السيمر / الجمعة 26 . 05 . 2017
صالح الطائي
(رحلة تصوريّة في تجربة أديب كمال الدين الأدبيّة من وحي مجموعته الأخيرة: “حرف من ماء”)
أيّ سحر ربطك بالحرف حتى أصبح الحرفُ أديباً، وأصبح أديب حرفا؟
أيّ دهشة تلك التي ارتسمت على وجه الحروف وهي تراك وقد حشرت وجودك بينها حتى صرت منها لا يميز بينكما سوى الرائي الفطن؟
من عيّنك سفيرا للحرف لتنهك نفسك تدور في فلك عليائه، تنظم جمانا وورودا، وتزرع طرقات مدن الرمال بالرياحين منتظرا أن تثمر أزهارك العطشى ولو من وحي الخيال؟
من أين أتتك كل تلك الجرأة لتبحر في محيطات الحروف بقاربك الصغير تصارع الأمواج والحيتان ووحوش البحار يقودك حلم قديم في أن ترسو بميناء تجد فيه رفقة وطعاما ينسيك تعب وخوف كل ذاك الرحيل والوجل؟
وأنا واقعا أسأل نفسي دائما: لماذا رفض أديب أن ترسو سفينته في عشرات الموانئ التي صادفته عبر مسيرة الأحزان في محيطات الصدى؟
لماذا لا زال يمخر بها لجج الوحشة بين أسراب الحيتان وأسماك القرش والأسماك الجميلة الملوّنة، مستأنسا بأسراب النوارس التي تحطّ على كتفيه، وأسراب الطيور المهاجرة التي تمر فوق رأسه لتذكره بأن السماء هي أدنى ما يرنو إلى التربّع فيه صانع الحروف الماهر المغرق بالخيال؟ أذلك لأنه يعرف نفسه ويعرف أنه صريع الخيال؟ ألم يقل من قبل:
لأنّي لا أجيدُ شيئاً سوى الإقامة في الخيال.
وأتصوّر أديب كمال الدين جالسا أمامي، فأسأله: لماذا تصرّ على الإبحار أبدا؟ هل تريد الوصول إلى الشمس أم ماذا؟ ماذا جنيت من كل تلك الأسفار المنهكة:
هل كنتُ محظوظاً بكَ يا حرفي
أنتَ المسافر الذي لا يكفُّ عن السَّفَرِ إلى النقطة
ولا يتعبُ من تمزيقِ بطاقاتِ السَّفَرِ إلى النقطة؟
كفاكَ بحثا فقد بتّ أرى الإنهاك في وجهك، وأشعر أنك بحاجة إلى الراحة والدعة، فقد ولّى زمن المغامرات، ولم تعد في العمر بقية تسمح لك بمشاكسة الحروف، لم يعد ذلك الطفل المتهور يثور في داخلك من أجل لوح شوكولاتة لتترجم ثورته قصيدة عناق مع الحرف.
ولكن أنّى لهذا البحار القديم المملوء وفاء للحرف أن يترجّل عن صهوة زورقه المسافر في المستحيل، ليقضي بقية عمره في الثرثرة عن تلك المغامرات مثل بحار هرم، كيف وهو الذي انصهر كيانه بالحرف فتوحّد به!
أنت أيها المهاجر أبدا، كما يقول صديقي الأديب مصطفى المهاجر؛ تجبرني على أن لا أتخلى عن قول رددته مرات كثيرة وهو أن الشاعر إما أن يكون طفلا لم ينضج بعد وإن كان قد تجاوز السبعين، وإما أن يكون طفلا قد نضج قبل أوانه، ولكنه في الحالتين يبقى طفلا يحاول أن يبتكر ما عجز الآخرون عنه، وهو أن يعيد ترتيب الأحرف ليصنع جملا تحثك على الرقص أو البكاء أو الضحك أو الغضب أو الاندفاع بجنون، وكأنّ الطفل بداخله يبحث عن لعبة يسد بها نهم فضوله الأبدي، ليداعب الطفل في داخلك، وهذا هو ما يجلب الغرابة من علاقة أديب بالحرف.
نعم تبدو غريبة تلك العلاقة التي تربط أديب بالحرف، والتي حوّلت الشاعر إلى عاشق، والحرف إلى أيقونة عشق تتجسد في أرجاء الوجود لتكون وتنشئ صورة حياة أراد أديب أن يرسمها بريشته بعيدا عن أي إملاءات أخرى، على هواه، وكما يشتهي ويحب، مثلما يصنع الشاب العاشق صورة وهمية لمعشوقته في خياله وفق مشتهاه وعلى هواه دون تدخل أحد.
إن إصرار أديب كمال الدين على معانقة الحروف والسفر بها في طريق المعرفة الموحش المهجور لا يمكن تفسيرها إلا بأنها حالة جزع من القطيعة التي أوقعها الناس بينهم وبين الحروف حينما كفّوا عن القراءة وطلّقوا الكتب فتحوّلوا إلى بشر فاقدي الذاكرة. أليس هو القائل:
بدمعةِ طفلٍ يتيمٍ أكتبُ قصيدتي
وأقرأها لقارئ فاقدِ الذاكرة.
ولو كتب أديب ديوانا واحدا في الحرف لكان ذلك في منتهى الغرابة، فكيف وقد سكن الحرف جميع دواوينه ومجاميعه وقصائده وحتى ومضاته ليكون أكبر شاعر حروفيّ في العالم وبامتياز، وليصبح حارس بوابة الحروف المدافع عن عرين الشعر؟ وإلا هل من الممكن أن نتحدث عن كبر المصادفة التي جعلت أديب كمال الدين يلتقي بالحروف ليقيم معها تلك العلاقة الأزلية، ويسافر معها في رحلة العمر منذ عام 1989 في ديوانه (جيم)؛ وهي الخطوة الأولى في رحلة العمر الشاقة؛ التي جاءت بعدها بأربع سنوات العلاقة مع حرف آخر في ديوانه (نون) الذي صدر عام 1993، لتنطلق قافلة الهجرة نحو (النقطة) عام 1999، و(الحاء) عام 2002، و(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) عام 2006، وصولا إلى شجرة الحروف عام 2007، وتجربة (أربعون قصيدة عن الحرف) عام 2009، ثم (أقول الحرف وأعني أصابعي) عام 2011، و(مواقف الألف) عام 2012، و(الحرف والغراب) عام 2013، و(إشارات الألف) عام 2014، و(رقصة الحرف الأخيرة) عام 2015، و(في مرآة الحرف) عام 2016، وآخر وقفة له كانت مع الحرف في (حرف من ماء) عام 2017؛ التي أقلّب صفحاتها الآن وأنا أستمتع بالتفاصيل الدقيقة التي يرويها أديب كمال الدين عن تجربته الحروفية التي تحوّل فيها الحرف إلى كائن يمتلك سيلا من المشاعر يغار ويتّهم وينسى :
لكثرةِ ما أفكّرُ بكِ
صارَ الحرفُ يغارُ منكِ
ويتّهمني بنسيانه
ونسيانِ نقطته الوحيدة.
هكذا يرى أديب كمال الدين علاقته مع الحرف، يراها مشاركة مشاعر وفيض إحساس دافئ، وترجمة لعلاقة الإنسان بالأشياء:
كلُّ نقطةٍ هي حرف،
وكلُّ حرفٍ هو قصيدة،
وكلُّ قصيدةٍ هي وطن.
أديب كمال الدين فارس أسطوري يرى نفسه وارثا لشرف الدفاع عن الحرف، هكذا أتصوّره حينما أقرأ قوله:
الشاعرُ الذي كتبَ كثيراً عن الحرفِ والنقطة
مات.
ولم يتركْ لي شيئاً
سوى كتاب قصائده الذي أقتطعُ منه
كلّ يومٍ ورقةً
ألصقُها على قلبي
ليكفَّ عن الهذيان.
وهكذا أتخيّل علاقته بالحرف، علاقة سرمدية؛ هو من اختار النفي إليها بعد أن أصدر لنفسه مرسوما عيّنها فيه أمينة على الحرف وحارسة له:
تعبتُ من سجنِ حرفي أبدَ الدهر
فصرتُ أطلقهُ في الليل
ليلعبَ في حديقةِ ذاكرتي.
وقد أنتجت حالة النفي القسري هذه دررا سيخلّدها التاريخ أبد الدهر، فأصابع أديب هي التي خطّت كلماتها ورسمت حروفها. وفي الختام لا يسعني سوى التمثل ببيت شعر للصديق الشاعر الكبير فائق الربيعي، قال فيه:
مَنْ يُنقذ ُ الحرفَ لو ذابتْ أصابعه
والكلُّ أرخصَ ما تحوي ودائعه
شكرا لك أديب كمال الدين فقد أنقذت الحرف وجازفت بأصابعك!
******************
حرف من ماء، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2017.