كاظم فنجان الحمامي
ما يميز أرباب السياسة في العراق أنهم الأوفر حظاً في الاستحواذ على المزايا الرسمية وغير الرسمية، والأكثر لهفة لنيل المكاسب والمطالب، فرغباتهم النفعية لا حدود لها، وتهافتهم المذهل في البحث عن الامتيازات الفوقية شمل المجالات الدنيوية والدينية. أنظروا إلى القوافل التي شدت رحالها إلى الديار المقدسة في مكة والمدينة والحجاز، ستجدونهم حجزوا مقاعدهم على أجنحة البوينغ والأيرباص، وتجمعوا بكل ما يحملونه من تسهيلات رئاسية – وتخفيضات وزارية – واعتبارات برلمانية – ونعرات عشائرية، حتى تصدروا طليعة القوافل المهرولة بين الحطيم وزمزم، يقولون: أن أسماء الوزراء والوكلاء والسفراء والمدراء ظهرت (بالصدفة البريئة) للمرة العاشرة في جداول القرعة السنوية، تماماً – زي كل مرة – في قسمة ضيزا ضمنت لهم الأولوية والأسبقية، ومنحتهم ما لا تمنحه لأقرانهم في العواصم الإسلامية.
يا للعجب، ألم أقل لكم: أن الحظ والبخت صار ملازماً لخطوات أصحاب الامتيازات البرمكية الخرافية، وأن الحظوظ تتكرر مرات ومرات عند وجهاء العملية السياسية، وتنهال عليهم ببركات أصحاب المواقع الفوقية المرموقة.
نحن نعلم أن حج البيت لمن أستطاع إليه سبيلا، لكننا لم نتوقع أن تكون السبل كلها مفتوحة دائماً وأبداً لهؤلاء وحدهم. آخذين بنظر الاعتبار أن معظم المسلمين الأوائل الذين كانوا يعيشون في مكة نفسها، اشتركوا بأداء مناسك الحج لمرة واحدة فقط، ثم امضوا بقية أعمارهم في خدمة الناس، وفي قضاء حوائجهم، ولم يصل بهم الإفراط في العبادات إلى ترك المعاملات. فالعدل عندهم أساس المُلك، وخير الناس من نفع الناس. لكن المقاييس اختلفت عندنا في العراق، فقادة البلاد تركوا العباد، وهرعوا لأداء مناسك الحج والعمرة.
تركوا وراءهم العراق كله بشماله وجنوبه. تركوه بعبواته المتفجرة بين الناس كما النيازك المتساقطة من دون رحمة فوق سطوح الأحياء الفقيرة. تركوه بخطوطه القتالية المستعرة في المناطق الساخنة وفي الخنادق الملتهبة. تركوه بقلق مدنه البائسة التي فقدت صمامات أمنها وأمانها. تركوه بأفواجه الألفية التي عبر البحر نحو الملاذات الألمانية الآمنة. تركوه بأقلياته المسيحية والأيزيدية المنكوبة، التي فقدت صغارها وكبارها في قبضة المنظمات الظلامية، تركوه تحت رحمة خناجر الإرهاب المغروسة بين ضلوعنا هنا وهناك.
لقد تفتقت عندهم مواهب الطمع المشروع وغير المشروع، واضمحلت عندهم انزيمات القناعة والرضا، فالشبع والامتلاء لا مكان له في بطونهم الشرهة، ولا ملاذ له في تلافيف عقولهم المتليفة. القاسم المشترك الأعظم بينهم. أنهم يشتركون مع بعضهم البعض بملامح زئبقية. ينتمون فيها لأكثر من وطن. يحملون أكثر من جنسية. ليس لدى معظمهم عوائل تعيش بيننا، فلا أولادهم يدرسون في جامعاتنا، ولا بناتهم يتعلمن مع بناتنا.
اختلطت عندهم اللغات واللهجات والتوجهات، وتداخلت في ضمائرهم الولاءات والتبعيات. العراق عندهم محطة غنية بالثروات المتاحة والأموال المستباحة. والشعب في حساباتهم عبارة عن كومبارس كبير مُشفر منذ عشرات القرون لأداء الأدوار الطائفية المرسومة.