السيمر / الجمعة 11 . 12 . 2015
رضا صوايا / لبنان
تعرف المافيا الصقلية باسم Cosa Nostra التي تعني «الشيء أو الشأن الخاص بنا». مع الوقت، نجحت المافيا في التكيّف مع المتغيرات لضمان استمراريتها، متخلّية عن نشاطاتها الإجرامية التقليدية لصالح أعمال أكثر مشروعية في الظاهر. هذا التغير دفع الصحافة الإيطالية الى استحداث تعبير La Cosa Nuova، أي «الشيء الجديد»، للإضاءة على التجديدات التي عرفتها المافيا. على النسق عينه، يمكن الحديث عن Cosa Nuova «داعشية». وهي، رغم عدم شرعيتها الظاهرة والباطنية، نجحت في أن تميل مع الريح وتتأقلم إقتصادياً لتجعل من هذا التنظيم الارهابي المنظمة الأغنى في العالم
تبرز الـ Cosa Nuova «الداعشية» جلية لدى مقارنتها بالتنظيم الأم الذي ولدت من رحمه، «القاعدة»، وذلك من حيث التمويل الذاتي لكلا التنظيمين. الاختلافات بين المنظمتين تشمل مسائل فقهية وفكرية وتنظيمية، إضافة الى الاستراتيجيات الواجب اتباعها ونوعية العدو المستهدف. لكن الجانب المالي قد يفوق المسائل الأخرى أهمية لشرح أسباب النمو المذهل لـ «داعش» وقدرته على الاستمرار وصعوبة القضاء عليه من خلال المجهود الحربي فقط.
صحيح أن وسائل التمويل التي يتبعها كلا التنظيمين الارهابيين تتقاطع في نقاط عدة، كالخطف مقابل فدية والتهريب والإتجار بالمخدرات… لكن، في أسس تمويلهما، يسلك التنظيمان دربين مغايرين. فـ «القاعدة» اعتمد على الثروة الشخصية لأسامة بن لادن وغسل الأموال وتلقّي هبات تحت غطاء أعمال خيرية، إضافة الى مساهمات مالية سخية من دول في الخليج أو مؤسسات وأفراد. وكان هذا التمويل يمر، في معظم الأحيان، عبر قنوات مصرفية ومالية شكّلت نقطة الضعف الأساسة للتنظيم، ومكّنت الولايات المتحدة ــــ بعد أحداث 11 أيلول ــــ من تجفيف منابع تمويله، ما أثّر في قدرته على الاستفادة من غسيل الأموال وتلقي الهبات تحت مسميات الاعمال الخيرية.
ولكن إذا كان التمويل الخارجي متنفس «القاعدة» وشريان حياته، فإن لـ «داعش» قصة اخرى تجعل من تمويله «شيئاً جديداً»!
التنظيم الأغنى
تكمن قوة «داعش» في «استقلاليته» المالية. لا يعني ذلك نفي أي ارتباطات خارجية أو مخابراتية أو تمويلية له، لكن الهيكلية الأساسية التي يقوم عليها البنيان «الداعشي» تجعل منه أقل تبعية للخارج من «القاعدة»، ما يزيد من «مرونته» وإجرامه.
فـ «القاعدة» يتميز بلامركزية، ويعمل وفق جماعات مستقلة تدين له بالولاء. فيما «داعش» بات «دولة» أمر واقع. وسيطرته على مناطق شاسعة في كل من العراق وسوريا، مع ما تحويه من ثروات طبيعية وآثار تاريخية وتجمعات سكانية كبيرة، تجعل منه «دولة» مكتفية ذاتياً من الناحية المادية، وتساهم في تأمين تمويل يومي ضخم للتنظيم الارهابي ما كان «القاعدة» ليحلم به. ناهيك عن أن التعاون الخفي بين التنظيم وبعض الدول المحاذية للعراق وسوريا، وحتى بعض الجماعات والأنظمة التي تحاربه، يزيد من ضخ الأوكسيجين في رئة الجماعة الإرهابية، ما يظهر بوضوح أن لدى التنظيم عقلية اقتصادية نفعية مغايرة للطابع الراديكالي الذي يسمه في ميادين الدين والمجتمع…
يستفيد «داعش» من التبرعات الضخمة رغم أنها لا تعتبر مورداً أساسياً له. ووفقاً لوزارة الخزانة الأميركية، تلقّى التنظيم عامي 2013 و2014 حوالي 40 مليون دولار من خلال جمعيات خيرية ومؤسسات لتقديم الاغاثة الانسانية ومساعدة الأيتام. إلا أن مصادر تمويله الأساسية تتوزّع على تجارة النفط والمخدرات والقمح وبيع الآثار والضرائب والجزية والأموال التي يجنيها من الخطف.
وبحسب تقرير «مؤشر الإرهاب السنوي» الصادر عن «معهد الاقتصاد والسلام»، يسيطر «داعش» على عشرة حقول نفط في العراق وسوريا ما يجعله مورداً للطاقة لأكثر من 10 ملايين شخص يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرته. وتقدر مبيعاته من النفط يومياً بحوالي مليون ونصف مليون دولار، إذ يبيع ما بين 34 ألف برميل و40 ألفاً في السوق السوداء، من خلال مهربين في كل من تركيا والأردن وايران، ويجني أكثر من نصف مليار دولار سنوياً من مبيعات النفط وحدها.
والى النفط، يُعدّ التنظيم لاعباً أساسياً في قطاع الكهرباء في سوريا، نظراً الى سيطرته على ثماني محطات كهربائية. وبما أن 90% من إمدادات الغاز ومحطاته تقع في مناطق خاضعة للتنظيم وللدولة السورية، يعود الإبقاء على هذه المحطات بمنافع مالية كبيرة عليه.
وبحسب رئيس الهيئة الروسية لمكافحة المخدرات فيكتور إيفانوف، تصل أرباح «داعش» من تهريب الهيروين الافغاني إلى نحو مليار دولار. ووفقاً للهيئة، يجني التنظيم عائدات ضخمة من خلال تهريب نصف شحنات هذا الهيروين إلى أوروبا عبر الدول المضطربة مثل العراق وبعض الدول الإفريقية، ويمثل عبور الهيروين قاعدة مالية متجددة.
كذلك يستفيد «داعش» من بيع نحو 40% من إنتاج القمح العراقي. «إذ أن مساحة الاراضي الزراعية التي يسيطر عليها في أراضي دجلة والفرات أنتجت تاريخياً نحو نصف محاصيل القمح السنوية في سوريا ونحو ثلث إنتاج العراق»، وفقا لمسؤولين في مجال الزراعة في الأمم المتحدة، «وهذه الحقول كفيلة بجني التنظيم 200 مليون دولار سنويا في حال بيع هذه الحبوب ولو في السوق السوداء».
«عائدات» الآثار
على عكس السائد عن نظرة «داعش» الى الآثار التاريخية كنوع من «الشرك والالحاد» مما يحتم تدميرها، فإنه ينظر الى الآثار من منظار التجارة والربح ايضاً. وبحسب جريدة «تايمز» البريطانية، تبيع هذه الجماعة الارهابية قطعاً أثرية تقدر بملايين الدولارات مباشرة إلى جامعي التحف في الغرب، بعدما سيطرت على كنوز أثرية في العراق وسوريا. ووصلت العلاقة المباشرة بين الطرفين، بحسب الصحيفة نفسها، الى حد لم يعد التنظيم وجامعو التحف حول العالم في حاجة الى وسطاء لإتمام الصفقات!
وكانت اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي قد كشفت أن «داعش» باع آثاراً عراقية بقيمة مليار و200 مليون دولار، وأن 23 مزاداً حول العالم تعرض الآثار العراقية وتبيعها. ونقلت قناة «بي بي سي» البريطانية عن أحد التجار ان سعر تحفة واحدة من تلك المسروقة قد يصل الى مليون دولار.
وتؤكد تقارير غربية أن تجارة الكتب والمخطوطات تدخل أيضاً ضمن مصادر تمويل «داعش». فعلى رغم اقدام التنظيم على حرق ما يزيد على عشرة آلاف كتاب استولى عليها من المكتبات الخاصة والجامعية والمنازل في الموصل، يشير رئيس برنامج «آغا خان» للعمارة الاسلامية في جامعة هارفرد اندراس ريدلماير الى ان التنظيم ربما أتلف الكتب التي لا قيمة سوقية لها واحتفظ بالكتب الثمينة والمربحة وباعها.
الأعضاء البشرية
وتدخل تجارة الأعضاء البشرية في أحد أبواب ميزانية «داعش». وكان السفير العراقي لدى الامم المتحدة محمد علي الحكيم أعلن في وقت سابق عن اكتشاف عشرات الجثث في مناطق كانت خاضعة لسيطرة «الدولة الاسلامية» تبين ان اصحابها خضعوا لعمليات جراحية لاستئصال اعضاء وخاصة القلب، الكلى، الكبد، البنكرياس وقرنية العين. علماً أن سعر الكلية في السوق السوداء يصل الى حوالي 200 ألف دولار.
وأشار تقرير نشرته صحيفة «ديلي ميل» البريطانية العام الماضي الى أن «داعش» يجني أكثر من مليونَي دولار سنوياً على خلفيّة الإتجار بالأعضاء البشريّة التي يستأصلها من جثث جنوده القتلى ومن الرهائن الأحياء بما في ذلك الأطفال.
جاذبية اقتصادية
تؤكد معظم الدراسات والأبحاث أن جاذبية «داعش» وقدرته على استقطاب المقاتلين ليست دينية بحتة. صحيح أن المفاهيم الدينية والتفسيرات المتطرفة للنصوص تشكل أسباباً لالتحاق كثيرين به، لكنها ليست الأهم. بل إن الجذور الاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي قد تكون المحرك الاساس للتنظيم.
فقد بلغت نسبة البطالة في العالم العربي 17 في المئة عام 2014، أي أكثر بثلاث مرات من المعدل العالمي. ووصلت النسبة في صفوف الشبان سن الثلاثين عاما الى 30 في المئة. وتظهر الدراسات أن نسبة النمو في البلدان العربية تراوحت في الأعوام الأخيرة بين 2 و3 في المئة، فيما احتواء البطالة والفقر يتطلب نموا لا يقل عن ستة في المئة.
اتجاه دول عربية عدة الى تحرير اقتصادياتها والحد من نظم الرعاية وخفض التوظيف في القطاع العام من دون سعي جدي لتأمين البدائل وتنشيط القطاع الخاص، إضافة الى الإتكال على الريع وعدم تأمين الأرضية الخصبة للاستثمارات خاصة في صناعات المعرفة والتكنولوجيا الحديثة، كلها عوامل زادت من فقدان الأمل لدى شرائح واسعة من السكان، وبخاصة حملة الشهادات الجامعية الذين لا يجدون عملاً لتصريف معرفتهم وما اكتسبوه خلال سنوات.
الى ذلك، بلغ عدد الأميين في المنطقة العربية عام 2013 نحو 97.2 مليون شخص من أصل نحو 340 مليون نسمة، أي ما نسبته 27.9 في المئة. وبحسب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فإن أكثر من 6 ملايين طفل في العالم العربي غير منخرطين في سلك التعليم، فيما 20 في المئة من الأطفال الذين يلتحقون بالتعليم الاساسي يتخلفون عنه خلال المرحلة الدراسية الأولى، وتصل هذه النسبة في بعض الدول الى 30 في المئة. ولا تتجاوز مداولات سوق الكتاب العربية بيعا وشراء أربعة ملايين دولار سنويا، في حين يصل هذا الرقم في دول الاتحاد الأوروبي، مثلاً، إلى نحو 12 مليار دولار. بعبارة أخرى، فإن القيمة المالية لما يتداوله سكان الاتحاد الأوروبي فقط من كتب يوازي ثلاثة آلاف ضعف القيمة المالية لما يتداوله العرب مجتمعين. ولا تشكل الكتب الصادرة في الوطن العربي بأسره ربع ما تنشره اليونان على سبيل المثال. وفيما يقرأ كل 20 طفلاً عربياً كتاباً واحداً، يقرأ الطفل البريطاني سبعة كتب، أما معدل ما يقرأه الفرد في العالم العربي سنويا فلا يتعدى ربع صفحة، فيما معدل ما يقرأه الأميركي 11 كتابا والبريطاني 8 كتب.
في ظل هذا الوضع، توفر «داعش» بديلاً جذاباً لكل من يشعر بأنه منبوذ ومهمّش. مع هذا التنظيم من لا يملك أملاً في الحياة، يصبح قادراً على التحكم بحياة الآخرين: من الضعف المطلق الى الهيمنة المطلقة، وهنا تكمن جاذبية «داعش». لا يهم إن كنت أمياً، متعلماً، جاهلاً، مجرماً… الكل يجد له مكانة في «الدولة الاسلامية» المزعومة.
ويقدر عدد أفراد التنظيم، بحسب وكالة المخابرات المركزية الأميركية عام 2014، بحوالي 30 الف مقاتل، فيما تشير التقديرات الى ان الرقم الحقيقي أكبر بكثير ويناهز الـ 100 ألف.
ويتقاضى المقاتل الـ «داعشي»، بحسب الـ «إيكونوميست»، راتباً شهرياً يراوح بين 400 و500 دولار، وهو رقم يفوق ما تدفعه باقي الجماعات المسلحة في سوريا لمقاتليها، فيما يحصل القادة الميدانيون على راتب شهري بحدود 3000 دولار. وبحسب أكثر التقديرات تحفظاً، يصل ما يدفعه التنظيم من رواتب إلى نحو 15 مليون دولار شهريا.
وفي التقديمات، يحصل كل مقاتل على 50 دولاراً شهرياً راتباً لزوجته أو لكل من زوجاته، و25 دولاراً عن كل من أطفاله. أما الفنيون المهرة والمهندسون فتصل رواتبهم الى 1500 دولار شهرياً وفقاً لفريق من الباحثين تابعين للامم المتحدة. ويعلن التنظيم بصورة دورية عن حاجته الى خريجين في مختلف الاختصاصات، ومنها الطب والهندسة والتمريض والإدارة والاتصالات…
محاربة «داعش» عسكرياً قد تضعف التنظيم، لكنها حتماً لن تقضي عليه، إذ أنه بات متجذراً اجتماعياً واقتصادياً ودينياً وفكرياً على مستوى العالم العربي ككل. قتال «داعش» في سوريا والعراق ضروري، لكن الحرب على التخلف والبطالة والانهيار الاقتصادي والمجتمعي الكامل في العالم العربي إضافة الى ضرورة تطوير المناهج الدينية والخطاب الديني هما الأساس للتخلص من أحد أكثر التنظيمات الارهابية تطرفاً ووحشية عبر التاريخ.
«شفافية داعشية»
على نسق الشركات الكبرى التي تصدر بيانات دورية وتقارير سنوية للكشف عن اعمالها وارباحها او خسائرها بما يعزز من شفافيتها ومصداقيتها، دأب «داعش»، منذ عام 2012، على اصدار نشرة دورية باسم «النبأ» تعنى بالعمليات العسكرية لـ «الدولة الاسلامية في العراق والشام». النشرة موثقة ومفصلة، وتحدّد الاعمال العسكرية التي نفذها التنظيم خلال كل شهر من اشهر السنة مع الاشارة الى الاسلوب المستخدم في تنفيذ كل منها. والتقرير جزء من الاسلوب الاعلامي والبروباغندا الداعشية لجذب المقاتلين والمستثمرين عبر ابراز «نجاحاتها».
نظام الضرائب
فيما تدرّ أموال الخطف على التنظيم الارهابي 45 مليون دولار سنوياً، تعتبر الضرائب أحد مصادر التمويل الأساسية التي يعتمد عليها «داعش»، بخاصة مع وجود عدد كبير من السكان في المناطق الخاضعة لسيطرته في كل من سوريا والعراق. إذ تفرض «دولة الخلافة» ضريبة دخل تبلغ 10% على الأفراد، وبين 10و15% على أرباح المؤسسات، و2% على مبيعات السلع اليومية، إضافة إلى ضريبة الطريق والضرائب على المعابر التي يسيطر عليها. أما من يريد الخروج من «أرض الخلافة» فعليه دفع ضريبة تبلغ 1000 دولار صالحة لمدة أسبوعين فقط، الى جانب أموال الجزية التي يفرضها على غير المسلمين. ويوضح تقرير عراقي أن التمويل الذي كان يحصل عليه «داعش» في بداية فرض نظام الجباية كان يقدر بنحو 5 ملايين دولار شهرياً من محافظة نينوى وحدها، قبل أن يتضاعف الرقم تضاعف إلى 11 مليون دولار شهرياً.
ويشير مركز الأبحاث التابع للكونغرس الاميركي (Congressional Research Service) الى فرض «داعش» رسماً شهرياً قدره 22 دولاراً على طلاب المدارس الابتدائية و43 دولاراً للمراحل الأعلى، و65 دولاراً على طلاب الجامعات.
الاخبار اللبنانية