السيمر / الخميس 28 . 01 . 2016
سمير الفزاع / سوريا
في أواسط خمسينيات القرن الماضي، ينضم العراق إلى “حلف بغداد” المعادي للسوفييت، والمكون من: بريطانيا وتركيا وإيران وباكستان. 1958، يطيح عبد الكريم قاسم بالنظام الملكي في العراق، لكن “قاسم” لفت الأنظار أكثر عندما أعلن إنسحاب العراق من حلف بغداد في العام 1959، وبدأ بشراء السلاح السوفيتي… ليتعرض لمحاولة اغتيال في ذات العام من قبل ستة شبّان كان من بينهم صدام حسين. أشهر قليلة، ويتأسس الحزب الإسلامي العراقي -نيسان/1960- كغطاء سياسي لحركة الإخوان المسلمين في العراق. دخل الحزب في مواجهات سياسية مع الشيوعيين ومع السلطة العراقية آنذاك، فأصدر الرئيس “قاسم” قراراً بحله واعتقال قياداته في العام 1960، أي بعد 7 أشهر فقط من قيام الحزب، وتحول الإخوان المسلمين في العراق إلى العمل السري من العام 1960 وحتى العام 1991، حيث أعلنوا عودة الحزب للعمل السياسي برئاسة الدكتور أسامة التكريتي، زميل “صدام حسين” في المراحل الثلاث، الابتدائية والإعدادية والثانوية .
قبيل الذكرى الحادية عشرة لاستلام حزب البعث للحكم في العراق -17/7/1979- تفاجأ العراقيون بإعلان استقالة الرئيس البكر في 16/7/79، وكان السبب المعلن للإستقاله، العجز عن أداء المهام الرئاسية لأسباب صحية، وأعلن صدام حسين “نفسه” رئيسا للجمهورية، ورئيسا لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة… بعد تحدّيده إقامة “البكر” في منزله إلى أن توفى في 10/1982، لكن لماذا؟:
1- إفشال أي صيغة للوحدة أو حتى للتقارب بين سورية والعراق، بنسف كامل نتائج الاتفاق الذي توصل إليه الرئيسان حافظ الأسد واحمد البكر لتطبيق “ميثاق العمل القومي” قبل شهر تقريباً من انقلاب “صدام”، خصوصاً وأن موقع رئيس الدولة سيذهب إلى الراحل الكبير حافظ الأسد، وموقع أمين الحزب للرئيس البكر… ما يعني: تدهور مكانة “صدام” أولاً، وتهديد وجودي لأمن الكيان الصهيوني ومشاريع واشنطن في المنطقة ثانياً، وإدماج العراق في معادلة الصراع العربي-الصهيوني بعد غياب مصر ثالثاً، وهزّ المعادلة النفطية في العالم وأركان محميات الخليج التي دعمت “صدام” بعشرات مليارات الدولارات في حربه مع إيران رابعا، وإمكانية تحالف دولة الوحدة مع إيران الإسلامية التي دعمها حافظ الأسد ورفض البكر مهاجمتها… .
2- التفرد بسلطة مطلقة. مثلاً، قام “صدام” وبعد أسبوع من إقصاء “البكر” بجمع قيادات حزب البعث في قاعة “الخلد” في بغداد، وأُعدم وسجن العشرات منهم بدعوى التآمر مع الرئيس “الأسد”.
3- مجابهة “الثورة الإسلامية في إيران”، خصوصاً وأن النظام الإيراني الجديد بدأ يتطلع إلى تصدير ونشر مفاهيم ثورته في المحيط… ما اعتبرته أمريكا تهديداً لمصالحها في المنطقة، فعملت على إشعال حرب بين العراق وإيران تشغلهما وتستنزفهما لأطول فترة ممكنة… وهو ما يفسر تصريح زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق العام 1981، والحرب العراقية الإيرانية في أوجها: “إن المعضلة التي ستعانيها الولايات المتحدة من الآن وصاعداً هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجيّة ثانية تقوم علي هامش الحرب بين العراق وإيران، وتستطيع أميركا من خلالها تصحيح حدود “سايكس-بيكو”.
4- وهو “المرفوض” من الكلية الحربية في العراق، حاول “صدام” أن يصبح شرطي الخليج خليفة للشاه، وزعيماً للوطن العربي بعد وفاة الزعيم عبد الناصر… .
توقفت الحرب العراقية-الإيرانية في العام 1988، ليخرج العراق منهكاً مستنزفاً مديناً بعشرات المليارات لمحميات الخليج، لكن فشل الحرب في تحقيق هدفها، وتردي الوضع الاقتصادي، وظهور بيروقراطية عسكرية ضخمة “خرجت” من الميدان لتشكل عبئاً وخطراً كبيرين على نظام صدام، وإحساسه المرضي بفائض القوة والمكانة، ومرارة “خديعة” محميات الخليج له، و”غض الطرف” الأمريكي… وغيرها من العوامل، أغرت “صدام” بغزو الكويت في العام 1990. صحيح أن “صدام” تعاون مع جماعة الإخوان المسلمين خلال العقد السابق-الثمانينيات- وتحديداً في ضرب سورية واستقرارها، إلا أن هذا التحالف سيأخذ بعداً جديداً عقب حرب 1991، لقد أصبح “التدين” عموماً، والتحالف مع الحركات الاسلاموية، ومنها الإخوان المسلمين، ضرورة ملحة لأسباب، منها: توفير “ملاذ آمن” في السماء للهروب من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… التي يعانيها الشعب العراقي. التهرب من تحمل مسؤولية الهزيمة والخسائر الكبرى التي مني فيها الشعب والجيش العراقيين. بعد أن أقصى “صدام” حزب البعث منذ اللحظات الأولى لحكمه أكتشف الحاجة “لأيدولوجيا” تملأ الفراغ، خصوصاً بعد سقوط “خياره العروبي” المتحالف مع محميات الخليج. صناعة خط دفاع جديد لمواجهة أي تمرد مماثل لانتفاضة الجنوب الشعبية، ومن هنا تظهر أهمية صناعة خط دفاع “سُنّي” العَصَب إرهابي متطرف الهوية بوجه العراقيين “الشيعة” من جهة، والإمساك بالعشائر “السنية” حول بغداد على أساس هويات قبل وطنية، عشائرية منغلقة، وطائفية متمذهبة… لنصل منطقياً إلى “الحملة الإيمانية” التي أطلقها “صدام” بنفسه العام 1993، وأسند متابعتها لمساعده عزة الدوري، صاحب الخلفية الدينية، والصديق الحميم لعبد الله بن عبد العزيز… لتظهر عقوبات مثل، قطع أيد اللصوص، إلقاء اللوطيين من فوق أسطح المنازل، و قطع رؤوس المومسات في الساحات العامة… وانتشر بِناء المساجد، وأصبح تدريس القرآن سياسة حكومية… فتعاظمت مكانة “الشيوخ المُستحدثين” وزعماء العشائر كقادة للمجتمع العراقي، وتغلغل نفوذهم في مؤسسات الدولة وتحديداً الجيش وأجهزة الأمن… لتضيع الحدود الفاصلة بين التدين كحالة فردية، والعشيرة من جهة والسلطة من جهة ثانية… إنها البيئة المثالية لنشوء التطرف والإرهاب، ولم يبق إلا غياب سلطة الدولة، والقرار، والقضيّة ليحدث الانفجار، وهذا ما وفره الاحتلال الأمريكي للعراق.
عقب احتلال العراق، وحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية والحزب… لجأ أبناء هذه المؤسسات بشكل طبيعي إلى عشائرهم، ومساجدهم التي سيطر على معظمها الجماعات الاسلاموية المتطرفة. غابت السلطة، وتعاظم الشعور بالغبن –خصوصاً بعد أن خسر “السنة” فائض القوة والتفوق بإسقاط صدام، وارتكاب بعض الجماعات الشيعية لأخطاء كارثية- لتظهر قاعدة الجهاد في العراق ثم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين… وظهرت أيضا “الصحوات” التي قال عنها طارق الهاشمي، الأمين العام للحزب الإسلامي (الجهة الممثلة للإخوان المسلمين بالعراق، وحزب أسامه التكريتي صديق صدام)، ونائب رئيس جمهورية عام 2006: “سيكتب التاريخ أن (أبو ريشة) لم يكن هو الذي أوجد الصحوات، وإنما الحزب الإسلامي هو الذي أوجدها.. تمويلا ودعما”.
آذار 2011، بدأ غزو سورية عبر أدوات “ربيع الدم”، لكن سورية صمدت، ليتوسع سريعاَ السيناريو الليبي: تدفق السلاح وفرق الوحدات الخاصة… لتفشل مجدداً مرحلة جعلوا عنوانها “الجيش الحر” وأصدقاء الشعب السوري. شباط 2012، الظواهري يعلن الجهاد في سورية… ومجدداً، الفشل يلاحق مشروع الغزو. في العراق، كان بترايوس قائد الفرقة 101، التي تكفلت بإحتلال محافظة نينوى بالاتفاق مع ابن مدينة الموصل،”وزير الدفاع” العراقي سلطان هاشم… قد أرسى “تحالفاً” دموياً من ضباط سابقين في أجهزة الأمن والجيش العراقيين، وعدد كبير من القيادات السياسية والعشائرية والدينية… قد أصبح مديراً للـCIA، ما أتاح له تطبيق أطروحته الجامعية -دراسةُ التأثير العسكري واستخدام القوَّة في مرحلة ما بعد الحرب، كالاحتفاظ بالأذرع الاستخباراتية لصناعة القوة دون التورُّط في الحلول العسكرية مثلاً- وتجربته الغنية مع إخوان بندر بن سلطان –القاعدة- في الكثير من الساحات، ومنها سورية.
9/6/2014، تجتاح داعش محافظة نينوى، وأجزاء كبيرة من ثلاثة محافظات أخرى بسرعة البرق، ودون مقاومة تذكر، لتقف على أبواب بغداد. بإشراف أمريكي مباشر، وبالتعاون مع عملائها أمثال أثيل واسامه النجيفي وطارق الهاشمي (كان يستعد لإذاعة البيان رقم 1 من بغداد) وحزبه الإسلامي (الذي وصف هجوم داعش بانتفاضة شعبية، وعلى الجميع سماع صوت الشعب المنتفض، وتلبية مطالبه، وإعمال صوت العقل والحكمة) حصلت داعش على أكبر وأسرع عملية تمويل وتسليح في التاريخ، مئات مليارات الدولارات، وأسلحة ومعدات فرق عسكرية بأكملها… في الموصل وغيرها. عند التدقيق بقادة داعش ومحركيها، سنجد مثلاً، أن البغدادي زعيم الحركة كان نزيلاً لدى بترايوس في سجن “بوكا”. كان “بوكا” معسكر لتجنيد العناصر في جيش بترايوس-بندر، ولم “يُخرج” البغدادي فقط من سجنه؛ بل تكفل بتخريج 17 قائداً من القادة الـ25 الأهم في داعش. وجاء اغلب هؤلاء القادة الـ25 من ضباط المخابرات العسكرية العراقية، مثل سمير الخلفاوي، نائب البغدادي، ومن القوات الخاصة العراقية، مثل أبو إبراهيم العراقي واسمه الحقيقي عبد المجيد خالد الجبوري، ومن “فدائي صدام”، مثل موسى البصري… والجبوري والبصري، يقفان خلف الهجوم الأخير على دير الزور ومجزرة البغيلية.
عندما بدأت داعش بإحتلال الأراضي السورية لم تصطدم مع “المعارضة السورية المسلحة”؛ بل تذكرون كيف جرت عملية تسليم الرقة لها دون مقاومة مثلاً، كيف لا وهي أداة واشنطن الأمضى، وربما الأخيرة، لمنع إلتقاء بغداد بدمشق!.
* كلمة أخيرة:
صدام حسين ومن دعمه، داعش ومن يدعمها، يسعون إلى جملة أهداف كبرى، يمكن توصيف أحدها باختصار بمقولة مارتن انديك منذ أعوام: “الشرق الأوسط في حالة توازن دقيق بين مستقبلين بديلين الأول يتمثل في سيطرة المتطرفين المرتدين عباءة الإسلام أو القومية على المنطقة. والثاني مستقبل تحقق فيه إسرائيل وجيرانها العرب مصالحة تاريخية تمهد للتعايش السلمي والتنمية الاقتصادية وذلك من أجل تأمين التدفق الحر لنفط الشرق الأوسط” .وأما الهدف النهائي من هذا الصراع فيمكن إختزاله عبر إستذكار جزء من الوثيقة التي أعدها “مجلس السياسات الدفاعية” في البنتاغون بإشراف ريتشارد بيرل أيلول 2002: “الولايات المتحدة الأمريكية بعد السيطرة على العراق مصممة على صنع شرق أوسط جديد… لن يبقى من النظام الإقليمي العربي إلا الذكريات وأرشيف الملفات الخاصة التي سيتم حفظها في مكتبة الكونغرس للمطالعة”!… هذا هو لُب الصراع، والبقية مجرد قشور وأوهام.