الرئيسية / ثقافة وادب / هواجس الولد البلوري

هواجس الولد البلوري

السيمر / السبت 03 . 03 . 2018

جاسم العايف

الشعر ، هذا العالم اللامتناهي ، كيف يكتب، ولمَنْ؟. كيف يمكن أن نتعامل معه؟. وهل ترك ما قبلنا شيئاً لنكتبه ؟. وهل سنترك لمن بعدنا شيئاً ؟. وماذا سنترك ؟ وماذا سيقولون عنا ؟. وماذا نريد و يريده،منا، ذلك الكائن الفريد العميق – الواضح – الغائم الذي اسمه ” شعر” ؟. والذي هو كما قال (جان كوكتو) عن الفن وضرورته وأنهاها بـ”آه.. لو أعرف لماذا”؟. (الولد البلوري)* مجموعة الشاعر “احمد جاسم محمد” والذي يرفض أن يوصف بـ” الشاعر” ، ويعلن انه “يكتب” الشعر، وله علاقة متوترة جداً معه وهو الذي يعينه على التوازن إزاء تحديات الحياة و الواقع اليومي وضغوطه المتواصلة . القصائد في ( الولد البلوري) لا تتنازل عن خصوصية لغة الشعر ، ولا يتنازل فيها الشاعر عن دوره كانسان لا يدافع عن حريته فقط ، بل عن حرية الآخرين الذين يعيشون معه على نفس الأرض، ثمة في القصائد ، الموقف الواضح دون التباس في الدفاع عن رفعة حياة البشر، في كل مكان من هذه الأرض التي نعيش عليه مرة واحدة، لا غير:
ولي في التباهي
وجوهُ الذين مضوا في وداع الملاحمِ
وعندي رؤى الكشفِ
التي مارستني هروباً
وقافلةُ الأغنيات
*
لدي البحارُ التي لا تخومَ لها
والخيول التي ابتكرت مرابطها
خلف شهد العذاب.
لديّ إذاً
كل ما أقاتلُ فيه هذا التصدّعَ
واحرق أياميَ الموحشات
وعندي المزيدُ من الوعد
لأخترقَ العتمات
وعندي السؤال
الذي ظلّ يحتاطُ ألا أكون
شاهدة عليَّ في البلاد البعيدةِ
ولا ورقاً
يراد له أن يدلَّ عليّ هنا..
الشاعر يهتم بمسألة اللغة وموضوعة التوصيل، لكنه من جهة أخرى يعيش حيرة لا مثيل لها وهو يواجه الأشياء،الواقع، العالم ، البشر،التاريخ، و ثمة ما يفصح عنه :
أتحيرُ دوماً في أمر الكلمات
إذ تخرج من مرجلِها لاسعةً
وأرها فوق الأوراق البيض
باردةً من دون حياة.
بعض قصائد (الولد البلوري)تشير إلى أمكنة عدة جابها الشاعر خلال رحلة تيهه بعيداً عن وطنه، بسبب الظروف السياسية منذ نهاية عام 1978 ، واستقراره سنوات في الجزائر ومساهماته في النشاط الثقافي – الاجتماعي فيها، وأحيانا يدخلنا في قصائده ، بضوء الوعد الذي لا يهادن فيه،وثمة مَنْ يدلُ عليه :
فيسير بأصغر جيشٍ في الكونِ
ليحتل قلوباً
إذ لا حاجةَ فيه
ليحتلَ قلاعاً
أو يخترقَ الجدران.
ثمة في (الولد البلوري) استدعاء ، وتأشير على شخصيات ، وأماكن كثيرة منها: ذبابة سقراط ، عشبة الأبدية، بنلوب، ابن العبد، جرأة الكومونيون، واجتياح قصر الشتاء ،سلالم أوديسا، تماسك هانوي، ترنح غاندي فوق ملح البلاد، فتوة لوركا،تردد هاملت، نجمة كاتب ياسين، حمامة بيكاسو، تمرد دافنشي، تشرّد شارلو، فضيحة الساحرات ،حشردات أديث بياف،جنون زوربا، غابة للدمع ومعجزة التضحيات،تعطش ابن العبد،وتلك الكؤوس من السحر واليأس، وبعضها يرمز لها بمواقفها ،ومنهم كيفارا،وذلك الصامت على إسراره ولم يبح بكلمة واحدة حتى، دون الإفصاح عن الأسماء، معتداً بسيرتها، وبعضها يضعها في الواجهة ومنها:المارتينيكي – فرانز فانون ،أمرآة الضوء- زها حديد ، التاركي ، المغاربة، كفافي – ونبؤته ، ما تبقى من محمود عبد الوهاب وهو بالهالة الشفقيةِ منفرداً،وليدخلنا تيهاً،ويوزعنا كجنود الهزائم ، الذين يسيرون إلى حتفهم على طرق من أنين . نرى إن على الشاعر رفض أن يكون مجرد ترس في أية آلة ضخمة ، أو مجرد مفسر غنائي لأيٍ كان،ومن جهة أخرى لن يكون لديه شيء يفخر به أذا انعزل عن أهم معضلات مجتمعه وعصره. عن الشعر حالياً يرى الكثير من النقاد أن بعض الشعراء قد وطنوا أنفسهم على إجابة مريحة مرتبطة بالثقافة المتواضعة للجمهور ، والذائقة الكلاسيكية التي تربى عليها منذ زمن بعيد، إن هذه المسألة ، رغم ما تحمله من بعض عناصر الصواب ، فأنها على العموم غير كافية ، وتنطوي على نظرة استعلائية تبرئ الشاعر بالذات من أية مسؤولية.(ت.س اليوت) منذ زمن بعيد أشار إلى هذه الظاهرة ،و التي تفاقمت الآن تحديداً، بسبب تحديات الأوضاع التي نعيشها ،والقلق الناجم عنها مما يتسبب بعدم الاستقرار الذاتي – الاجتماعي، الذي يدفع للتأمل كثيراً عن ما ستئول إليه الحياة العامة – الخاصة ، ومزاحمة البث الفضائي الهائل ووسائل الاتصال الحديثة للحياة الفردية، فقد يأتي الغد ليجد الشاعر نفسه محصوراً في ذاته فقط ، أو بعض الذوات المجاورة له والمحدودة بهامش ضيق.كما لا يمكن أن ننكر إن الشعر أكثر صعوبة ، بالنسبة لموضوعة الفهم،من الإبداعات السردية الأخرى فهو يتطلب قدراً عالياً من الاقتصاد في اللغة التي يجب أن تتميز بالرحابة والقدرة الإيحائية والتأويلية الواسعة ، ولابد أن يتمتع المتلقي بقدر مناسب من الصبر والقداسة كما ذهب إلى ذلك (بابلو نيرودا) لكي يفهم الشعر وينخرط في أجوائه . أن أزمة انقطاع التواصل مع المتلقي لا يجب أن ينظر إليها من زاوية تلغي مسؤولية الشاعر و اتخاذ موقف العزلة المتبادلة بين الطرفين ، وان الكثير من الشعراء يعتقدون إن الإبداع الشعري، كأي إبداع آخر ، هو عمل ذاتي يعبر فيه الشاعر عما يراه من العالم، بمعزل عن ردود الأفعال التي سيحدثها الأثر الشعري لدى الجمهور،وبموجب ما تيسر لنا من اطلاع لبعض الشعراء العراقيين و العرب والأجانب، خاصة ممن تحلوا بالشجاعة وخاطروا بحياتهم،من أجل حياة عادلة لكل البشر، لكنهم ولظروف عامة، لم يكونوا قادرين على توجيه سير الأحداث في هذا العالم أو أوطانهم، لكن ثمة قناعة راسخة بأن هناك قدر لا يستهان به من المسؤولية يقع على عاتق (الشاعر) لكي يجعل إبداعه مفهوماً ويعبق بطعم الصحبة البشرية والآمال الخلاقة، و معنى أن تكون الكلمة مفهومة تماماً ، وشعرية بكل أجنحة التحليق التي تمنحها الموسيقى للكلمات . الشاعر (احمد جاسم) لم يتنازل في(الولد البلوري) عن خصوصية لغة الشعر ، ولم يتنازل أيضا عن دوره كانسان حر لا يدافع عن حريته فقط ، بل عن حرية الآخرين الذين يعيشون معه على نفس الأرض:
أخاف كثيراً على أخوتي البسطاءْ
وعلى أخوتي الأذكياء: بناة التواضع
أخاف على النسوة العائدات من الكدّ
والنسوة الخارجات من اليأس
اللواتي عليهن ألقيتَ رمانك
الأرجواني..فصار ضياءً وغار
أخاف على ضوع تلك الزهور
وعلى الذكريات الشقيةِ بالدمع
أن يبددها الغادرون الصغار
أخاف على خبزِنا الفذّ
الذي كان بين يديكَ سنابل
أفكر فيكَ..وأبحر شوقاً لتلك الوجوه
التي انضج العشقُ أقمارها
وظلت كفجر مقيم
*
(الشاعر)، عموماً ، لن يكون لديه أشياء كثيرة يفخر بها، أذا انعزل عن أهم معضلات عصره، وإنها لمهمة في غاية الصعوبة تلك التي تتعلق ببحثه المتواصل عن مفردات اللغة التي تكون شعرية ومفهومة في آن معاً. فثمة من يزين للشعراء أجواء العزلة والانكفاء على الذات ، غير إن منطق الحياة قد بيّن، بلا أدنى مواربة إن ، الشعر الخالد هو الذي يرتبط بمستقبل الإنسان الذي هو مستقبل الشعر أيضاً ، يمكن الاستدلال ، بوضوح، على إن بعض قصائد (الولد البلوري) ترتبط بمؤثرات الشعر السبعيني تلك المرحلة الملتبسة ، والتي خضعت لتجاذبات ،ومهيمنات شتى.وما يؤخذ على الشاعر هو عدم ذكر تواريخ كتابة القصائد التي احتواها (الولد البلوري)، ولا البلدان الكثيرة التي حلَّ فيها، متخفياً ، ومطارداً أو مبعداً؟!. كما خلت جميع القصائد ،باستثناء (ص 11 وص 68 ) من علامات الترقيم ، التي هي جزء من بنية اللغة العربية التي لابد منها، كونها تمنع من الخلط والتّداخل بين الجمل، وتهدف إلى إيصال المعنى الّذي أراده المؤلف إلى القارئ، وثمة تداخل- طباعي- في بعض القصائد المنشورة مع غيرها.

* منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة- ط -1 – 2017- لبنان – الغلاف الفنان : صدام الجميلي –

اترك تعليقاً