ضمن سلسلة “الإسلام في البلدان للكرباسي” التي صدر منها حتى الآن 14 كتاباً.
الراي الآخر للدراسات- لندن
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات