السيمر / الثلاثاء 05 . 03 . 2019
صالح الطائي
في حياتنا الكثير من الدرر المخفية التي لا نعلم عنها شيئا، ربما لأنها انشغلت بنفسها عن تتبع آثار الآخرين، في هذا الزمن الصعب. وفي الأزمنة الصعبة يحلو السكوت، حيث ينزوي العقلاء في أركانٍ قصيةٍ ويدعون أعمالهم تتكلم عنهم، مع أنهم يعرفون قبل غيرهم أن المرء مخبوء تحت لسانه، وقد أبدع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في تصوير تلك الرؤية بعدد من أقواله مثل:
ـ ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة.
– اللسان معيارٌ، أرجحه العقل، وأطاشه الجهل.
– اللسان ميزان الإنسان.
– ألا وإن اللسان بضعة من الإنسان، فلا يُسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله النطق إذا اتسع.
– ما من شيء أجلب لقلب الإنسان من لسان، ولا أخدع للنفس من شيطان.
– الإنسان لبه لسانه، وعقله دينه.
– تكلموا تُعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه.
– قلت أربعا، أنزل الله تصديقي بها في كتابه: قلت: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول).
معنى هذا أن الإنسان يختبئ خلف أسوار أقواله، وخلف ما يريد أن يصرح به، ومعناه أن حديث المرء هو البوابة التي يلج منها الآخرون إلى عالمه، وهو جوازه للمرور إلى دنيا غيره، وقد يكون هذا الجواز منتهي الصلاحية، لا تفتح له الحدود! لكن مع هذا وذاك، يبقى الإنسان كائنا مجهولا ما دام ساكتا، فإذا نطق، أسفر عن وجهه، وعرَّف بشخصيته؛ الجميلة أو القبيحة، فقبح الروح وجمالها لا يُرى إلا عند التكلم، فالكلام هو الترجمان.
جاء في قصص الإغريق أن الفيلسوف سقراط كان جالسا بين تلاميذه يتبادلون الرؤى، وجاء أحدهم متأخرا، وهو يرتدي لباسا فاخرا زاهيا جميلا، فنظر إليه مطولا، ثم قال: “تكلم يا هذا لكي أراك”. وقد جاء عن أمير المؤمنين(ع) قوله: “الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام”.
إن هذه الأقوال العظيمة هي محاولات فلسفية هدفها إعادة تشكيل المعنى الإنساني خارج سياق التوصيفات المتداولة، فبالكلام وحده تتضح الشخصية، وتظهر حقيقتها إلى الوجود، وبالكلام وحده تُستحصل الحقوق، وتُقر الواجبات، ويُدان الظلم، ويُنصر العدل. من هنا نجد سقراط لا يقول للقادم المتأخر: تكلم لكي أعرفك، أو لكي أسمعك، أو لكي أفهمك، أو لكي أعرف من أي مكان أنت! والإمام علي(ع) لم يقل الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها النقود أو الجيوش أو الشباب. هاتان الرؤيتان أرادتا الإشادة بدور الإنسان الثوري الكتوم الذي لا يريد أن يفضح كلامه مراميه التي لا ترضي الحكام فيخافون منها.
لكن ذلك لا يمثل دعوة للثرثرة، فاللسان نصف موجبات الحساب الأخروي، قال رسول الله(ص): ” مَنْ ضَمِنَ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ ورجليهِ أو وفخذيه، ضَمِنْتُ لهُ الجنَّة”، وحينما يكون المرء مسؤولا عما سينطق به لابد وأنم يضع في حساباته النتائج المترتبة على ذلك
لقد سقت هذه المقدمة الطويلة لأدخل من خلالها إلى عالم الأديب المتخفي الأستاذ عماد البابلي، الذي ما كنت لأعلم بوجوده لولا صديقنا المشترك الأستاذ محمد صالح الهاشمي، فأنا بالرغم من احتكاكي الدائم بالوسط الثقافي في واسط، لم أسمع من قبل عنه شيئا، بالرغم من كونه أصدر أربعة مؤلفات جميلة وغريبة، هي على التوالي:
- نائم لا يملك ثمن الحلم: قصص قصيرة وقصائد. صدرت في 2009.
- الكتابة على جسد العراة: نصوص سوريالية. صدرت في 2010.
- كارما: رواية. صدرت عام 2016.
- عوالم أخرى: مجموعة شعرية. صدرت عام 2019.
وسأقصر حديثي عن الرابعة منها، مع أني ارغب بالاحتفاء بها كلها، فهي محاولات جريئة لاختراق حاجز الصمت، وإشهار الصراع بوجه العبثية، في محاولة لتنبيه الذات إلى مكامن الخطر الأسطوري؛ الذي يحيق بنا في مفازات حياتنا التي لا تعرف السكون.
في محاولتي لتفكيك هذه المجموعة اضطررت ـ حتى بالرغم من مشاغلي الكثيرة والمتنوعة ـ إلى إعادة قراءتها أكثر من مرة، علي انجح في استخراج اللؤلؤ المكنون في أصدافها المتناثرة على مساحة واسعة، ينوء بحملها كتاب مكون من 202 صفحة، فكيف بمن يقف على أبواب السبعين منهكا من ثقل ما يحمل من خطايا وذنوب وآثام، وثورة أيضا، أن يحمل وزرا جديدا.
ولكي يثمر جهدي، بدأتُ بالمقدمة التي أسماها الشاعر (افتتاحية)، إذ أنه أفصح من خلالها عن الغاية والهدف من الكتابة، معترفا أنه ليس بشاعر، وأنها نصوص شبه شعرية، وهي ليست أكثر من تهجدات سجين مكتوبة على جدران زنزانته، باح بها كنداء استغاثة.
هذا النوع من البوح، ولاسيما إذا ما كان مشفوعا بدعوات لغض النظر عن الأخطاء اللغوية والطباعية والاملائية والعروضية، يهدف عادة إلى الإعلان عن مواقف تتسبب بأذى غالبا لمن يصرح بها، أو يتبناها، حتى مع شكلها العام الذي لا يتبنى موقفا ثابتا نمطيا تجاه فئة أو جهة، والخال من التخصيص والتأشير، مثل قوله: “طفل يأكل من مزبلة قرب كنيسة، أو جامع مغطى بالذهب، وكأنه لا يبحث عن الجريمة، وإنما يهتم بحرمة الجثث!
هذا الأسلوب النقدي اللاذع وغير المباشر والقابل للتأويل، يدخل في نطاق فن (البانتوميم) أو فن الحركات الإيحائية أو التمثيل الصامت، الذي يعتمد على براعة الممثل، وخيال المتفرجين في ترجمة تلك الإيحاءات إلى ما يشتهون، ممكن أن ينفذ من خلال الجدران الزجاجية السميكة دون أن يترك مخلفات تثير الريبة والشك، لكن المباشرة النقدية مثل قول: “كنتيجة طبيعية لبقية ما يحدث في هذا الوطن المنهار، الوطن الذي حوله قادته الى مزرعة حمير مشوشة تكره الكتب وتكره كل ما هو متصل بالمعرفة” قد تترتب عليها مخرجات فيها قدر كبير من المسؤولية، وهذا قد يكون جزء من مشروع التخفي اللطيف الذي يتبعه الأديب البابلي في حياته العامة والأدبية. ولكنه يدل في ذات الوقت على وجود ثورة تعتمل في صدره إلى درجة الغليان والانفجار، وهذه الثورة هي التي تدفعه ليكتب ويتحمل مسؤولية ما يكتب، لأنه يدين “هذا الزمن العربي المشوه الذي يحتاج للكتب التي تسجل خيبته وسيرة الضحايا وماذا فعلت الحروب والانقلابات السياسية في هذا الشرق الذي يزعم أنه الأقرب الى الله”.
أول شيء جلب انتباهي في مطبوعات الأستاذ البابلي أنها لا تختص بنوع محدد من الأدب، مثلما هو متعارف عليه، حيث يُخصص الكتاب إما للشعر أو النثر أو القصة أو الرواية، أما البابلي فباستثناء كتابه (الكتابة على جسد العراة) الذي اورد فيه نصوصا نثرية، جمع في الإصدار الثاني (نائم لا يملك ثمن الحلم) قصصا قصيرة وأضاف لها مجموعة من القصائد، وهذا أسلوب غير دارج. وفي روايته (كارما) استخدم التهميش في كثير من صفحاتها، واستمر التهميش لغاية الصفحة الأخيرة من الرواية البالغ عدد صفحاتها (111) صفحة، حيث تحدث فيه عن الكارما، وهذه الهوامش تتراوح بين التحدث عن نتيشة ووالماسوشية واليهودي التائه وختان البنات والسوريالية والناقلات العصبية وحرب الوردتين والانثروبولوجيا والانكشارية والكاكائية وكثير مما لم نتعود رؤيته في كتب الروايات.
ووفق السياق نفسه، جاءت مجموعة “عوالم أخرى” مزيجا من الشعر، والنصوص النثرية القصيرة، والحكم المقتبسة، والمعلومات التاريخية، وهي بتلك الصورة تبدو مائدة شهية ترضي جميع الأذواق، وذلك لأن الشاعر بدا متأثرا بأبي حيان التوحيدي، الفيلسوف المتصوف، والأديب البارع، وهو من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه ببغداد وإليها ينسب، الذي قال: “أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم”. وهي مقوله رددها جميع الذين يكتبون بنفس نسق الأديب البابلي، والتي أسست لمنهج سبق وأن سار عليه الكثير من الأدباء المشهورين، منهم محمود درويش في مجموعته “كزهر اللوز أو أبعد” الصادرة عام 2005.
هذا يعني أن المعلومات الموجودة في مؤلفات عماد البابلي تدل إما عن رغبة جامحة في خدمة الناس من خلال ذكر معلومات قد يحتاجونها، أو أنه يملك كما كبيرا من المعلومات التي يحاول نشرها من خلال مؤلفاته، وهي سواء عاب النقاد وجودها في غير أماكنها الطبيعية المعتادة، أو اعتبروا ذلك خروجا على المألوف، تمثل غالبا إضافة جميلة جدا تدل على سعة ثقافة الكاتب، وهذا ليس تبريرا ليُعفى من مغبة استخدام هذا الأسلوب.
مجموعة (عوالم أخرى) ارادت أن تعلن صراحة عن هويتها الغريبة، فأنا خلال خوضي في غمارها، وبعد عدة محاولات، لم انجح في توصيفها، واحترت في أي خانة من خانات الأدب المتداول أضعها، وهذه ليست استهانة بها، فهي جوهرة حقيقية تنبئ بولادة مثقف كبير ممكن إذا ما أعاد منهجية مشروعه أن يتحول إلى رقم صعب في مجتمعنا.
مجموعة (عوالم أخرى) كنز معرفي، ومتحف مملوء حتى مشاشته بأروع العبارات والجمل والحكم والمقاطع النثرية التي تهزك من أعمق أعماقك، حتى تشعر بقشعريرة وكأنك تقف عاريا على قمة رابية في ليل شتائي قارس. فانظر إلى عمق دلالة الصورة في قوله:
ـ أم تخاطب ملاك الموت: لنحمل أحذيتنا ونحن نخرج من الباب أخاف على أطفالي أن يستيقظوا. (ص:124)
ـ لافتة على دار العجزة: أمومة للبيع. (ص:23)
ـ في المزاد بيعت حزمة كتب من علم النفس بسعر تنورة قصيرة. (ص: 5)
ـ الانسان قرد الأزمنة، يبايع نفس الغزاة، يرقص لنفس الزناة، جمل مخنث يعرف الحقيقة لكنه يصمت. (ص: 44)
ـ الوزير الذي قتبه الخضر لم يمت، كبر وصار الآن وزيرا للداخلية. (ص: 100)
ـ هل تؤمن بالحياة بعد الموت؟ اجعلني أؤمن بالحياة قبل الموت أولا. (ص: 101)
ـ للذئاب حكايتهم في تخويف صغارهم، يحكى أن هناك ذئب بملامح إنسان. (ص: 101)
ـ الجسد الميت الطافي يساوي كمية الماء المزاح. (ص: 171)
بالمحصلة أجد أن عماد البابلي رجل مجازف، يقبل المخاطرة بكل شيء في سبيل أن يقطع الطريق علينا، لجعلنا نقف ونستمع إلى نوتات تلك الموسيقى الناشزة، التي تنطلق من أعماله لتعلن تمرده، وتصيبنا بالدهشة.