السيمر / الاثنين 14 . 01 . 2019
د. لبيب قمحاوي / الأردن
الحديث عن فلسطين لم يعد تكراراً لما نعرفه جميعاً من ثوابت وحقوق وطنية بقدر ما أصبح تعبيراً عن القلق الكامن في ثنايا ما لا نعرفه وما يتم التخطيط له من قِبَلِ الآخرين لتصفية القضية الفلسطينية وإغلاق مَلَفِّها بشكل نهائي . والخطورة في هذا السياق ليست محصورة فقط بما يخططه العدو سواء أكان إسرائيلياً أم أمريكياً ، بل بما يخططه القريب سواء أكان عربياً أو فلسطينياً . الجريمة التي نحن بصدد الحديث عنها وتحليل عواقبها تتعلق بالتآمر الداخلي العربي والفلسطيني على القضية الفلسطينية بالتعاون والتنسيق مع أمريكا وإسرائيل . فهذه الأنظمة وعلى الرغم من أية خلافات قد تكون فيما بينها ، إلّا أنها على ما يبدو متفقة ضمناً على إغلاق ملف القضية الفلسطينية ، وتأهيل علاقاتها مع إسرائيل بإعتبارها حليفاً وصديقاً وليس عدواً ، دون مطالبتها بدفع أي ثمن للفلسطينيين مقابل ذلك. ويبدوا أن الثمن الأهم الذي تسعى تلك الأنظمة للحصول عليه هو رضا إسرائيل عنها ودعمها لها في سعيها للبقاء والإستمرار فيما هي عليه بغض النظر عن إرادة شعوبها ، والحصول على الدعم الأمريكي لها في ذلك المسعى . الحديث عن صفقة القرن ومؤامرة تصفية القضية الفلسطينية يجب أن لا يُنظر إليه بإعتباره تطوراً جديداً خطيراً ، فالمؤامرات على فلسطين والفلسطينيين والقضية الفلسطينية لم تتوقف منذ بدايات القرن العشرين . التطور الجديد والخطير هو الدور العربي والسلطوي الفلسطيني المُعْلَن والمتسارع في التآمر على القضية الفلسطينية والذي اتخذ أشكالاً ومسارات لم نعهدها من قبل . ان معظم مفاصل صفقة القرن قد تم تنفيذها فعلاً على أرض الواقع بإستثناء الاعتراف العربي الرسمي والقبول الفلسطيني بنتائجها ، وهذا هو مربط الفرس . المطلوب الآن أمريكياً وإسرائيلياً هو القبول الفلسطيني العلني والرسمي والإعتراف العربي بنتائج تلك الصفقة ، أي إغلاق ملف القضية الفلسطينية ، علماً أنه في غياب ذلك القبول فإن ملف القضية الفلسطينية سيبقى مفتوحاً مهما فعل الأمريكيون والإسرائيليون . ترافقت صفقة القرن مع الإنهيار العربي والفلسطيني العام والذي أعقب سقوط الحكم في معظم الدول العربية بيد أفراد وفئة من الحاكمين لا يُكِنُّون أي إعتبار للعروبة أو أي إحترام للقضايا العربية وأهمها قضية فلسطين . لقد إمتازت تلك المجموعة من الحكام بسعيها الدؤوب للحصول على رضا ودعم أمريكا وإسرائيل ، الأمر الذي جعل من السقوط العربي والفلسطيني في براثن دولة الإحتلال الإسرائيلي قضية وقت . من العبث محاولة إلقاء اللوم على الآخرين لأن ما نحن فيه من إنهيار هو في الأساس من صنع أيادينا ، تماماً كما كانت معظم الانتصارات الإسرائيلية في واقعها هزيمة العرب لأنفسهم أكثر من كونها إنتصاراً إسرائيلياً مطلقاً . وهكذا فإن ما نحن مقدمون عليه من مزيد من الانهيار والسقوط والاستسلام هو محصلة للسلوك الأناني الجائر لمعظم الأنظمة العربية تجاه شعوبها وآمالها في التنمية الاقتصادية والسياسية وتحقيق الأماني القومية والوطنية . تتلازم السياسة الأمريكية في تواطئها مع الصهيونية مع المؤشرات المتتابعة للإنهيار في الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية والتي تتناسب بشكل طردي مع الانهيار والاستسلام الرسمي العربي والسلطوي الفلسطيني للضغوط القادمة من أمريكا وإسرائيل والتي تعكس موقفاً أمريكياً عدائياً بشكل علني وغير مجامل للحقوق العربية والفلسطينية . الخطر الاستراتيجي على الأمة العربية من وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين لم يعد وارداً في حسبان العديد من الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والتي أخذت تترجم المصالح الوطنية والقومية لشعوبها من منظور مصلحة النظام نفسه ، خصوصاً بعد أن تم استبدال حالة العداء لإسرائيل بالعداء لايران وتم تصنيف إسرائيل بذلك كحليف استراتيجي يشارك تلك الأنظمة عداءها لإيران . السقوط العلني للعديد من الأنظمة العربية في أحضان إسرائيل لا يعني سقوط الشعوب العربية . إن فشل التطبيع مع إسرائيل عبر تجارب السلام في كامب ديفيد ووادي عربة واتفاقات أوسلو يؤكد أن ما تسعى إليه الأنظمة قد ترفضه الشعوب بطريقتها الخاصة ، وهذا لا يعني عدم وجود مَنْ هُمْ على إستعداد للتطبيع ولكنهم قلة القِلَّة . وقد أثبتت السنون أن المقاطعة الشعبية العربية لإسرائيل والمستندة إلى أولوية الحق والإيمان العميق بخطر إسرائيل على مستقبل هذه الأمة يشكل بحد ذاته سَدّاً ضد إنحراف الأنظمة والذي يجب أن لا يعني بالضرورة إنحراف الشعوب . الأمر المفجع حقيقة هو أن هذا التنازل العربي قد جاء مجانياً ولم تطالب الأنظمة العربية إسرائيل بأي شيء ولو حتى رفع الظلم عن عائلة فلسطينية واحدة أو إخراج سجين فلسطيني واحد من سجون الإحتلال ! هذا هو السقوط والانهيار بعينه ولا يوجد أي تفسير آخر لذلك . إن طبيعة الافكار الأمريكية المرتبطة بالتوصل إلى حلول تؤدي إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية أصبحت مرتبطة أيضاً بتكريس حالة الإنقسام الفلسطيني المزمن ، وأصبح حل غزة أولاً وأخيراً نتيجة مُتَوَقَّعة لهذا الإنقسام وما قد يتمخض عنه من أمر واقع يجعل من حل الدولة الفلسطينية في ما يسمى ” بقطاع غزة ” حصراً ، أمراً محتوماً وخياراً وحيداً. تتواتر الإشاعات والأحاديث والأقاويل مؤخراً عن ارتباط صفقة القرن بما يجري في الأردن الآن وما يمر به من صعوبات على إفتراض أن صفقة القرن تهدف إلى خلق وطن بديل للفلسطينيين في الأردن . والواقع أن هذا الأمر يبدو بعيداً عن الصحة كون مفهوم الوطن البديل ، إذا ما حصل ، سيكون عاماً ويرتبط بتوطين الفلسطينيين أينما كانوا في الدول المضيفة لهم وليس إنشاء دولة فلسطينية في وطن آخر ، كون صفقة القرن لا تسعى إلى إعطاء الفلسطينيين حق إنشاء دولة أو حق العودة إلى وطنهم فلسطين، بقدر ما تسعى إلى توطينهم في أماكن تواجدهم خارج فلسطين . هذا بالإضافة إلى أن إسرائيل لا توافق على إنشاء دولة فلسطينية ناجرة أو على تحويل أي دولة عربية إلى دولة فلسطينية . ان ما قد يكون أكثر خطورة في آثاره قد يكون على أولئك الفلسطينيين المقيمين في ما كان يدعى بالضفة الغربية ويتمثل ذلك في احتمال قيام بعض القوى في الأردن بالبحث عن فتاوى قانونية أو دستورية تهدف إلى إلغاء قرار فك الإرتباط وما تمخض عنه باعتباره يتناقض والدستور الأردني أو القانون الأردني في بعض جوانبه ويمهد الطريق بالتالي إلى إعادة الجنسية الأردنية لأولئك الفلسطينيين مما سيحولهم في ظل قانون يهودية الدولة من مواطنين فلسطينيين على أرضهم إلى رعايا دولة أجنبية مقيمين على ما يُدعى بالنسبة لقانون يهودية الدولة ” بأرض إسرائيل ” ، مما قد يسمح لدولة الإحتلال بطردهم في المستقبل إلى الدولة التي يحملوا جنسيتها بإعتبارهم مقيمين وليسوا مواطنيين . مرة أخرى الخطر قد يأتي من داخلنا والمستفيد الوحيد هو العدو الإسرائيلي. ان إخراج القضية الفلسطينية من قُمْقُم الإنهيار والإستسلام العربي والتخاذل والتواطؤ السلطوي الفلسطيني قد أصبح أمراً حيوياً ومصيرياً لمستقبل هذه القضية والحفاظ على الحقوق العربية الفلسطينية . وهذا الأمر يستوجب حل السلطة الفلسطينية وارغام الإحتلال الإسرائيلي على ممارسة دوره البَشِعْ كقوة إحتلال مُباشَرَةً وعلناً وعدم السماح لذلك الإحتلال بالإختباء خلف واجهة السلطة الفلسطينية وتحت عنوان ” الحكم الذاتي ” الزائف والذي لم يتجاوز أبداً قطاع الخدمات والتجسس الأمني لصالح الإحتلال تحت شعار زائف آخر وهو ” التنسيق الأمني ” .