السيمر / فيينا / الخميس 25 . 04 . 2019
رواء الجصاني
دون تخطيط مسبق، وعلى عجالة متناهية، غادرت الى بغداد، بعد سبعة اعوام في براغ “خـلتها سبعينَ لا كدراً، لكن لحاجتها القصوى الى الكدرِ”.. فقد كانت زيارتي الاخيرة لبغداد عام 2012 وها هي الزيارة الجديدة، قبل ايام لا غير. والمناسبة هي دعوة للمشاركة في افتتاح (بيت الجواهري) الذي ستأتي خلاصة عنه في سطور تاليات ..
الدعوة كانت من امين العاصمة العراقية، دكتوراه الهندسة: ذكرى علوش، بالتزامن مع مهرجان بغداد الدولي للزهورالذي ينظم في مثل هذه الايام، كل عام، على ساحات متنزه الزوراء الشهير، الباهر الانيق، متنفس البغداديين وعوائلهم واطفالهم، ولربما الوحيد من نوعه في العراق حتى اليوم. ومن حسن الوقائع التي شجعت على تلبية الدعوة هي ان تكاليفها تحملتها مؤسسات تجارية خاصة، تدعم المهرجان، ومتطلبات ضيوفه ..
أصلُ بغداد بعد سفرة متعبة، لأسباب صحية، وغيرها!!. وينطلق المهرجان في موعده عصر الاثنين 2019.4.15 واذ ببرنامجه ذي الايام الستة يخلو من فقرة افتتاح (بيت الجواهري). وأعاتب الداعين، فيعتذرون بسبب عدم اكتمال المتطلبات، لظروف طارئة. ولا مناص غير قضاء الايام السبعة المحددة للدعوة، وببرنامج حافل ومغـرٍ، ولكن ليس لكاتب هذه السطور، العازف عن السفـر والترحال منذ سنين. والرافض للتغيير!.
وافتتاح (بيت الجواهري) الثقافي كان هو سبب دعوتي لبغداد كما أسلفت، بأحتساب أني قد اطلقتُ النداءَ الاول، وأشعتُ الضجة الواسعة التي نجحت في احباط صفقة تجارية أوشكت ان تتم عام 2011 لبيع الدار الوحيد للشاعر العظيم، في البلاد، برغم زعمهَ عام 1957 بأنه العراق كله، حين هدرَ “أنا العراق، لساني قلبه ودمي، فراته، وكياني منه أشطارُ”. أقول نجحت الضجة المثارة، ليس عراقيا فقط، بل وعربيا ايضا، لتقوم أمانة العاصمة بغداد بشرائ البيت، وتسديد مايقابله من مبالغ الى الورثة، بناتٍ وبنينا عام 2012.. ثم بدأت مرحلة الصيانة الخارجية والداخلية، ومتطلبات تحويله الى مركز ثقافي، وما زالت التشطيبات النهائية قائمة الان لأكمالها بأقرب وقت، وافتتاحه امام المواطنين والزوار، بصالاته المطرزة بالشعر والوثائق والصور والتسجيلات، وعسى ألّا يتأخر تحقيق ذلك. وقد أعربت خلال الزيارة لأمين بغداد، السيدة ذكرى، عن تمنياتي تلـك، وحرضتها بأن التاريخ سيقول أن المشروع أنجز في عهدها!.
والأن وبعيدا عن “البيت” ذي الصلة، دعوني أبوح ببعض ما جاءت به حصيلة هذه الزيارة الى بغداد “دارة المجد، ودار السلام” كما يفترض ان تكون، وبحسبِ وصف الجواهري الخالد لها، حين استباحها غلاة البعثيين، في انقلابهم (الشباطي) الاسود عام 1963 .. فما هي ابرز ما توفر خلال ايامي السبعة (ولياليها طبعا!) في بغداد:
1/ ما بين زيارتيّ الاخيرتين للعراق، اي ما بين عام 2012 وعام 2019 ثمة الكثير الكثير من المتغيرات على صعيد الاستقرار الأمني، وبقياسات نسبية طبعا. ومؤكد ان هذا الاعتراف لن يقبله النائحون، والباحثون عن التحريض والبكاء واشاعة اليأس.
2/ وعلى صعيد الشؤون العامة، – إذ التقيت بالعديد من السياسيين والمثقفين، والاقارب والاصدقاء- هناك انطباعات تسود بأن ما تحقق، ويتحقق، امر ملموس، ولكنه لا يتناسب مع التطلعات والطموحات، ولا مع موارد البلاد التي يتفق الجميع (مولاة ومعارضة) بأنها ما برحت تحت هيمنة الفاسدين وأعوانهم، وليس من السهل (اجتثاثهم) وهم يتحصنون في ما بات يعرف بالدولة العميقة.
3/ وأذ اجادلُ – واحيانا للجدال وحسب- بأن المخازن و(المولات) والمطاعم والمتاجر والاسواق مليئة بالناس، ومن مختلف الاصناف والفئات، وحتى ساعات متأخرة من ليل بغداد الانيس، يجيبون بأن كل ذلك في وسط العاصمة ومحيطه. ولكن هناك الكثير الكثير من المناطق التي يشكو ناسها من الفاقة والفقر المدقع، والخراب، وعدم اهتمام المسؤولين سوى بأنفسهم.
4/ وحين أتعمق في المحاججة والجدل، بأن (أولي الأمر) منتخبون؟. يأتي الجواب عاجلاً وجاهزا، بأن الجهل، والاغراءات، والظروف الاخرى هي السبب وراء فوز اولئك. أما الحل المناسب- دعوا عنكم الامثل- فلا أحد يستطيع الاجابة المنطقية، والقاء الحجة بموضوعية، وتأنٍ، بعيدا عن العواطف والمزايدات.
5/ وعندما أشير، مؤكداً ما زعمتُ، وأزعم به من زمان، بأن البلاد العراقية لن تستقر وتتقدم كما يطمح المخلصون، ما لم تتحقق تسوية الاوضاع في بلدان الجوار، وأغلبها ملتهب اليوم، يوافق بعض على ذلك الطرح، ويصرخ بعض آخر بخلافه، ولكن دون ان يطرح البديل، ودعوا عنكم ايضا اللجوء للشتم والتخوين والاتهامات، وعسى الّا يشملنا ذلك بسبب هذه الكتابة! ..
6/ ومن جملة ما يظهر جلياً في مختلف النقاشات السياسية وغيرها- طغيان الاشاعات والاقاويل، وتصديقها، بأحتساب انها ادلة وثوابت، مما لا يشجع اصلا الاستمرار في تبادل الاراء ووجهات النظر. ومن الأكثر أسفاً لتلكم الحال ان يشترك في تلك الصفات (اي اعتماد الاشاعات والاقاويل) متعلمون، وممارسون للسياسة والنشاطات العامة، ولحدِّ أن تُنسى الحقائق والوقائع المؤسية، والأدلة الموثقة للمعاناة والدمار ..
7/ وبالترابط مع النقطة السابقة، تتأكد الحاجة للتركيز على اهمية وأسبقية مكافحة الامية المعرفية، وليس التعليمية وحسب. ومن دون ذلك ستبقى الاوساط المجتمعية قابلة للانجراف الى التشدد والغلو، والاحكام المسبقة. بل وضياع الاهم، والدوران في فلك العواطف والانفعالات، والتنظيرات والتفيّقه، ليس إلا.
اخيراً، لقد أطلت وما أنا قاصد لأكتب تحليلاً، بل انطباعاتٍ عجول مستقاة من سبعة ايام، وليالٍ، كنت فيها شاهد عيان، ومن (موقع الحدث) كما يقولون، وليس بعيدا عنه!..
براغ، اواخر نيسان 2019