السيمر / السبت 27 . 02 . 2016
عبدالله حبه
لا ريب في ان ملحمة ليف تولستوي الخالدة ” الحرب والسلام ” تعتبر احدى نفائس الادب العالمي. ولذا ليس غريبا أن تجد تجسيدا لها على شاشة السينما وخشبة المسرح بين فينة وأخرى. وانتظر الكثيرون بدء عرض الفيلم الجديد الذي قدمته بي.بي.سي الى الجمهور أملا في ان يعطي صيغة جديدة لهذا العمل الادبي الجبار. علما انني شاهدت أول عرض سينمائي للرواية في الخمسينيات في انتاج هوليوود وببطولة حسناء الشاشة الامريكية اودري هيبورن. ويومذاك كتبت في صحيفة “اتحاد الشعب” مقالة أشرت فيها الى ان الرواية بعيدة تماما عن روح تولستوي وافكاره الانسانية، وانتقدت كاتب السيناريو والمخرج. اذ اقتصر الفيلم ذاك على عرض الجوانب الغرامية لابطال الرواية وتجاهل أهم ما فيها وهو موقف تولستوي من الحرب والدمار وفساد العلاقات الانسانية وابرازه القيم الاخلاقية. لكن عارضني آنذاك المرحوم عامر عبدالله بقوله ان الفيلم حظي بالاعجاب في الاتحاد السوفيتي والروس أعرف من غيرهم بكيفية عرض تولستوي على الشاشة. وفيما بعد شاهدت فيلم سيرغيه بوندارتشوك ” الحرب والسلام ” الذي حاول المخرج فيه الالتزام بكافة الجوانب الفنية لابداع تولستوي في هذه الملحمة، ولاسيما في تقديم مونولوجات الابطال بصدد الاحداث والتي تضمنت افكار تولستوي الاخلاقية. ولربما كان هذا الفيلم اقرب الافلام الى افكار الكاتب ونظرته الى الحياة في تلك الفترة.
واليوم تتناول قناة بي.بي.سي الرواية في فيلم متسلسل من منظور آخر شوهت فيه جميع افكار تولستوي في الرواية. علما ان الفيلم أثار الاهتمام الشديد في بريطانيا مما أدى الى ازدياد مبيعات الرواية واصبحت من بين أكثر الكتب رواجا، حيث بيعت في شهر كانون الاول الماضي فقط 13 ألف نسخة منها . طبعا انها ظاهرة طيبة تبين ان التلفزيون لم يحل محل الكتاب لدى الانكليز. علما ان اهتمام الروس بالرواية ما زال شديدا ايضا ويعاد طبع الرواية باستمرار بالرغم من الاقوال حول عدم اهتمام الجيل الجديد بالمطالعة وتركيزه على الانترنت ومطالعة النصوص المختصرة وليس رواية ضخمة مثل ” الحرب والسلام”.
لقد صادف ان بدأت قبل فترة وجيزة بمطالعة الرواية بترجمة الكاتب المصري ادوارد خراط من الانكليزية، والتي جعلتني ازداد يقينا بعدم جواز ترجمة الادب الروسي من لغة أخرى غير الروسية. فأخذت أتابع ما ظهر على الشاشة وما ورد في الرواية .ان الفيلم الانكليزي الجديد من اخراج توم هاربر وسيناريو اندرو ديفز اريد به كما يبدو اتخاذ موقف سلبي ما من روسيا في الماضي والحاضر.ويتجلى ذلك من أول مشهد الذي ظهر فيه فارس على صهوة جواده امام خلفية من جبال الالب وعبارة ذات مغزى:” هكذا دخلوا الحرب التي غيرت روسيا”.
ان اخراج الرواية وعرضها على شاشة بي. بي. سي يثيران تساؤلات كثيرة حول اهداف منتجي هذا العمل الضخم بإسلوب افلام هوليوود الرخيصة. فقد لجأ المخرج الى ان يظهر في مناسبة وبغير مناسبة المشاهد الخلاعية وتعرية الابطال متناسيا ان تقاليد الطبقة الارستقراطية الروسية في القرن التاسع عشر كانت تتسم بالعفة، بينما كانت تفرض على العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة صفة القدسية. ويتبين ذلك من جميع اعمال الكتاب الروس الكلاسيكيين . لكن ديدن المخرجين في الغرب الآن هو وجوب اظهار المواقف الجنسية الفاضحة على الشاشة باعتباره “واجبا وطنيا” لهم .
كان اختيار الممثلين في الفيلم غير موفق في كثير من الاحيان. فان بيير بيزاوخوف يبدو في الفيلم صبيا غرا، بينما هو في الرواية شاب له رؤية فلسفية الى الحياة يحاول ايصالها الى الاخرين في الحوارات معهم. وبدت البطلة الثانية ناتاشا روستوفا باهتة على الشاشة لا تتمتع بالجاذبية والنقاوة والنضارة التي تحدث عنها تولستوي. اما اندريه بولكونسكي فهو الآخر لا يمثل الضابط الروسي القوي الارادة والدمث الاخلاق كما وصفه الكاتب. وبدت بعض الشخصيات مثل والد اندريه بولكونسكي هزلية ومبتذلة وليست شخصية ارستقراطية وقورة.
ولجأ كاتب السيناريو الى تشويه الكثير من اقوال ابطال الرواية، ومنها اقوال بيير حول نابليون :” لم يعطه الشعب السلطة إلا ليخلصه من آل بوربون ، ولأنه رأي فيه رجلا عظيما . كانت الثورة شيئا جليلا !”. فنجد كاتب السيناريو يضيف اليه من عندياته قول بيير”ونحن يمكن ان نقوم بثورة هنا!”. ما هذا الكلام ؟ ان تولستوي حتى لم يفكر في جعل بطله الرئيسي ثوريا. وغاب عن سيناريو الفيلم جميع ما قاله تولستوي من تأملات حول مغزى الحياة وموقفه من المرأة على لسان بولكونسكي وناتاشا روستوفا. وتحول مشهد رقص ناتاشا في بيت عمها في رقصة شعبية روسية في الفيلم الى رقصة غجرية.
وأهمل الكاتب تماما الحرب التي تمثل احد العناصر الرئيسية لملحمة تولستوي، حيث تشغل مجلدا كاملا من الرواية. وعندما أخرج بوندارتشوك فيلمه أعار اهتماما خاصا الى مشاهد الحرب، لأنها تظهر حقيقة الانسان لدى الدفاع عن ارض وطنه واستعداده للتضحية بالذات من أجل هذا الهدف النبيل. وظهرت مشاهد المعارك في شينغرابن واوسترلتز وبورودينو مختصرة في عدة ثوان فقط. اما مشهد سقوط اندريه بولكونسكي جريحا وهو يحمل الراية فقد عمد كاتب السيناريو الى تغيير ما جاء على لسان نابليون في الرواية :” اي موت رائع !” بقوله :” هذا اسلوب جيد للموت – بالراية في يده !”. علما ان تولستوي كان غالبا ما يستخدم التعابير الفرنسية في روايته. لكن كاتب السناريو فضل ترجمتها الى الانكليزية.
ويبدو ان الوقت كان ضيقا لدى المخرج، فأظهر بصورة مختصرة أهم احداث الرواية من الناحية التاريخية اي هجوم نابليون على روسيا وحرق موسكو والاستيلاء على الكرملين ثم الانسحاب المفاجئ للقوات الفرنسية بسبب حلول موسم البرد وعدم استعداد الجيش الفرنسي للقتال في ظروف البرد القارس، وموت بولكونسكي ووقوع بيير في الأسر الفرنسي. والطريف ان الكاتب اضاف على لسان نابليون لدى احتلال موسكو مونولوجا لا وجود له اصلا في الرواية يعكس موقف كاتب السيناريو نفسه وجاء فيه ان نابليون أعلن شفقته على موسكو واهلها وقال :”سأمنحهم العدالة والحضارة .. وسيكون ذلك فجر عصر جديد بالنسبة لروسيا “. ان تولستوي لم يذكر شيئا من ذلك في روايته. طبعا ان نابليون لم يمنح الحضارة الى روسيا بل دمرها وبعد ذلك اجتاح الجيش الروسي اوروبا ودخل باريس نفسها.
ان هذا الفيلم هو كما يبدو حسب قول معلق صحيفة ” ليتراتورنايا غازيتا” الروسية جزء من الحملة الاعلامية ضد روسيا . فقد عرضت بي.بي. سي قبل هذا افلاما مثل ” الحرب العالمية الثالثة” و ” ثروات بوتين الخفية ” وهلمجرا ضمن مشروع موجه للتشهير بروسيا .
لكن ما يهمنا نحن هو تشويه احدى روائع الادب الروسي بشكل فظ ، ونعجب لكون مؤسسة اعلامية تعتبر نفسها “محترمة ” تقدم على الاساءة الى الكاتب الكبير ليف تولستوي بهذه الصورة المبتذلة. انها طبخة انكليزية فاسدة.