السيمر / السبت 15 . 10 . 2016
نجيب يوسف اسطيفان
2 – المقدمة
من حق الشعوب والاقوام ان تبتهج لإنتصار قضيتها، وتهلهل مستبشرة ببزوغ فجر يخلف الليل الطويل من الظلم والقهر والحرمان. لكنها وبعد فترة وجيزة، يصرعها الإحباط، ويخطف العهد الجديد البهجة من حياتها ويتغير رداء العبودية ويتخذ مسميات مغرية وخادعة. بالتالي، تنقلب اهازيج وزغاريد الفرح الى عويل ونواح وآهات، وتتحول ساحات الاحتفالات الجماهيرية الى مشاهد للمقصلات ومنصات الاعدام، وتُلغى السجون الاعتيادية لتحل محلها معتقلات رهيبة وأقبية سرية يصعب معرفة مداخلها ومخارجها. في اجواء نشوة النصر، يصحو الضمير وتسمو الاخلاق، لكن سرعان ما يفقد كلاهما توازنهما ويقعان ضحية للعواطف الملتهبة وتقاذف الامواج العاتية. بالنتيجة، تنهار القيم وتُركل الضوابط بالاقدام ويستسهل الانسان رؤية أكوام الجثث وتلال الجماجم التي تراكمت ليس بفعل مخالب وانياب اسود ونمور وضباع الغابة، بل بأيدي بني جنسه. امام هذا المشهد، لا بد ان يمزق صراخ الانسانية طبقات الفضاء ويلغي حواجز الأزمنة والجغرافيا والطوبوغرافيا والاثنولوجيا لكي يتعانق انين وآهات وعويل المعذَبين وضحايا البربرية على مدى آلاف السنين، سواء كان هؤلاء من قطعان العبيد او من اسرى وسبايا الحروب او من القابعين في معتقلات وزنازين الطغاة او من الهنود الحمر في القارة الامريكية او من قوافل التطهير العرقي والترحيل الجماعي او من المهتمين بالهرطقة امام محاكم التفتيش الكنسية او من اشباه الهياكل العظمية في المعازل التي اقامها النازيون، او كانوا من المنفيين الى سيبيريا وغيرها او من المحتجزين في مجمعات التأديب والتأهيل واداء العمل القسري التي أقامتها النظم في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية وكمبوديا وكوريا الشمالية، او كان هؤلاء من الذين اختبروا الموت لعدة مرات في زنزانات تشيلي ونيكاراغوا والارجنتين وبيرو واندنوسيا والشرق الاوسط وفي كل بقعة تعرض فيها الانسان الى السياط والتعذيب الذي في حالات كثيرة انهى حياته او شوه جسده او بتر عضو او طرف من جسمه.
في فترة النهوض الروحي والمعنوي والاستعداد للتضحية، تقفز اعداد غفيرة الى عربة الثورة وهي تتطلع الى انبلاج فجر مشرق وتدشين عهد تسود فيه العدالة والحرية ويعم الرخاء ويختفي الظلم والاستبداد والقهر. عندما تأسر النشوة النفوس، يتشبث البعض بالرومانسية ويتركوا واقعهم ويتحلقوا في سماء زرقاء او مرصعة بالنجوم الساطعة وتراودهم الاحلام الجميلة. لكن بعد وقت غير طويل، يتفاجئون بالغيوم الداكنة وزمجرة الاعصار فيهبطوا الى الارض ثانية، ومنهم من يلفظ انفاسه الاخيرة على منصة الاعدام او يتلقى رصاصة الغدر من رفيق الامس او يقبع في المعتقل او يطأطىء رأسه ويسير في القيطع او يغرد داخل السرب. قد تنحدر الثورة الى منزلق خطير عندما يستنبط القائمون عليها قناعاتهم من النظريات الاكاديمية والفلسفات ويسخروها حسب استيعابهم او اهوائهم او اجتهاداتهم، ويغالون بصلاحها وبإمكانية تطبيقها على واقعهم. يتمادى بعض الثوريين في السير بهذا النهج ويحيلون الايديولوجيا السياسية الى عقيدة دينية ورسالة الخلاص للبشر على اختلاف ثقافاتهم وحضاراتهم وتجاربهم التاريخية ودرجة ومستوى تطورهم. على خلفية تنوع الاجتهادات والرؤى وتناقض المصالح الشخصية، تنتعش فترة شد الحبال وحبك المكائد وسخونة العداء، التي تتطلب ازاحة او ابادة طرف لآخر. في مثل تلك البيئة، يتآمر قطب من الثورة ضد القطب الآخر، مما يمهد الفرصة ويمتطي حصان الثورة الهائج مغامر ماكر او داهية ماهر بالتحكم باللجام وقيادة المسيرة. وهكذا، تخلو الاجواء للقائد الضرورة بعد ان يزيح او يبيد الخصوم ويصبح المنقذ الذي يسحر القلوب ويأسر النفوس والاجساد ويهب الخير، لكنه في الوقت نفسه يقنن الحريات العامة تحت ذريعة حماية ظهر الثورة. لا بد من الاعتراف بأن الثورة قد تتفجر على يد اشخاص متسلحين بالنوايا الحسنة والمقاصد الطيبة، لكن ارهاصاتها اللاحقة تؤول في حالات كثيرة الى فساد البذار او سرقة الغلة، مما يخل بحسابات الحقل والبيدر ويهدر الجزء الكبير من المحصول.
لا بد ان تستند الانعطافات التاريخية والنقلات النوعية والاحداث المزلزلة الى ارضية فكرية واجتماعية ويكون لها صانعوها او رموزها الذين يلهمون اوساطاً مجتمعية ويعبئوها لتحقيق رسالة او اهداف ما. لكن في بعض الحالات تكون التطلعات غير مشروعة وغير انسانية، مما يدفع رسلها الى اختلاق المبررات وعرض مشروعهم بطلاء يغري البعض، مثل احقية القوم الناهض في التمدد والانتفاخ بغية خلق أمة تلعب دورها في الريادة وصنع التاريخ. قد تكون الرسالة جذابة في شكلها وخطيرة في مضمونها عند الدعوة لإقامة مجتمع متجانس ولا طبقي بطريقة مصطنعة وقسرية وبإستئصال بعض مكوناته وكأنها مناديل ورقية تُرمى في القمامة وتغدو امس من دون غد. في هذا الخصوص انأى بنفسي عن الاساءة الى ذلك الانسان الذي آمن بقضية عادلة واخلص لها واستعد لنيل الشهادة من اجلها او عاش الحرمان وكافح لكسر قيود وأغلال العبودية، لأن من دون تلك التضحيات ورفض الظلم لاستمر عهد العبودية ولبقي العبد او القن يئن تحت سياط سيده الى يومنا هذا. ولا اقصد جرح مشاعر من احس بمعانات الآخرين ونهض لزرع الامل في القلوب المنكسرة ورسم البسمة على الوجوه الحزينة. لكن في الوقت نفسه، لا بد ان نقلق ونشفق على تلك البراعم الغضة التي اصطادتها الاحزاب قبل ان يقوى عودها وافسدت عليها براءة الطفولة واغرقتها بالهموم وملأت رؤوسها بالمفردات المجردة التي لا تستطيع ادراك مضامينها. لا يمكن التعويل على الهاب مشاعر الانسان واستغلاله عن طريق الشعارات البراقة وتخدير عقله بالمفاهيم الجذابة الشكل التي تصيغ الذهنية الجمعية وتخلق ثوريين محترفين مستعدين لممارسة العنف وسفك الدماء تحت ذريعة تمهيد التربة لإنبات شتلات صالحة بعد استئصال الادغال والاشواك