السيمر / الجمعة 09 . 09 . 2016
صالح الطائي
هذه خلاصة موجزة للفكرة التي يطرحها كتابي الجديد الموسوم “مفاوضات كربلاء؛ الأصل والتحريف” الذي صدر مؤخرا عن منشورات معالم الفكر اللبنانية بواقع 114 صفحة من الحجم المتوسط.
في مرحلة اهتمامي بتحليل وحل النزاعات وبعد الإطلاع على نماذج من النزاعات العالمية وجدت ظاهرة ليست غريبة، ولكنها لم تحظى بالاهتمام التام، وهي أن جميع النزاعات الكبيرة، ولا أقصد بذلك النزاعات الشخصية والفردية، وإنما النزاعات بين المجاميع عادة، تمت إدارتها بغطاء ديني، أي أن المتنازعَين وظفا كلاهما الدين لدعم موقفيهما، سواء كان النزاع اقتصاديا أم سياسيا أم اجتماعيا أم أخلاقيا أم دينيا، حيث كان الدين هو القاسم المشترك بين جميع تلك النزاعات لا في العصر الراهن فحسب، وإنما عبر التاريخ الإنساني الطويل، وهذا يقودنا إلى ما جرى في الطور المكي من عصر البعثة، فالصراع في ذاك العصر لم يكن صراع دين ضد دين وإن تمظهر بهذه الصورة، وإنما كان صراع سياسة، وظفت الموروث الديني ضد دين.
في النزاعات الإسلامية اللاحقة، تجوهر معنى التوظيف الديني بشكل أوضح، وأدى أدوارا ما كان لها أن تتحقق لولا هذا الاستخدام الماهر والذكي، لكن مع كل هذه الضوضاء، تجد سكوتا مطبقا، لا أحد يشير إلى هذا البعد، أو يهتم به، وإن صدف ووجدت، فستجد الأصوات خافتة، هامسة، وكأنها تتحدث عن حرام، وهي مع خفوتها، تتحدث غالبا بالرمز لا بالصراحة، مما يخفى على كثير من الناس فهمه ومعناه.
أما على ارض الواقع فمنذ الساعات الأولى لوفاة النبي(ص) لعلع صوت السياسة في الجهر عاليا، ليتحول في زمن خلافة عثمان بن عفان (رض) إلى منهج حياتي له سياقاته وأسسه وقواعده، والغريب أن جميع المؤرخين الذين تحدثوا عن هذه حقبة خلافة عثمان بالذات، استخدموا مصطلح (العصبية) كبديل لمصطلح (السياسة)، مدعين أن ما حدث كان عصبية لا أكثر، وهذا غمط لحق السياسيين الكبار العرب الأوائل؛ الذين نجحوا في تغيير قوانين اللعبة، ونجحوا فيما بعد بتأسيس إمبراطورية عربية ملأ صيتها الآفاق بعد أن حكمت نصف الدنيا، وذلك بعد أن نجحوا في أدينة مشروعهم السياسي.
هذا الصراع السياسي الخفي الذي ألبس لباسا دينيا، وصل أعلى مراحل النضج بعد مبايعة الإمام علي بن أبي طالب(ع) خليفة للمسلمين، وظهرت خلاله قدرة السياسيين العرب الرائعة بأنصع صورها، وفي غاية دقة التخطيط والترتيب والإشراف والتنفيذ، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر أن الرجال الذين عينهم الخليفة الجديد حكاما للأقاليم، وجدوا على أطراف البادية وفي رأس كل طريق يؤدي إلى الإقليم الذي عينوا فيه من ينتظرهم ويمنعهم من مواصلة المسير، ويأمرهم بالعودة، وإلا الموت! وهذا العمل المرتب المنظم بعناية ودقة لا يمكن أن يأتي اعتباطيا عبثيا دون سابق تخطيط محكم، وفي ذلك دلالة كبيرة على وجود السياسة ودورها الفاعل.
ونهجت السياسة العربية المنهج نفسه مع خليفة المسلمين الحسن بن علي(ع)، حيث غلف الحراك السياسي بغطاء ديني، وكانت خططها في غاية الدقة والبراعة لدرجة أنها وضعت الخليفة الجديد أمام طريقين لا ثالث لهما: إما المجازفة بكل شيء، بالدين وبالأمة، وبحياته وحياة من معه، أو القبول بالصلح مكرها، والتنازل عن الحكم وفق شروط اتفقوا عليها، وهو قبل غيره، يوقن تماما أن أي شرط منها لن يتحقق، وأن السياسيين لا يمكن أن ينفذوها.
إن الجماهير العربية المسلمة كانت نوعا ما على اطلاع بسيط بما كان يدور، ولكنها لم تكن قادرة على التشخيص الدقيق، ولا الحكم، ولا معارضة ما يحدث، والقلة الواعية التي اعترضت، جازفت بكل شيء، وحمل روادها أرواحهم على كف العفاريت، بعد أن أعلنوا العصيان والتمرد والثورة ـ وقد اتبع هذا المنهج الخطر ثلاث فئات كبيرة ومهمة: الخوارج؛ الذين بدأوا حراكهم العلني في زمن أمير المؤمنين علي(ع)، واستمروا في الثورة أجيالا، والزبيريون بقيادة عبد الله بن الزبير(رض)، والحسين بن علي(ع)، هؤلاء، جازفوا بأرواحهم وأرواح من معهم وكان الهلاك مصيرهم!.
من بين هؤلاء جميعا، وبالرغم من كونهم بمجموعهم يمثلون تهديدا حقيقيا لنظام الحكم السياسي/ الديني، كان الحسين(ع) أكثر الثائرين خطرا لأسباب تكلم عنها المؤرخون كثيرا، حتى أن معاوية كان يرقب حراكه بدقة، ويهتم به كثيرا دونا عن باقي الثوار، ودونا عن كل من في نفسه جذوة تمرد على الحكم.
إن موقع الحسين(ع) الاستراتيجي من العقيدة والمجتمع كان سيفا ذو حدين، يمنحه من جهة أفضلية وترجيحا لا يملكه الآخرون، لأنه ابن علي وفاطمة (ع) وجده رسول الله(ص)، ويضعه من جهة أخرى أمام خيار واحد هو خيار الموت، لأن في موته تنتهي المعارضة الدينية الحقيقية، وتنتصر السياسة.
وبالرغم من كون الخيار الثاني كان هو المفضل والمعول عليه، وما وقع على أرض الواقع فعلا، إلا أن الفكر السياسي العربي أدرك يقينا أن خطر الحسين(ع) لا ينتهي بموته، وان خطر تأثير أفكاره لا يتوقف إلا إذا ما تولى الجهاز الإعلامي العربي قلب المفاهيم التي يتناقلها الناس عن ثورته، وحرف حقائق تلك الثورة الخالدة، والاستعاضة عنها برؤى وأفكار جديدة مغايرة، تسحب من الحسين هالة النور والثورية، وتحوله إلى مجرد سياسي اعترض على الحكم القائم بالسيف، فخرج بذلك على الخليفة الشرعي، وفرق الجماعة، فحق عليه القتل وفق القاعدة التي ينسبونها إلى جده النبي(ص)، ومن هنا جاءت مقولة: “إن الحسين قتل بسيف جده”.
بغية تنفيذ هذه السياسة المضادة، اهتم الجهاز الإعلامي المدعوم بوعاظ السلاطين وكوادر الموظفين الحكوميين بجميع جزئيات الثورة الحسينية، ووضع قبالة كل جزئية منها تفنيدا تمت صياغته بدقة ودراية وعناية واحتراف ومهنية. ومن بين تلك الجزئيات على كثرتها، انصب الاهتمام على جزئية (المفاوضات) التي زعموا أنها دارت بين الحسين(ع) وقائد جيش الحكومة عمر بن سعد.
إن هذه الجزئية من الخطورة بمكان أنها قلبت مفهوم الثورة إلى خنوع واستسلام، وتمت صياغتها بعناية لدرجة أنها، فرضت نفسها على جميع المؤرخين المسلمين، لا في وقتها فحسب، بل ولغاية هذه الساعة، إذ لا تجد مؤرخا تحدث عن ثورة الحسين(ع) إلا وتحدث باهتمام كبير عن المفاوضات، ربما بما يفوق واقعة الطف نفسها، وكأن هناك اتفاقا على ترسيخها في العقول.
أنا من خلال متابعاتي الجادة للتاريخ الإسلامي، واهتمامي الكبير بدور السياسة العربية في الأحداث التي وقعت منذ عصر البعثة ولغاية سقوط الدولة العثمانية، وفي بحثي في كل ما يتعلق بالثورة الحسينية، وجدت هناك ترابطا وثيقا بين كل ما تقدم وبين الحديث عن موضوع المفاوضات، ولذا نقبت في بطون الكتب والمراجع، وبحثت في علم السياسة والاجتماع والنفس، وربطت بين الأحداث والنتائج، فخرجت بمحصلة ضمنتها كتابي هذا، تفيد بأن كل الحديث المنقول عن المفاوضات إنما هو مجرد حديث باطل، خفي أمر حقيقته على المؤرخين، واستخدمه مؤرخون آخرون عن قصد وتعمد؛ وهم الغالبية، لتوهين موقف الحسين(ع) لا أكثر، ولقد أثبتُ بالدليل القاطع ومن المصادر الموثوق بها أن هناك مفاوضة واحدة فقط تمت بين الحسين(ع) وعمر بن سعد، لم تستغرق وقتا طويلا، طلب فيها الحسين من عمر أن يترك جيش الحكومة ويلتحق به، لكن القائد الحكومي، خاف على نفسه ومركزه وممتلكاته، ودنياه، فرفض ذلك. هذه المفاوضة نقلها الكثير من المؤرخين بصورتها هذه منهم الطبري وابن كثير.
وهذه المفاوضة هي التي اتخذت أساسا لبناء تلك الواقعة الظنية في الحديث عن تكرار المفاوضات وتنوع الشروط بعد تحريفها تدليسا، والغريب أن جميع المؤرخين كبارهم وصغارهم، صاغوا واقعة المفاوضات المتكررة وما دار خلالها على الظن لا على اليقين، إذ لا يوجد أي راوية تحدث عن الشروط التي قالوا: إن الحسين تقدم بها لهم، وهي: إما أن يسمحوا له بالرجوع، أو أن يأخذوه إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، أو أن يرسلوه جنديا بسيطا إلى أحد الثغور ليرابط هناك!.
إن جميع الروايات التاريخية التي أوردوها، أكدت أن المفاوضات بالرغم من تكرارها حسب زعمهم ثلاث أو أربع مرات في ليال عديدة كما زعم ابن الأثير وبالرغم من كون كل واحدة منها استغرقت الليل بطوله كما أشار المؤرخون انفسهم، إلا أنه لم يعلم أحد ما دار من حديث بين المتحاورين، بل إن من نقل أخبار تلك اللقاءات أكد أن صوت المتحاورين لم يسمع أبدا، حيث تجدهم يكررون جملا مثل: “فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما” كما في رواية هانئ بن ثبيت التي أخرجها الطبري، ومثل: “ولم يرد أحد ما قالا” كما في الرواية التي أخرجها ابن كثير.
إن كل ما نقله المؤرخون عن تلك الشروط المزعومة، يلخصه قول الطبري: “وتحدث الناس فيما بينهم ظنا يظنونه، أن حسينا قال لعمر بن سعد: اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين… فتحدث الناس بذلك وشاع فيهم، من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئا”
وهو مطابق لما أورده ابن كثير في تاريخه. بمعنى أن جميع المؤرخين استندوا إلى رواية ظنية واهية لمجرد أن يثبتوا وقوع المفاوضات، والظن يوهن الرواية ويسقطها، ولا أدري لماذا أصروا عليها رغم هذا الوهن السيئ.
الشروط نفسها التي تحدثوا عنها فضلا عن كونها لا تستوجب الليل بطوله لطرحها، لا يمكن أن تصدر من الحسين الذي توسل به كبار الصحابة والتابعين لكي لا يخرج فيقتل، ولكنه رفض وأصر على الخروج وصمم على القتال.
إن مقابل كل ذلك الظن والتوقع والاحتمال غير المعقول، هنالك شاهد حقيقي أثبت المؤرخون اشتراكه بالثورة ومرافقته الحسين(ع) من المدينة إلى مكة إلى الكوفة ثم كربلاء إلى أن استشهد، وقد أسروه مع من بقي حيا، وحينما سأله ابن سعد عن سبب وجوده معهم، اخبره أنه مولى الرباب بنت امرئ القيس الكلبية زوج الحسين، فأطلق سراحه لهذا السبب كما جاء في الطبري وابن كثير. ولقد أخرج ابن كثير عن عقبة بن سمعان قوله عن مرافقته جيش الحسين: “ولم أفارقه حتى قتل، وسمعت جميع مخاطباته الناس”. لقد اثبت هذا الشاهد كذب من تحدث عن الشروط بقوله الذي أخرجه الطبري وابن كثير وابن الأثير: “فوالله، ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أن يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين”. وهذا بحد ذاته يثبت أن تأكيد المؤرخين على روايات التفاوض الركيكة والضعيفة فيه الكثير من القصدية، فضلا عن ذلك تشم منه رائحة السياسة القذرة بوضوح، وفي ذلك إساءة كبيرة للتاريخ الإسلامي!.
يتضح مما تقدم من حديث أن الإعلاميين والسياسيين، روجوا لقضية وهمية تتحدث عن حوار تفاوض قاس وطويل ومتكرر الجلسات، حدث بين الحسين(ع) من جهة، وقائد جيش الحكومة عمر بن سعد من جهة أخرى، تقدم فيه الحسين إليهم بثلاثة شروط مذلة للاستسلام، وتوسل بهم أن يقبلوها، ولكنهم رفضوها جميعها.
وهذا يؤكد أن الحديث عن المفوضات مجرد فذلكة إعلامية سياسية، جيء بها لتشويه وجه النهضة الحسينية، وتبييض صورة أعداء الحسين، وإسباغ الشرعية على جريمتهم النكراء.
ويتضح أن الشروط الثلاثة المزعومة المنسوبة إلى الإمام الحسين(ع) لم تكن كما أوردتها كتب التاريخ المغرضة والمسيسة، وإنما كانت عبارة عن مقترحين اقترحهما الحسين في مناسبتين مختلفتين ولغايتين مختلفتين:
الأول: اقترحه على عمر بن سعد قائد جيش الحكومة، طالبا منه أن يتخلى عن مهمته ويلتحق به، وقد رفضه عمر؛ الذي كان يسعى وراء مكاسب الدنيا، ولم يكن مهتما بأمور الآخرة.
الثاني: اقترحه الإمام الحسين(ع) عليهم لكي يبرئ نفسه أمام الله من الدماء التي سوف تسفك في المنازلة، والمصير الأسود المحتوم الذي ينتظر كل من سيشترك بقتله، حينما اقترح عليهم أن يسمحوا له بالعودة اختبارا لنواياهم، ولكي يلقي الحجة الأخيرة عليهم.
لكن هذين المقترحين تعرضا على يد الفصيل السياسي وجهازهم الإعلامي إلى تحريف كبير وتغيير اكبر، وتحولا إلى تلك الشروط المهينة التي تناولناها بالبحث وفندنا أصولها.
إن هذا التحريف بحد ذاته، يدل على أنه لابد من وجود جهاز منظم كبير وخطير أخذ على عاتقه القيام بهذه المهمة الخطيرة والكبيرة، وبث كل تلك الأباطيل والأكاذيب في التاريخ الإسلامي، مرة من خلال الإغراء بالمال والمكاسب رهانا على الطمع وحب الدنيا، ومرة أخرى من خلال التهديد والوعيد، وثالثة من خلال ضغوطات العصبية والطائفية، ورابعة محاباة للسلطان ومحاولة لنيل رضاه، وهذا الجهاز هو الجهاز الإعلامي السياسي الخفي؛ الذي أوقع كل الخلط والتحريف المعروف في تاريخنا، وأدخل تحريفه إلى منظومة الدين، فتحولت مبادئه إلى طقوس يتعبد بها البعض. ولذا يجب الانتباه الشديد في التعامل مع أي رواية دينية أو تاريخية، ولاسيما تلك التي تفوح منها رائحة السياسة، فما بين المسلمين اليوم من تناحر وتكاره وعداء وبغضاء وفرقة، يزداد استعارا بواسطة ما دسه السياسيون وجهازهم الإعلامي في بطون كتب تاريخنا، ولا يمكننا التوحد والتعايش والتفاهم مع وجود هذا الكم الكبير من الأكاذيب!.
ولم تكن غايتي وهدفي من تأليف هذا الكتاب إلا أن أنبه الأمة إلى أن السياسة حققت أهدافها وحولت المسلمين بمجموعهم إلى قطيع يحمل لها أحجار بناء هيكلها المعظم وأنها بعد عصر التنوير والتغيير، سقطت وانتهت ولم يعد لها من أثر، ولكن التخريب الذي أحدثه لا زال قائما متحكما بمصائر المسلمين، ولا يمكن للإسلام أن يتقدم إلا إذا ما تبرأ من تلك السياسة، وأقام العقل مقام العاطفة، وتخلى عن العصبية والطائفية،
فالمسلمون اليوم مستهدفون من جهات عدة ولا يمكن لأي فرقة من فرقنا أو مذهب من مذاهبنا أن يتصدى لوحده، لذا وحرصا على الدين يجب أن نتخلى عن كثير من التزاماتنا المذهبية والطائفية المختلقة، لنجتمع سوية في خط صد واحد دفاعا عن أنفسنا وعقيدتنا.