السيمر / الاحد 02 . 12 . 2018
عاصم الجلبي*
أصبحت الدراسات حول موضوع التأثير الموسيقي العربي على موسيقى شبه الجزيرة الإيبيرية في القرون الوسطى تأخذوا دوراً مهماً وبارزاً ومحل اهتماماً وجدلاً كبيرين في الأوساط العلمية المتخصصة حول تاريخ تطور الموسيقى الاندلسية. ولزيادة اكتشاف المخطوطات والنصوص الأدبية في العقود الأخيرة هيأ هذا لعلماء هذه الدراسات مواد لم تكن حاضرة في النصف الأول من القرن العشرين الامر الذي يتطلب إعادة تقييم هذا التأثير من الناحية العلمية باستخدام مناهج البحث العلمي الحديث. ولعل الإشكالية الكبيرة التي يُعاني منها هذا الموضوع هو وجود النزاع بين فريقين الأول منهم يدعي وجود هذا التأثير واضعاً شواهد تاريخية مهمة تؤيد رأيهُ هذا وبين فريق آخر ناكراً لهذا التأثير ومؤيداً رأيهُ أيضا بشواهد لا تقل قيمة عن الفريق الأول.
وفي هذه الدراسة المقتضبة سنركز على احدى الشواهد المُهمة والتي طُرحت في الربع الأول من القرن العشرين عن مدى تأثير الموسيقى العربية عل موسيقى شبه الجزيرة الإيبيرية.
في النصف الأول من القرن العشرين ظهرت مجموعة من المستشرقين وعلماء الموسيقى تؤيد وبشكل كبير وجود هذا التأثير نذكر منهم على سبيل المثال: خوليان ريبيرا Julián Ribera y Tarragó الاسباني وهنري جورج فارمر Henry George Farmer الأسكتلندي وهجينو انجلز Higinio Anglés الاسباني. قامت هذه المجموعة بنشر سلسلة من الدراسات المثيرة للجدل منها ما قام به المستشرق خوليان ريبيرا Julián Ribera y Tarragó في كتابه الموسوم Music in Ancient Arabia And Spain، في هذا الكتاب يعتمدُ هذا العالم في تأييد رأيه عن التأثير الموسيقي والشعري العربي على مجموعة غنائية جمُعت بين عامي 1260 و1280 تسمى هذه المجموعة Cantigas de Santa Maria (أغاني لمريم العذراء) (وهي واحدة من أكبر المجموعات لأغاني القرون الوسطى) من قبل الفونس العاشر الحكيم (Alfonso X the wise). (reg. 1252-1284). كان الفونس العاشر (ملك قسطليه وطُليطلة وأشبيلية وقُرطبة ومرسيه وغيرها) على درجة عالية من الثقافة والتعليم وكان مُعجباً اشد الاعجاب بالحضارة العربية الإسلامية وطوال سني عمره سعى إلى دمج العلوم العربية في الثقافة الإسبانية وبسبب جهوده هذه أطلق عليه لقب ال “el Sabio” بمعنى الحكيم والمقصود “المُثقف”, وفي بلاطه تواجد المسلم والمسيحي واليهودي الشعراء منهم والموسيقيون وكذلك العلماء وفي خلال حكمه تمت المرحلة الثانية من عملية الترجمة للكتب العربية ولكن ليس إلى اللاتينية كما هو الحال بالنسبة للمرحلة الأولى للترجمة وإنما إلى اللغة القشتالية ، وشملت عملية الترجمة دائرة كبيرة من مختلف الحقول كالفن والادب والعلوم والخ. ولكن أشهر هذه المنشورات التي جُمعت وألفت في عصره هي (كانتيغا دي سانتا ماريا) .
على أن هذه المجموعة ليست الوحيدة فهناك مجاميع أخرى منها باللغات الفرنسية والإيطالية واللاتينية ولكن المهم والكبير منها هو ما جمعهُ الفونس العاشر، وهي محفوظة في مكتبة دير الاسكوريال القريب من مدريد. هناك ما مجموعهُ حوالي 426 Cantigas واردة في أربعة مخطوطات؛ ثلاثة منها في إسبانيا (اثنان منها في مكتبة دير الاسكوريال والثالثة في مدريد) والرابعة محفوظة في مدينة فلورنسا/ إيطاليا. أهم هذه المخطوطات الأربعة ما هو محفوظ في مكتبة الاسكوريال احداها تحتوي على 401 Cantigas مصحوبة بمدوناتها الموسيقية مع سلسلة من المنمنمات الغنية بمحتواها لموسيقيين يحملون آلاتهم الموسيقية، تقدم لنا هذه المنمنمات فكرة مباشرة عن الآلات الموسيقية المستخدمة في أداء هذه Cantigas؛ إن ما يُلاحظ في هذه المنمنمات من التنوع في مجموعة الآلات الموسيقية ليثير الاعجاب! فجميع أنواع الآلات الوترية القوسية منها أو ذات النقر والآلات النفخ الهوائية والآلات الإيقاع والصنوج وأجراس الرنين بل حتى آلة الأرغن مصورة في هذه المنمنمات. وهنا نشاهد أيضا الآلات الموسيقية العربية من العود والقانون والرباب والطبل.
(آلة العود وآلة الربك أو الرباب منمنمة من كانتيغا دي سانتا ماريا ويُلاحظ هنا بأن عازف العود يستعمل المضراب وليس الأصابع في عملية العزف وهذا دليل على وجود خط لحني واحد ولا وجود لتعدد التصويت لحد تاريخ تصوير هذه المنمنمة، اما عازف الربك فآلتهُ الموسيقية وطريقة مسكهِ للألة يذكرانا بما موجود اليوم في فرق غناء النوبة في المغرب وشمال افريقيا).
على أن الساحة الموسيقية في شبه الجزيرة الأيبيرية والسابقة للفتح العربي، لم تُكن تخلو من الآلات الموسيقية ويكفي أن نذكر هُنا العمل الموسوعي (أيطومولوجياEtymologie ) للعالم اسيدورو من اشبيلية Isidor von Sevilla سنة 636 ميلادية، الذي يذكر أكثر من 25 آلة موسيقية . بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المنمنمات توفر دليلا لا غنى عنهُ على أن كل أغنية كانت تغنى من قبل صوت واحد او أكثر من الأصوات المصحوبة بشكل مختلف من قبل آلة موسيقية واحدة أو اثنين أو مجموعة منها وأحيانا من قبل الراقصين.
أن الحان الكانتيغات Cantigas أتت من مصادر متنوعة، تم استعارتها وتكييف بعضها من الغناء الديني (الانشاد الكنسي الغربي والموسيقى الدينية ل Mozarabic) أو الألحان الشعبية من كلا جانبي جبال البرناس. في المقابل هناك سانتيغا تنحدر الحانها من أغاني التروبادور في مقاطعة بروفنسال، والبعض الآخر لديه صلات مُذهلة مع الموسيقى العربية والكثير منها اقتبس هيكل العروض الشعري للزجل العربي. والألحان كانت مُعدلة أو مؤلفة من قبل موسيقي بلاط ألفونسو العاشر أو من قبله كما يُدعّى. كما أن المقامات المستخدمة متنوعة الاشكال ولكن مقامي (الدوري Dorian ومكسي لودين Mixolydian) هما السائدين، كما ويستخدم التنويط التربيعيMensuralnotation)) في عملية التدوين الموسيقي في جميع المخطوطات، والتي لا تزال تُقدم مشاكل جدية بخصوص العروض والايقاع والتنغيم كما أن الكانتيغات لا تعُلمنا عن نوعية السلم الموسيقي أو المرافقة الآلية ولا عن وظيفة آلة الايقاعية أو النغمية. تقريباً جميع الكانتيغات في قالب Virelai الشعبي، (refrain/verse/refrain)، مع بعض التعديلات
وما يهمنا هنا هو تبيان الصلات اللحنية للكانتيغا مع الموسيقى العربية كما ذكرنا أعلاه. مُستعينين بذلك إلى ما ذهب اليه عالم الموسيقى الدكتور حبيب حسن توما ، والذي يرى من أن الهيكل النغمي للكانتيغا هو بناء فسيفسائي الشكل يتكون من عناصر نغمية قصيرة. إن البناء الفسيفسائي النغمي هو عنصر ممّيز للموسيقى العربية بصورة عامة وبالأخص الموسيقى الموزونة وفي الدرجة الأولى الموسيقى الأندلسية المغربية والجزائرية والتونسية، كما أن النغم في الكانتيغات يتحرك تدريجياً درجة درجة في كل جملة موسيقية، وعند قيامه بأخذ إحدى الكانتيغات كعينة لتحليلها موسيقياً متفحصاً حيزها الصوتي وجدهُ مُقارباً لسلم مقام الحُسيني العربي. كما ويذكر المستشرق خوليان ريبيرا في كتابه المذكور سابقاً وعند تحليله للبناء الايقاعي لبعض الكانتيغات تشابهه مع الاوزان المستخدمة في زمن الموصلي كالثقيل الأول والماخوري وغيرهما.
متورطتان وبشدة بالجدل القائم عن مدى Cantigas de amigo ومجموعة أخرى Cantigas de Santa Maria أن مجموعة وكيفية تأثير الموسيقى العربية على الموسيقى الأندلسية، ومع ظهورالمزيد من النصوص الأدبية وغيرها في العقود الأخيرة، تم اكتشاف المزيد من المقاطع ذات الصلة بدراسة الموسيقى في هذه النصوص، فعلى سبيل المثال عُرفت حياة زرياب بشكل شبه كامل من مصدر واحد هو كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر الوزير للسان الدين الخطيب) للمقري التلمساني المتوفي عام 1632 ميلادية في القاهرة. أن العثور مؤخراً على السفر الثاني من كتاب المُقتبس لابن حيان الأندلسي القرطبي والمخطوط في القرن الحادي عشر والذي كان النص الأساسي لسيرة زرياب التي اعتمدها المقري، يوفر لنا الآن تصورا لبعض من أكثر المزاعم اللامعة حول هذا الموسيقار ويقدم لنا رواية أكثرُ تصديقاً للحياة الموسيقية في البلاط الاندلسي في اوائل القرن التاسع.
إن دراسة التأثير العربي في الموسيقى لموسيقى شبه الجزيرة الأيبيرية وفي العقود الأخيرة قد شهد تحولات كبيرة وتم رفض الكثير من الفرضيات والدراسات السابقة، الامر الذي يتطلب الوقوف مرة أخرى وإعادة تقييم لهذه الأبحاث والدراسات، إن مؤيدي “الفرضية العربية”، مثلهم مثل معارضيهم، رأوا تاريخاً ثقافياً من الانتقال والتأُثير، وتجاهلوا التعقيد الهائل للثقافة الإنسانية.
-La Música De Las Cantigas. By Julian Ribera, translated and abridged by Eleanor Hague and Marion Leffingwell, Stanford University Press, California, 1929.
شكّل الانترنت مصدر أساسي ومُهم للحصول على معلومات وصورالمنمنمات للكانتيغات.
لغة اسبانيا الرسمية والأدبية المبنيةُ على لهجة قشتالة.
Das Maurische Spanien, Geschichte und Kultur. Georg Bossong. C.H.Beck Verlag 2010.
– دراسات في الموسيقى العربية، موسيقى المدينة. أعدتهُ وقدمتهُ: شهرزاد قاسم حسن. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى 1991 ص 23.
إصطلاح يُطلق على المسيحيين اللذين عاشوا في ظل الإسلام.Mozarabic –
7 التروبادور هو الشاعر والمغني والموسيقي الجوال الذي عاش في القرون الوسطى في جنوب فرنسا. في كتابه دور العرب في تكوين الفكر الأوربي لمؤلفه عبد الرحمن بدوي إن كلمة تروبادور مأخوذة من كلمة طرب والتي كانت تستعمل في الأندلس بمعنى الغناء. ص 45.
مقامات الدوري وماكس لوديان هي من المقامات الكنسية والتي كانت شائعة في موسيقى القرون الوسطى، ومع تطور الموسيقى الغربية تخلت عن المقامات الكنسية لصالح مقامي الكبير والصغير.
9 – لم أجد ايةُ إشارة لمصطلح Mensuralnotation)) في اللغة العربية لقد مر تطور التنويط الموسيقي للموسيقى الغربية بمراحل كثيرة وتمثل مرحلة ظهورMensuralnotation)) احدى هذه المراحل المُبكرة لعملية التطور عن التدوين القديم فهنا تشير العلامات إلى مدة الصوت مع رموز مُختلفة للشكل الايقاعي وكذلك رموز السكوت.
قالب شعري فرنسي، استخدمهُ التروبادور في غنائهم ورقصهم وهو نوع بسيط من الروندو. Virelai
بيت شعري.Verse جزء مُتكرر Refrain
حبيب حسن توما Ḥabīb Ḥasan Tūmā (1934-1998) من أبرز علماء الموسيقى العرب ولِد في الناصرة وأقام في المانيا، قام بتأليف عدد من الكتب والمقالات عن الموسيقى العربية، أبرزها كتابه Musik der Araber Dieوكذلك اطروحته والمعنونة مقام البياتي في التقاسيم العربية Der Maqam Bayati im arabischen Taqsim
* موسيقي عراقي مغترب