السيمر / الأربعاء 16 . 12 . 2015
رضا حريري / لبنان
في عالمٍ موازٍ، يدخل الصبي ماريو فارغاس يوسا إلى المكتبة العامة في أريكويبا في البيرو، ليستعير الكتاب الضخم الذي سمع والده يتحدّث عنه كثيراً: «الحرب والسلام».
يبحث الصبي بدايةً في قسم الموسوعات، ظنًّا منه أن كتاباً من 1500 صفحة، لا بدّ أن يكون موجوداً هناك. لكن بعد بحثٍ طويلٍ، من دون جدوى، يلجأ ماريو الصغير لأمين المكتبة، ويسأله بخجلٍ عن الكتاب. يجرّه الكهل الذي يبصق طوال الوقت إلى قسم الروايات، ويناوله كتابًا من القطع الصغير، مؤلف من 200 صفحة فقط. يرفض الصبي أخذ الكتاب ويؤكّد للمسؤول بنبرةٍ ساخرة أنّ هذا ليس «الحرب والسلام».
أمين المكتبة الذي لا جَلد له على الأولاد الصغار، يمسك ماريو من رقبته ويرميه خارج المكتبة، متوعّداً إياه بعلقة ساخنة في حال عودته إليها. ماريو الغاضب يقرّر أنّه لن يقرأ كتاباً في حياته، ويتعهد لنفسه بأن يرمي بيضة كل يوم على زجاج المكتبة.
ربما لن يكون مستغرباً حصول أمرٍ مشابه في عالمنا هذا وفي وقتنا الحالي. ففي زمنٍ يميل فيه الجميع إلى اختزال كل شيء، تتحول أغنية أم كلثوم «دارت الأيام» من 45 دقيقة، في الحد الأدنى، إلى مقطعٍ من خمس دقائق على «يوتيوب». وتختصر الأجزاء الخمسة التي يتطور فيها الصراع النفسي لراسكولنيكوف بطل رواية «الجريمة والعقاب» لفيودور دوستويفسكي إلى جزءٍ واحد، أطول قليلاً من الجزء الأول الذي يقوم فيه بقتل المرأة العجوز في مختصرات للـ «ناشئة».
بناءً على ما سبق، لنتخيل التالي: بعد خمسين عاماً، وخلال بحثه على الإنترنت عن رواية «موبي ديك» لهيرمان ميلفيل، سيجد حفيدي عدداً هائلاً من الكتب التي تحمل العنوان نفسه والاسم نفسه، كلّ واحدٍ منها مذيل بالعبارة التالية: «موبي ديك» لهيرمان ميلفيل برواية رضا حريري، أو برواية زينب ترحيني، أو براوية بيتر كينغ، أو وونغ كار واي…
سيقضي حفيدي وقتاً طويلاً في البحث عن النسخة الأصلية من الرواية، وقد لا يجدها سوى في مكتبةٍ متخصّصة، فالناس لن يكون لديهم الوقت لقراءة رواية كبيرة الحجم أو لسماع أغنية تفوق مدّتها الثلاث دقائق، أو حتّى مشاهدة لقطةٍ في فيلم تستمر لأكثر من عشر ثوانٍ.
من هنا تتبادر أسئلة عديدة: هل مقطع ذروة كـ «وصفولي الصبر» منفصل عن بقية الأغنية، يملك قيمة مماثلة فيما إذا كان موجوداً ضمن «ودارت الأيام»، مع ما تحويه الأغنية من إعادة وتمهيد وتكرار يحضّرنا للوصول إلى هذه «الذروة»؟ وهل ستبقى للفصول التي تلي قرار المسيح بالتراجع عن التضحية بنفسه على الصليب في رواية «الإغواء الأخير للمسيح» لنيكوس كازنتزاكيس القيمة نفسها فيما لو نُشرت منفصلة عن بقية الرواية؟
من المعلوم أيضاً أنّ الذوق الشخصي يشكّل المعيار الأوّل في تفضيلنا لعملٍ أو مقطع على عملٍ أو مقطع آخر. وبالتالي تصبح عملية الحذف من الرواية قائمة على ميول «الحاذف»، ممّا يضعنا أمام سؤال مربكٍ أكثر: عندما نقرأ «الإخوة كارامازوف» برواية تمام الحلبي مثلاً، هل سيكون دوستويفسكي من نقرأه؟ أم أنّنا سنقرأ «دوستويفسكي كما رآه الحلبي»؟