الرئيسية / مقالات / مستقبل الدولة الوطنية في زمن العولمة

مستقبل الدولة الوطنية في زمن العولمة

السيمر / الأربعاء 13 . 12 . 2017

محمد زين الدين

مع نهاية الجغرافية End of Geography حسب تعبير كيتيش أهمايKenichi Ohmae يطرح سؤال جوهري ألا وهو: هل الدولة القطرية معرضة اليوم إلى الاضمحلال؟
بالرغم من كون الدولة/الأمة تعتبر في الوقت الحالي الشكل الأساسي الغالب على الترابط السياسي للأنظمة السياسية المعاصرة، فإن كثيرا من الشك والجدل يدور حول مدى احتمال استمرار وجودها بل وجدوى هذا الوجود في المستقبل، خاصة وأن هناك بعض الأوضاع والعوامل والظواهر الاجتماعية والأسباب السياسية والاقتصادية التي تنحو نحو هدم كيان الدولة/الأمة كتنظيم سياسي فعال، وقد تؤدي إلى اختفائها تماما في كثير من مناطق العالم النامية والمتقدمة على السواء، أو قد تعمل- على العكس من ذلك- على اختفاء بعض هذه الدول وظهور دول أخرى جديدة تقوم على أساس نعرة الشعور بالانتماء إلى أمة واحدة كما حدث نتيجة لتفكك الاتحاد السوفياتي، أو كما حدث أيضا في يوغوسلافيا كمحصلة لصراع الكيانات العرقية والدينية المتناحرة.
ومع ذلك فالرأي السائد لدى كثير من الكتاب أن ظهور مثل هذه الدول الجديدة هو أمر طارئ ومؤقت لإشباع بعض النزعات والعواطف الوطنية، وأن هذا الوضع سوف يختفي في المستقبل غير البعيد لأنه لا يتناسب مع المتطلبات الجديدة التي تفرضها اتجاهات العولمة والتي تدفع الآن بعض الدول المستقلة ذات السيادة إلى اندماج بعضها مع بعضها الآخر لتكوين كيانات سياسية واقتصادية كبرى متكاملة تقوم على أسس ومبادئ قد لا تفق مع المفاهيم التقليدية التي كانت ترتكز عليها كل دولة/أمة من تلك الدول، مثل مفهومي الوطنية والسيادة وغيرهما[i] لقد تنازع منظور الدولة في زمن العولمة تصوران مركزيان:
أولهما ينظر إلى العولمة كعمل ايجابي، بينما ما ينحو الاتجاه آخر إلى تصور مخالف. فأنصار العولمة يروجون القول بأن الليبرالية الجديدة التي تحملها العولمة ليست ضد الدولة ولكنها مخطط إيجابي لتحمل الدولة مجددا مسؤوليتها في حفظ الأمن والحق على اعتبار أن الدولة الليبرالية لا تتحقق بمجرد التعاقب الشخصي على السلطة إنما بشكل أساس بتغير الأنماط السياسية انطلاقا من مبدأين : الأمن الاقتصادي وحرية الاختيار[2].
أما الاتجاه الثاني فينحو نح إلى تصور مخالف؛ فبيار بيردو لم يخف تدذره منكون دولة العنف اللبرالية تتنصل الآن من دولة الخدمات لتنكشف كاختلال يدمر الحضارة من الداخل وفي الخارج، وأن العولمة كالخوصصة فكرة نافذة تولد الاعتقاد على أنها السلاح الفعال لتصفية متكسبات دولة الخدمة الاجتماعية[3]

فأي مسار تسلكه الدولة الوطنية في زمن العولمة؟
المحور الأول : ماهية الدولة
كل تفكير حول الدولة يدور حول ثلاثة محاور: الهدف؛ التطور؛ الوظيفة[4]، بيد أن البحث في مفهوم الدولة يستدعي أولا طرح فكرة الحكم القوي؛ الآمن والمنظم؛ فالدولة تشكل التنظيم الاجتماعي الذي يقي من المخاطر الخارجية أو الداخلية[5]،ـ فهي حسب فيليب أردان : “فكرة وواقع، تجريد وتنظيم؛ إنها ليست حقيقة ثابتة لكن حضورها جد حساس في حياتنا اليومية[6]. ويرى عبد الهادي بوطالب أن اعتبارها كيانا معنويا اهتدى الفكر السياسي إلى تصوره وخلقه لينقل إليه وينيط به اختصاصات الحكم، حتى لا يظل الحكم مرتبطا بالأشاخص الذين يزاولونه[7] ؛ بحيث تتم مأسسة المجتمع من خلال الدولة لكونها تشكل صمام أمانه. لذلك لم يتردد الكثير من الباحثين في نعتها بـ”حكم اجتماعي”؛ فهي عبارة عن مجموعة من الأفراد منظمون اجتماعيا وفي إطار مجتمع تسوده سلطة[8]. ويرى بعض الباحثين أنها ذلك التشخيص القانوني لشعب معين؛ أي أن الدولة شخص معنوي يمثل شعبا من الشعوب، وهي بذلك موضع وأساس السلطة العامة[9]. غير أن فكرة التشخيص القانوني للدولة لن تلق قبولا لدى العميد دوجي على اعتبار أن الشخصية المعنوية فكرة خيالية ولا تكون بالتالي للدولة إرادة متميزة عن إرادة الحكام، هو يرى أن الدولة عبارة عن حدث اجتماعي fait social ليس له أي سند قانوني أو غير قانوني وأنها توجد في كل جماعة يكتنفها اختلاف سياسي differenciation politique
إذا كان هذا هو مفهوم الدولة عند الغرب فكيف يتم النظر إليها من منظور الفكر السياسي العربي الإسلامي؟
إن تعدد تعريفات الدولة لا يوازيه إلا عدم تناسق ترجمة اشتقاقها اللغوي العربي مع مقابله اللاتيني؛ فبينما يعني هذا الأخير الاستقرار والتجريد والاستمرارية، ويعني بها: الجهاز الحاكم لمجموعة سكانية مستقرة فوق إقليم ثابت الحدود، فإن مصطلح الدولة العربي مشتق من دال يدول ، أي أنه يفيد الدوران وعدم الاستقرار ومنه قول الشاعر:

هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان[10]

إن هذا التأويل نجده حاضرا بقوة في نظر الفكر السياسي الإسلامي للدولة، والمحصور في كونها إما دار الإسلام أو دار الحرب، بحيث يغيب تحديد عنصر الإقليم مثلما يغيب عنصر الشعب ليحضر في المقابل مفهوم الأمة[11] المحور الثاني: الدولة القطرية بين الأمس واليوم
إذا كان وجود الدولة الوطنية؛ كمنبع لحكم القانون يؤلف شرطا جوهريا مسبقا للضبط من خلال القانون الدولي كما أنها بوصفها سلطة عمومية نافذة ضرورية لبقاء المجتمعات القومية التعددية”[12]، فإن وجودها اليوم لم يأت دفعة واحدة بل جاء عبر سيرورة تاريخية عرفت قدرا كبيرا من المد والجزر يمكن تلخيصه في ثلاث مراحل أساسية:
أولا: الدولة الحارسة: برز هذا التوجه للدولة انطلاقا من بداية هذا القرن؛ بحيث اقتصر عمل الدولة على ضمان الأمن الداخلي والخارجي بحيث تهتم بما يسمى بوظائف السيادة كالدفاع الوطني، الأمن؛ العدالة[13]، دون التدخل في النشاط الاقتصادي أو التجاري. لقد كان هذا التوجه ينهل من الفكر الليبرالي المرتكز على حرية المبادرة؛ حيث هيمنت عليه المقولة الشهيرة “دعه يعمل دعه يمر” .
ثانيا: الدولة المنقذة :برزت هذه الدولة نتيجة للبروز القوي للفكر الاشتراكي والنضال الطبقي الذي حارب الاختلالات العميقة التي حملها الفكر الرأسمالي ؛ حيث أدت الأزمة الاقتصادية بالولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1929 إلى ضرورة إعادة النظر في مهام الدولة.
ثالثا: الدولة في مرحلة الليبرالية الجديدة: برزت هذه المرحلة في منتصف السبعينات، وتميزت بالسعي لإيجاد حلول لأزمات الجديدة للرأسمالية المتجلية في تزايد حدة الفــوارق الطبقية: البطالة، التضخم، ارتفاع عجز ميزانيات الدولة، تصاعد العنف، فجاءت هذه المرحلة لتطالب بالحد من تدخل الدولة من خلال تبني سياسة الخوصصة والحد من قيام الدولة بالخدمات الاجتماعية في مجالات التعليم ؛ السكن والصحة… غير أنه مع بداية عقد التسعينات سيبرز تيار عالمي قوي سيناهض هذا التوجه لكونه يكرس آفة الفوارق الطبقية ويعمق الهوة بين دول الشمال ودول الجنوب، لذلك عمدت الدول الرأسمالية إلى بلورة توجه جديد يقوم على التوفيق بين الليبرالية وتدخل الدولة.
االمحور الثالث : سيادة السيادة الصورية

ماذا نعني بمفهوم السيادة؟
إن العنصر الذي يتوج المكونات السوسيولوجية للدولة هو وجود هيئة حاكمة ذات سيادة، بل لقد أجمع جل فقهاء القانون الدستوري على أن هذا العنصر هو الأكثر حضورا وتأثيرا على باقي مكونات الدولة؛ إذ لابد لكل مجتمع من قيادة تتولى أمر تدبير الشأن العام وتفرض النظام القانوني الذي ينبغي أن يتقيد به الأفراد عن طريق هيئة تتمتع بالسيادة.
برز مفهوم السيادة مع ظهور الدولة/الأمة الغربية انطلاقا من القرن السادس عشر ليوظفه ملوك فرنسا كمبرر قانوني لفرض سلطتهم على الإقطاعيات المحلية؛ بيد أن مفهوم السيادة سيشهد تحولا نوعيا مع مفكرين من طينة أرنست رينان وجورج بيردو اللذان وضعا أسس سيادة الأمة في مرتبة أسمى من سيادة الشعب، على اعتبار أن هذه الأخيرة ترتكز بشكل كبير على اقتراع الجسم الانتخابي؛ فالأمة كما يقول بيردو : “عرض للتاريخ المستمر ولتضامن الأجيال ولدوام المصالح الهامة المشتركة”.[14] فماذا كان يرمي جورج بيردو بقوله هذا ؟ يشير بيردو إلى حقيقة ساطعة ألا وهي أن الأمة لا تقوم فقط على الحاضر إنما يدخل في تكوينها الماضي والمستقبل؛ فحينما يقرر الحاكم صياغة أي قرار سياسي فإنه لا يأخذ بعين الاعتبار الوقائع الآنية فقط بل كذلك أعراف وحضارة وقيم مجتمعه. وعلى اعتبار أن السيادة لا تعدو أن تكون سوى مجموع الصفات التي تتصف بها السلطة في الدولة[15] فإن الذي يظهر الدولة كصورة تاريخية للمجتمع السياسي هو كون السلطة فيها منظمة ومن ثم خاضعة للقانون.[16] يقسم الفقه الدستوري السيادة إلى صنفين: سيادة الدولة وسيادة داخل الدولة[17].
أولا: “سيادة الدولة: تنقسم بدورها إلى قسمين أساسيين: الأول داخلي والثاني خارجي:
1- القسم الداخلي: تقيد فيه سيادة الدولة الداخلية تحديدها لنظامها بنفسها وسيطرتها على مواردها وسكانها وعدم وجود سلطة أسمى من سلطتها واحتكارها لسلطة الإكراه.
2- القسم الخارجي: إن سيادة الدولة لا تنحصر فقط في الصعيد الداخلي بل تمتد إلى المستوى الدولي[18]؛ يترجم هذا الصنف من السيادة في كون الدولة لا تخضع لسلطة خارجية قد تحد من استقلالها.
ثانيا: السيادة داخل الدولة: يعنى بها الأشخاص الذي خصهم الدستور بممارسة السلطة كرئيس الدولة؛ الحكومة، البرلمان.
إننا حينما نتحدث عن الدولة ينبغي أن نميزها عن السلطة؛ فجورج بيردو يضع تمييزا ممنهجا بين الاثنين مشيرا في هذا الصدد إلى أنه : “ليس كل مجتمع سياسي منظم دولة؛ فلا يمكننا إذن اعتبار التعاريف التي تقرنها بواقع التمايز بين الحكام والمحكومين على أنها حقيقة”.
المحور الرابع :أزمة الهوية في زمن الدولة القطرية
إن جوهر كل الحروب الكبرى هو محاولة التغلغل الحضاري الذي تحاول الدول المستعمرة زرعه في الدول المستعمرة إدراكا من الدول القوية أن المدخل الأساسي للسيطرة الفعلي على العالم يبدأ بالتغلغل الثقافي الذي أمسى اليوم حلبة الصراع بامتياز بين الأقوياء؛ فالسباق نحو الهيمنة الثقافية والإعلامية ومحاولة طمس موروث الدولة الوطنية يأتي على رأس أجندة مروجي العولمة. يكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أنه من أصل 6 ألاف لغة موجودة في العالم، نصفها مهدد بالأفول قبل نهاية هذا القرن.
إن هذا الصراع أمسى يتضح بشكل جلي حينما نستحضر مناهضة فرنسا للأمركة كهاجس أصبح يؤرق المثقفين والساسة حتى ليمكن القول إن فرنسا تجتاز أزمة خوف على الهوية، وصفها بعض الكتاب بأنها أزمة “عصبية جماعية” نتيجة طغيان الثقافة الأمريكية الناطقة بالانجليزية على ثقافتها ولغتها وعلى حساب تقلص دورهما عبر العالم.
ونستحضر في هذا الصدد قمة الدول الناطقة بالفرنسية التي شهدها الرئيس الراحل ميتران حينما دعا المؤتمرين إلى مساعدة فرنسا على الدفاع عن لغتها وهويتها في مواجهة الغزو الفكري الأمريكي. بيد أن الدول الفرانكفونية التي كان يستصرخها ويستنجد بها لمناهضة هذا الغزو لا تشكل سوى 3 في المائة من سكان العالم”[19]، بل لقد ذهب الرئيس شيراك في الدفاع عن نمط العيش الفرنسي الأصيل إلى حد أنه عارض أن يقام مطعم ما كدونالد في “برج إيفل” المعلمة السياحية الكبرى ليظل فضاؤه المحدود على الأقل في حصن وأمان، منفردا بنمط العيش الفرنسي بعد أن لم تسلم عاصمة باريس من الغزو الأمريكي المتمثل في مطاعم ماكدونالد والهمبرجر وإشهارات مالبورو وكوكا كولا الملصقة على الجدران، فأصبحت مراكزها التجارية تعلن عن بضائعها بالانجليزية.
اللغة الانجليزية غزت اللغة الفرنسية في عقر دارها فأصبحت لغة الاقتصاد والخدمات. يقول الكاتب الفيلسوف الفرنسي ميشيل سيريس : “إن الأغنياء وصانعي القرار في فرنسا أصبحوا يتحدثون بالانجليزية أكثر مما يتحدثون بلغتهم. أما الفرنسية فقد أصبحت لغة الفقراء”[20] فإذا كان هذا هو حال الصراع بين الأقوياء فكيف هو واقع الدول الوطنية المستضعفة؟
يطالعنا الباحث جان بيير فارني في كتابه “عولمة الثقافة وأسئلة الديمقراطية” بحقائق ومعطيات صادمة، حينما أشار إلى “أن كتابا مثل شينوا أشيبي أو وول سوينكا أو ف. س. نيبول يضطرون إلى الكتابة بالانجليزية إذا أرادوا أن يصيروا مقروئين، بما في ذلك داخل بلدانهم: نيجريا بالنسبة للأول والثاني وترينداد بالنسبة للثالث”، وهم ضمن قلة من المؤلفين الذين يقرؤهم جمهور غربي”[21] المحور الخامس : لمن الدولة؟
يحصي إيكناسيو راموني في مقال عنونه “بالحرب الاجتماعية” نتائج العولمة قائلا : “لقد نشبت 160 حرباً بين دول العالم الثالث في الفترة من 1945 – 1990، وعلى العموم فإن الكوكبية كانت علامة على تحول مميز في الصراع العالمي من نزاعات داخل الدول تعكس روابط محددة بين الطبقات والأمم في مرحلة الرأسمالية القومية إلى صراع طبقي عالمي.
ويشير تقرير التنمية البشرية لعام 1994 إلى هذا التحول من نموذج الحروب بين الدول إلى نموذج الحروب داخل الدول، فمن بين 82 نزاعا مسلحا من عام 1989 إلى عام 1992 كانت هناك ثلاث حروب فقط بين الدول.
ورغم أن المظهر الأساسي للحروب كان ذا طابع عرقي فإن كثيراً منها كان له طابع سياسي أو اقتصادي. وقد بلغ الإنفاق العسكري 815 بليون دولار عام 1992، منها 725 بليوناً أنفقتها الدول الغنية. ويعادل هذا الرقم الدخل الإجمالي لـ 49% من سكان العالم في نفس العام.
إن هذه الوضعية المزرية تقود عالم اليوم إلى ما يمكن أن نسميه بالعنف الاقتصادي الذي تمارسه الدول الفقيرة بفعل العولمة الليبرالية؛ فقد بلغت اللامساواة الاجتماعية حدا لم يسبق له مثيل؛ فنصف ساكنة العالم تعيش اليوم في فقر مدقعـ وأكثر من الثلث تعيش في بؤس عارم، وأزيد من 800 مليون يعانون من سوء التغذية، وما يقارب المليار نسمة أميون، ومليار ونصف لا يتوفرون على الماء الشروب! أمام هذه الموجة المتصاعدة لما يمكن أن نسميه بانعدام الأمن الاجتماعي أمست العديد من دول المعمور كالمكسيك وكولومبيا ونيجريا، وجنوب إفريقيا تنفق ميزانيات ضخمة لتطويق الحرب الاجتماعية بشكل يفوق ميزانيات دفاعها الوطني؛ فالبرازيل على سبيل المثال لا الحصر تخصص 10.6% لحماية الأغنياء من ثورة الفقراء، فيما لا تخصص لميزانية قواتها المسلحة سوى 2% من ناتجها الداخلي[22]. بل إن هذا التهديد أمسى حاضرا بقوة حتى في العالم الغربي، لذلك لم يتردد كورت توخولسكي في الإفصاح عن “أن الإجرام والرأسمالية فقط هما المنظمان في أوربا تنظيما عابرا للحدود”[23] فكيف يمكن الإيمان بديمقراطية العولمة إذا كانت تنتج لنا هذه الكوارث الإنسانية وتغيب سيادة الحكومات والدول مثلما يحصل اليوم في العراق والسودان ولبنان…؟
إن انجازات الديمقراطية لا تتوقف فقط على القواعد والإجراءات التي يتبناها ويكفلها المجتمع بل وأيضا على طريقة استخدام المواطنين للفرص. وها هو فيديل فالديز راموس رئيس الفيليبن السابق يطرح بوضوح شديد في نوفمبر عام1998 في خطاب له بالجامعة الوطنية الاسترالية، أنه في ظل نظام الحكم الديمقراطي لا يكون الناس في حاجة إلى أن يفكروا ولا بحاجة إلى أن يختاروا ولا بحاجة إلى إعمال العقل أو أن يبدوا موافقتهم، كل ما هو مطلوب منهم هو أن يتبعوا! وهذا الدرس القاسي الذي تعلمناه من الخبرة السياسية الفيليبينية منذ فترة غير بعيدة، ولكن الديمقراطية على النقيض من ذلك، إذ لا بقاء لها من دون فضيلة مدنية.
إن التحدي السياسي أمام الناس في كل أنحاء العالم اليوم ليس مقصورا فقط على أن تُستبدل بنظم الحكم التسلطية نظمُ حكم ديمقراطي؛ إذ يتعين بعد هذا كله تفعيل دور الديمقراطية لمصلحة الناس العاديين”[24].
المحور السادس : الدولة الوطنية العربية تجسيد لحالة الدولة المتفرجة
برزت الدولة القطرية العربية كنتيجة للتوازنات الإستراتيجية العالمية الناجمة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية[25]، حيث أفضت الحرب العالمية الأولى على إنهاك الدولة العثمانية وتفكيكها، بينما انتهت الحرب العالمية الثانية بإنهاء صوري للاستعمار، لفائدة فاعلين دوليين جديدين، وهما المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي.
والواقع أن الفروق بين النموذجين داخل العالم العربي هي فروق أقل بكثير مما كان عليه الأمر بالعالم الغربي، بحيث يظهر التماثل بين النموذجين من خلال رسم تخطيطي للدولة الوطنية؛ فسواء كان النظام ملكيا أو جمهوريا، وسواء كان الغطاء الإيديولوجي إسلاميا أم قوميا أم اشتراكيا، فإن النتيجة جاءت واحدة: اقتصاد هش ومجتمع مفلس ونظام فاسد.
وقد صمدت الدولة الوطنية بشكل أثار الانتباه؛ فمع مطلع عقد الثمانينات أشار الدكتور سعد الدين إبراهيم في المؤلف الجماعي المعنون بـ” المجتمع والدولة في الوطن العربي” إلى أنه بالرغم من كل معضلات بناء الدولة القطرية الوطنية فقد صمدت هذه الكيانات، بأطول مما تصور الكثير من القوميين العرب ومن المراقبين الخارجيين، عند إعلان استقلال هذه الكيانات؛ لقد استقالت بعض هذه الكيانات منذ العشرينات والثلاثينات مثل مصر والسعودية والعراق. فإذا كان من السهل تفسير صمود كيان الدولة المصرية الحديثة بسبب جذورها التاريخية الطويلة وبسبب تطابق حدود المجتمع مع حدود الاقتصاد والسياسة فبماذا نفسر صمود الدولتين العراقية والسعودية الحديثين للمدة نفسها وهي أكثر من ستة عقود زمنية؟ فالعراق الحالي كما أشرنا وكما سنرى هو تجميع بريطاني لثلاث ولايات عثمانية؛ والسعودية هي نتاج عملية توحيد عسكري ـ سياسي ، قامت بها أسرة أل سعود المتحالفة مع حركة دينيةـ الوهابيةـ لأقاليم في الجزيرة العربية”[26] إن هذا الهيكل التخطيطي للدولة العربية الوطنية بدأ يحمل معه تصدعات مست في البداية الدولة الوطنية الشبه الاشتراكية بسبب قربها النسبي من المعسكر الاشتراكي، لكن معالم هذا التصدع ستمتد إلى الدولة الوطنية الشبه الرأسمالية بمفاعيل وسيطة الأمر الذي يترجم وجود روابط داخلية عميقة تشد المجتمعات العربية بعضها إلى بعض.
إن دول العالم العربي عاجزة اليوم عن فعل أي شيء؛ إنها لم تعد في موقف تبعية مثلما كان عليه الحال في نظام الثنائية القطبية، بقدر ما أصبحت في موقف المتفرج.
مجمل القول إن نظام العولمة يحمل بين طياته مشروعا متكامل الأطراف يصب في اتجاه واحد، ألا وهو انمحاء الدولة القطرية الأمر الذي سيغير العديد من المعطيات الإقليمية والدولية.

-[i] أنظر أحمد أبو زيد :” المعرفة وصناعة المستقبل” سلسلة كتاب العربي- يونيو 2005 –6 ص26-27.
[2]- V Guy Sorman ـ L’etat minimum. Alpin Michel. paris198
[3]- VP.Bordieu ;Contre feu raisons b’Agir paris 1998 p23
[4]- راجع عبد الله العروي :” مفهوم الدولة”. المركز الثقافي العربي “ط-ر. البيضاء1988- ص7
[5]- V. J. D. d. Vabres- L’Etat- que sais je? PUF -N616-paris1994-p4.
[6]- V. P. Ardant- Institutions politiques et droit constitutionnel-12edition-L.G.D.J-paris2000-p18.
[7] – انظر عبد الهادي بوطالب” المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية” الجزء الأول- دار الكتاب- ط.أ- البيضاء 1979-ص58.
– [8] راجع في هذا الشأن كل من :
-V.J.Cabanne-Introduction A L’ Etude Du Droit Constitutionnel Et De La Science Politique- Privat-Paris1999-P25.
-V.M.Prélot-J.Boulois-Institutionnel Et De La Science Politique-Dalloz-Paris-1990-p9.
Esmein Elements de droit constitutionne l 8e ed 1927 Tome 1 p1[9] -[10] أنظر محمد معتصم : ” مختصر النظرية العامة في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية “مؤسسة إيزيس البيضاء 1992 ص20
[11]- راجع في هذا الصدد محاضراتنا : ” القانون العام الإسلامي” : محاضرات خاصة بطلبة السنة الأولى. ويمكن تحميلها من موقعنا الالكتروني http://perso.menara.ma/zineddine.ma/
[12] راجع بول هيرست جراهام طومبسون : “ما العولمة ” ترجمة فالح عبد الجبار / عالم المعرفة العدد 273 سبمتبر 2001 ص379
[13]- V.Ch.Debbasch-Y.Daudet-Lexique De Politique-Dalloz-6édition-Paris1992-p170.
[14]- V G.Burdeau- Droit Constitutionnel Et Institutions Politiques-18édi-L.G-D-J-Paris1977-p132
– [15]راجع ثروت البدوي” النظم السياسية – دار النهضة العربية- مصر بدون تاريخ الاصدار-ص43
– [16]أنظر محمد طه بدوي ” النظرية السياسية- المكتب المصري الحديث-بدون تاريخ الاصدار .
[17] – راجع سراج سعيد. “نظرية السيادة في النظم الدستورية- المجلة المغربية للقانون المقارن- العدد الأول -1983-ص217.
[18]- V.La Ferierre-Manuel De Droit Constitutionnel-Montchretien- Paris 1947-p 359
– [19] راجع : عبد الهادي بوطالب : العالم ليس سلعة “منشورات الزمن العدد 26 الرباط 2001 ص80
[20] راجع : عبد الهادي بوطالب : العالم ليس سلعة ” مرجع سالف الذكر ص81
[21] – أنظر جان بيير فارنيي “عولمة الثقافة وأسئلة الديمقراطية” ترجمة عبد الجليل الأزدي الناشر الملتقى مطبعة النجاح الجديدة البيضاء 20030″ ص42
[22] راجع مقالنا “الديمقراطية المعولمة” مجلة فكر ونقد العدد 81 البيضاء2006
[23]- أنظر هانس بيترمارتين وهارالد شومان: “فخ العولمة:” ترجمة عدنان عباس علي مراجعة وتقديم رمزي زكي عالم المعرفة العدد295 غشت 2003 ص313
[24]- Amartya sen” development as freedom” oxford university press new delhi 2000ـp198
[25]- يوجد اليوم بالوطن العربي اثنان وعشرون كيانا قطريا؛ تسعة منها تتمركز في شمال إفريقيا؛ وثلاثة عشر في غرب آسيا ويفصل بين المجموعتين حاجز مائي جزئي هو البحر الأحمر.

[26] راجع المؤلف الجماعي”الدولة والمجتمع في الوطن العربي” مركز دراسات الوحدة العربية بيروت الطبعة الأولى 1988 ص 168

مجلة فكر ونقد – المغرب

اترك تعليقاً