أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / الماركسية ودعوة الإنفتاح على المعارف الإنسانية

الماركسية ودعوة الإنفتاح على المعارف الإنسانية

الجمعة 27 . 11 . 2015

نجاة طلحة / السودان

مدخل:
القضايا التي تتعلق بالتحولات العميقة في الأحزاب تحسم في المؤتمرات العامة أو التداولية، هذا من التجارب التاريخية في العالم وفي تجربتنا في الحزب الشيوعي السوداني. لا تُثار مثل هذه القضايا بعد حسمها في المؤتمر إلا في حالة المستجدات التاريخية أو النظرية كما حدث في المؤتمرالخامس إذ أن مسألة إسم الحزب ومرجعيته الأيدولوجية قد حُسمت في المؤتمر الرابع 1967 ثم التداولي 1970، لكن إنهيار التجربة السوفيتية أثار الجدل حول مستقبل الإشتراكية مما فتح المناقشة حول مصير الحزب. إستمرت المناقشة كما لم يحدث في كل التجارب العالمية فقد إستغرقت ما يقارب الأربعة عشر عاماً كانت كافية لتحليل ومناقشة كل الجوانب النظرية، السياسية والتنظيمية. فإثارتها بعد حسمها في المؤتمر لا تنتج غير البلبلة. لا أعتقد بأنه قد حدث أي جديد بعد الخامس يستدعي إعادة مناقشة هذه القضية. مناقشتها في هذه الحالة وبدون أي مستجدات تكون تكرار لكل ما طُرِح من قبل المؤتمر وأثنائه. هذا ليس لحجر الرأي فالصراع الفكري سمة ثابتة من سمات ممارستنا الحزبية لكن ما أشرت إليه هو من منطق الواقع. فعندما لا يكون هنالك جديد يكون هنالك تكرار يهدر الوقت والطاقات. ما يلي مساهمة في وجهة ما أُعيد طرحه مؤخراً.
أعاد كارل ماركس صياغة مفهوم المعرفة، إذ دمج نسبية الجدل عند هيجل بمادية فيورباخ فأصبحت المعرفة مادية الجوهر مربوطة بالواقع الذي نشأت فيه باعتبارها إنعكاسا له. بذلك درست الماركسية تطور المعرفة من خلال وجهة تاريخية وليس من وجهة نظرية بحتة تضع الفلسفة كحقيقة مجردة فوق العالم المادي. بِرأى ماركس “ها هنا تزول التصورات النظرية (Spéculations)، ففي الحياة الحقيقية يبدأ العلم الحقيقي، الإيجابي، وتحليل العمل التطبيقي و مجرى الحياة العادية للبشر. تزول الجمل الخاوية فيما يخص الوعي إذ يجب تعويضها بعلم حقيقي. فبدراسة الواقع تفقد الفلسفة الوسط الذي تعيش فيه بصفة مستقلة.” إن المعرفة المادية للتاريخ (المادية التاريخية) عند ماركس أداة يمكن تفعيلها لدفع عجلة التغيير وذلك من خلال الفهم العميق لمصادر التحولات في التاريخ البشري عبر أطواره المختلفة. فنشأة تشكيلات المجتمع وتطورها وحتى زوالها تقف وراءها المصالح الطبقية المتناقضة. لذلك فإن الميول الطبقية تتحكم في المخرجات النظرية. والفلسفة عند ماركس تتطور، ليست كعلم مطلق شامل، بل كجزء من المعرفة النظرية التي تتطور وفقا للمتغيرات في البنية التحتية. وبمساعدة ديالكتيك هيجل بعد تقويمه ليعتمد التسلسل المادي للمنطق أضاف ماركس البعد النسبي للمعرفة كي لا تكون معزولة عن الواقع فيتعطل بذلك دورها في إحداث التغيير. وهذا هو جوهر الجديد الذي أضافته الماركسية “كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق مختلفة – لكن المهم هو تغييره”( ماركس، إحدى عشر أطروحة حول فيورباخ).
بما أن ماركس قد صاغ مذهبه بناء علي القراءة الديالكتيكية لتطور المجتمع الإنساني فهل يستقيم هذا والادعاء بان نظريته متحجرة أوتنطوي عل معطيات مغلقة، فذلك ومن البديهي يتناقض مع جوهرالماركسية بشكل مطلق. كذلك فالماركسية كعلم مادي مبني على فكرة التطور فمن باب أولى أنه قابل للتجدد، ومن ينكر ذلك يلغي الأساس الذي بنيت عليه الماركسية. لذلك فلكل من يدعو للتخلي عن الماركسية وإعتماد مختلف الإجتهادات الإنسانية نسبة لإنغلاق الماركسية على نفسها نقول أن حجته مردودة فإن الماركسية هي وليدة المعارف الانسانية وهي بذلك وبالتأكيد منفتحة عليها. قد مجدت الماركسية المعرفة وأعطت الإنسانية، والطبقة العاملة بخاصة، أدوات جبارة للإجتهاد لكي تكون المعرفة بإرثها وتراكماتها منهجاً يستحث التغيير، ذلك وبمساعدة توفر الشروط الموضوعية.
الدعوة للإنفتاح على المعارف الانسانية هي في الحقيقة من صميم الماركسية التي أتت من صلب تلك المعارف فأضافت وطورت. أتت الماركسية بناءاً على إرث المعارف الإنسانية المعطاة في ذلك الوقت فانطلقت من الإرث الفلسفي الذي كان يحلل الظواهر بشكل عام، مثاليا كان أم ماديا، فعمق ماركس الفلسفة المادية وطورها لتُعني بقضايا المجتمع البشري ، وتطوير تلك المعارف والإجتهادات لتصب في إتجاه خدمة الإنسانية. فمبدأ الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة لم يستحدثه ماركس بل بناه علي مجهود مسبق، لأن إضطهاد الشغيلة وإستغلالهم رفضه فلاسفة قبله، لكنها كانت دعوة لإشتراكية طوباوية تتبنى الدفاع عن الكادحين وليس تمليكهم أدوات الدفاع عن حقوقهم. وحتى مبدأ الصراع الطبقي هو حصيلة محاولات بدأها فلاسفة ما قبل التاريخ فقد إجتهدوا لمعرفة كنه التحولات التي تحدث في المجتمع البشري والقوى التي تدفعها. من هؤلاء الفلاسفة اليونانيين ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو. ثم جاءت المحاولات التي إرتبطت باللاهوت في عهد الإقطاع ثم حدثت النقلة في القرنين السابع عشر والثامن عشرعند بزوغ الرأسمالية حيث أتى فلاسفة عالجوا مسألة التاريخ كتسلسل محكوم بالقانون منهم فيكو وفولتير وروسو. وفي زمن صعود الرأسمالية حدث التحول في فلسفة تحليل التاريخ عندما ربط المؤرخون البورجوازيون الفرنسيون أوغسطين تييري، فرانسوا غيزو وفرانسوا مينيه المتغيرات التاريخية بالصراع بين الطبقات فكانت هذه هي الوجهة التي أوصلت ألى مفهوم الصراع الطبقي. أما هيغل فهو العلامة الفارقة في دراسة حركة التاريخ فقد إستحدث فكرة قوانين تطور المجتمع لكن عبرتصور جدلي مثالي فإعتبر أن الإنسان هو محرك عجلة التاريخ مدفوعا بالإحتياجات والمطامع الذاتية .إذن فإن الماركسية أتت تتويجا لهذا التراث المعرفي الإنساني مستفيدة من كل ما سبقها، شأنها في ذلك شأن كل العلوم الإنسانية. الشاهد على ذلك قول هيغل عن فلسفته أنها إحتوت الفلسفات السابقة جميعا.
هكذا فإن الماركسية هي نتاج مجمل المعارف والإحتهادات لدراسة حقيقة المجتمع الإنساني وإستلهام ما يؤسس لتقدم البشرية، فأسس ماركس وانجلز علم الإجتماع المادي والذي إنبثقت منه نظرية المادية التاريخية، فأثبتا أن تسلسل التاريخ تحكمه القوانين المادية الموضوعية وأن علاقات الإنتاج هي أساس التشكيلات الإقتصادية المتتابعة، والتي تنتقل من طور الى آخر بقوة إصطراع المصالح الطبقية. ودعت لتنظيم الصراع الطبقي المبني على الوعي، وتوعية العمال بقيمة الإنتاج الإجتماعي ودور الشغيلة في تراكم رأس المال وأن قوة عملهم هي في الأساس الرافد الذي أوصل لتفوق الطبقة الرأسمالية. معرفة الشغيلة لقيمة العمل الإجتماعي والتي لعبت إجتهادات لينين اللاحقة فيها دورا متقدما هي ما مهد لتمكين فكرة تنظيم النضال الطبقي .
كل هذا وغيره من التوثيق الذي لا يسمح المجال لذكره يؤكد أن الماركسية علم كان حصيلة المعارف الإنسانية التي سبقته فطورها علي أساس موضوعي قوامه مبدأ التطور المادي. فبأي حجة يمكن أن ندلل على إنغلاق الماركسية ورفضها للتطوير وهوعلم ككل العلوم التي أنتجتها البشرية تضيف وتتطور، وفي كل يوم جديد يطل علي البشرية علم جديد بُني على أساس ما سبقه من النظريات، أو تطوير ما هو موجود أصلاً. الماركسية بأي حال ليست بالفكر المتحجر الذي بني على معطيات مغلقة. فالماركسية هي في الحقيقة الوجهة التي يجب أن يقصدها كل من ينشد الإستفادة من تراكم إرث المعارف الإنسانية.
الحديث عن إعتماد منهج ينسجم مع الواقع لا يتناقض مع الماركسية إطلاقاً فالماركسية علم لم يقفز فوق الواقع ولم تتبنى الماركسية الأوهام الطوباوية إنما هي علم إرتبط بالواقع وفسر مراحل تطور المجتمع البشري بناءاً على تطورعلاقات الإنتاج وكنتيجة للصراع الطبقي. فلم تُبنى الماركسية على هلاميات مثالية إنما على تحليل الواقع. وطرحت الماركسية المسائل بصورة ملموسة، دليل على ذلك أن مُؤلف ماركس الرئيسي رأس المال مكرّس لدراسة النظام الإقتصادي في المجتمع الحديث، أي الرأسمالي مما يؤكد إرتباط الماركسية النظري بالواقع، تدرسه وتبني فوقه. فعلى الأساس الذي بنيت عليه الماركسية، أي الواقع المادي، يتم تطويرها بتطوره، وتُجدد نفسها وفقاُ لذلك.
الماركسية لم تكن إختراعا قام به كارل ماركس بل تتمة لإجتهادات الفلاسفة الذين سبقوه، فأجابت الماركسية على أسئلة كانت تقف في وجه تقدم البشرية. أتت الماركسية إمتداداً لما سبقها من الإجتهادات ولم تركلها لتبدأ صفحة جديدة. فنظرية القيمة الزائدة والتي تشكل حجر الزاوية في نظرية ماركس الإقتصادية قد إنطلقت من حيث توقف علم الإقتصاد الرأسمالي عندما ووجه بتناقضات لم يستطع الفكاك منها حتى الآن، رغم محاولات آدم سميث وديفيد ريكاردو مؤسسي هذا العلم المستميتة لمعالجة تناقضات الرأسمالية. ومن الطريف أن ريكاردو وفي سبيل المعالجة المثالية لعيوب الرأسمالية إقترح التأميم والذي يعتبر خروجاً كاملاً عن النظام الرأسمالي ولذلك لم ينجح بديهياً، هذا المقترح إستفاد منه الفكر الثوري لاحقاً وطوره. زد على ذلك أن ماركس بنى نظرية فائض القيمة إنطلاقا من نظرية قيمة العمل وهي تنسب وبكل تأكيد لأبي الإقتصاد الرأسمالي آدم سميث وهذه حقيقة بمقدورها وحدها أن تكون مرافعة وافية للرد علي من يدعو للتخلي عن الماركسية بحجة توسيع فضاء المصادر الفكرية. ظلت الأسئلة التي تطرحها التجربة الرأسمالية دون إجابة، فأجابت الماركسية على كل الأسئلة التي عجز عن الإجابة عليها مفكرو الإقتصاد الرأسمالي. وإنطلقت من حيث حرن ذلك المفهوم.
حللت الماركسية وأجابت على كل الأسئلة التي طرحها الفكر الإنساني التقدمي. وكما أشار لينين ” إن الماركسية هي الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الإنسانية في القرن التاسع عشر: الفلسفة الألمانية، الاقتصاد السياسي الانجليزي، والاشتراكية الفرنسية.” وقد توارثت الانسانية تراكمات المعرفة فتسلسلت العلوم فكانت الماركسية علم فارق، بُني علي ماقبله فأضاف ووضع أُسس جديدة كانت حصيلة ما قبلها، فمبدأ الجدل المادي على سبيل المثال ليس كما هو متداول أن ماركس إبتكره تصحيحاً لجدلية هيجل المثالية، فهو مدرسة أسسها الفيلسوف اليوناني هيرقليطس 500 قبل الميلاد. فهو صاحب قوانين الجدل التي إستخدمها هيجل: نفي النفي، وحدة وصراع الأضداد وتحول الكم الى كيف، فهرقليطس هو أول من إكتشف قانون حركة المادة الذي بنيت عليه هذه القوانين وقد عبر عنه بقولته المشهورة “إنك لا تسبح في النهر مرتين “. وقد دافع ماركس عن المادية الفلسفية، وإستخلص من كامل تاريخ الإشتراكية والنضال السياسي المضامين والدروس ووضع الأساس العلمي لدفع التغيير من خلال عملية نضالية عميقة مسلحة بالوعي الطبقي.
ومن البديهي، وبناءً على نفس المعطيات والحيثيات، وعلى نفس المسافة تقف الماركسية رافضة للنزعات الدوغمائية. فالصراع الفكري هو القوام والمؤشر الوحيد لحيوية الماركسية وراهنيتها. فهي علم يتطور باستيعابه لكل جديد في الواقع. لكن ومن البديهي أن ذلك لا يعني الاخلال أو التخلي عن القوانين الأساسية للنظرية، فهذا يعني الإلغاء الكامل لها. ذلك أن الثوابت شيء موجود في كل العلوم المادية، فلسفية كانت هي أم تجريبية، فقوانين الحركة وقانون الجذب العام وأسس حساب التفاضل والتكامل التي صاغهاإاسحق نيوتن قبل أكثر من ثلاثة قرون طورها إينشتاين في بداية القرن العشرين، ولا زالت هي أساس علوم الفيزياء الحديثة.

*عضو الحزب الشيوعي السوداني / عضو الاتحاد النسائي السوداني