السيمر / الثلاثاء 02 . 02 . 2016
د. ناديا خوست / سوريا
في السادس من أيار هذه السنة، يكتمل قرن على إعدام شهداء أيار، حمّالي الفكر المتنوّر، وتحرير الوطن بالثقافة والتعليم، والاعتداد بالعقل الإنساني، مؤسسي النوادي، ذواقة الشعر ونظاميه. وضع شهداء أيار بوصلة دقيقة: الوحدة الوطنية مع التنوع، الدين لله والوطن للجميع، وعداوة الصهيونية. فكيف أصبحنا بعد قرن من تنورهم وتسامحهم وسعة مشروعهم، أمام فكر تكفيري مظلم دموي، وصهيونية عربية؟.
من عجائب زمننا، أن تُستخدم في الهجوم على العقل، الكلمة التي حملت كنوز الشعر العربي، وكانت طريق الأنبياء إلى الوجدان، وحاورت عقل الإنسان. وأن تُؤسس الوهابية في الجزيرة العربية التي انساب في فضائها شعر الفرزدق وجرير وابن أبي ربيعة وقصائد الحب التي لا مثيل لها في التراث الإنساني، وقال فيها شاعر: “رققني هواك وكنت جَلدا”، فيصدّر منها الفكر الذي يعبئ بالقتل! كأن لم تكن فيها سكينة التي استمعت إلى المغنين، ولم تكن منها تستُقدم القيان إلى بغداد، ولم يكن فيها الحج لقاء ثقافياً اقتصادياً وعاطفياً مزيّناً بالشعر والغناء!.
لا يمكن أن نرى اللغة العربية نفسها دون كنوزها الثقافية. فهي شعر وعلوم وفكر وفلسفة. أسّست الحضارة العربية التي انطلقت إلى العالم من بلاد الشام، على التنوّر. زهت بتشييد المراصد وعمارة الجنات، والمخطوطات والمكتبات، وتذوق الغناء. كانت الجوامع في عصر الراشدين نفسه للحوار. الوهابية إذن، ليست ابنة هذا المكان!.
تأسيس السعودية
استنبت التخطيط الاستعماري للسيادة على منطقة الثروة الحيوية، كيانين عنصريين: السعودية وإسرائيل. نظمت الاستخبارات البريطانية سلطة سياسية دموية متخلفة، دججتها بدين إرهابي، يجمّد الزمن في اللحظة التي لفّق فيها. لاقبله ولابعده. لاتراث ولاآثار ولاأضرحة ولاأشجار. دمرت الوهابية قبور جميع مؤسسي الإسلام وبيوتهم وجوامعهم. وذبحت المخالفين. ليست مصادفة أن تُزرع الوهابية في الجزيرة العربية ويلغى انفتاح الحجاز. فالعقل الاستعماري استشف خطر لقاء الثروة الحيوية بفكر حر ومجتمع طبيعي. فسلّح الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني. وجعل مال النفط هذه المنظومة قوة مادية، سياسية وعسكرية، وأهلها للدور إقليمي ودولي.
نتناول هنا إشارات فقط إلى الدور السعودي: استخدمت السعودية لكسر ثورة سنة 1936 على الانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني. كانت الثورة الشعبية قد جمعت الريف والمدينة، وسندها مقاتلون سوريون ولبنانيون وأردنيون وعراقيون. فأخرجتهم السعودية من فلسطين بوعد: سيحل “أصدقاؤنا” البريطانيون مشكلة فلسطين! التزمت الأسرة السعودية منذ لحظة دخولها في الحماية الأمريكية سنة 1945 بالاعتراف بحق اليهود في فلسطين، وطاعة الأمريكيين حتى يوم القيامة! ثم ضاعت الحدود بينهما، فاقترح الملك السعودي فيصل على الرئيس الأمريكي جونسون سنة 1966 أن تحتل إسرائيل مناطق من سورية والأردن ومصر لتنشغل تلك البلاد بالاحتلال عن الوحدة والتحرير. وسلّح البارزاني وموّله ليشغل العراق بدولة كردية في الشمال(1).
في ثمانينات القرن الماضي اندفعت السعودية في المشروع السياسي الغربي للسيادة على العالم، كجزء منه. عبأت بالفكر الوهابي عصابات القاعدة، وموّلتها، لتحارب الجيش السوفييتي في أفغانستان. وأهلتها بخبرة عسكرية للاستخدام في مناطق أخرى في العالم. ونَشرت في أنحاء الأرض من القفقاس إلى نيجيريا جوامع ومدارس تعلم الوهابية (2)، مؤسسةً بنية فكرية لجيش مقاتل تحدّد له المكان والزمان. ليس حمالي الفكر التكفيري اليوم أولئك المثقفون والسياسيون الذين اشتراهم مال الخليج، ونصب لهم منابر الفضائيات، بل أولئك الخارجون من عصور ما قبل الحضارة، المؤهلون بتدريب عسكري ومستشارين غربيين للحرب على جيوش قومية وإبادة شعوب متحضرة. أولئك المثقفون العلمانيون والسياسيون غلاف ملون لذلك الجيش الإرهابي السعودي الغربي.
دور السعودية الإقليمي والعالمي
تشارك المنظومة السياسية العسكرية الوهابية في صراع إقليمي وعالمي. وتجمح أيضاً خارج السياسة بالغباء واللؤم: تحكم سعر النفط لتضعف اقتصاد الجزائر وفنزويلا وإيران وروسيا، تستخدم في خلخلة البلاد الأوروبية وتتعاون مع الصهيونية لتغيير سياسة بعضها، تستخدم في دعم شركات السلاح والنفط، وفي خريطة الفوضى الأمريكية، وتشعل الصراع السني الشيعي البديل عن الصراع العربي الصهيوني، وتخرب حركة التحرير الفلسطينية (تنقلها من استعادة الأرض إلى الاعتراف بالمحتلين، وتجنيد الفلسطينيين في الحرب على سورية وتهجير فلسطينيي المخيمات وإلغاء حق العودة)، وتنفذ المشروع الصهيوني: تفكيك الدول القومية سورية والعراق واليمن وليبيا وتدمير بنيتها الاقتصادية والبشرية والحضارية. ينهب النفط السوري والسوريون يعانون من البرد. ينهب القمح السوري ليستورد السوريون الطحين. وتوظف السعودية منذ زمن طويل أموال النفط في إفساد الإعلاميين العرب والأجانب، ونصب الفضائيات السياسية والفنية، وشراء المثقفين والمفكرين والممثلين، وفرض نهج المسلسلات، ونشر ذوق الخليج، لإلغاء دور الثقافة في التعبير عن القضايا الاجتماعية والوطنية. في وثائق ويكيليكس كثير من الشهادات على دور السفارات السعودية المفسد في أنحاء الأرض.
لم تضيع السعودية، على تخلفها الفكري والاجتماعي، لحظة من الزمن. تميزت بخبث حقود ونهج مثابر تخريبي، أفسد العلمانية بالمال، وأفسد الدين بالفكر الوهابي، وأفسد السياسيين بالصفقات. وضيّع كثيراً من الزمن الوطنيون العرب، قوميين ويساريين، متدينين وعلمانيين!.
تقود السعودية الآن الحروب لتصفية الدولة القومية العلمانية. ليست الوهابية ديناً بل مشروع سياسي، نهج دمار شامل، وربما لحرب كونية تجرّ إليها إيران. نهج يعبر بشكل همجي عن مصالح أسرة لا علاقة لها بالوطن العربي. خطرها أنها تقبض على السلاح. وأي سلاح اليوم دون مشروع! الصواريخ الصديقة عابرة القارات محملة برؤية. والصواريخ العدوة التي قتلت سمير القنطار ذات هدف يتجاوز تصفية مقاوم بطل. في هذا الصراع لا يستطيع العقل الخليجي الوهابي تحمل إعلام متنور يدافع عن قضية عربية وطنية. لذلك حجبت الفضائية السورية منذ بداية الحرب على سورية، وحجبت المنار والميادين مؤخراً.
المشروع البديل
مهما كثر اللغو عن التعددية، لا مكان في المشروع الغربي لحوار الند وكشف الحقائق. مصير أسانج شاهد على مساحة الحرية في الغرب: مساحة قفص! في السياق لا يمكن أن تسمح المنظومة الفكرية الوهابية بصوت يواجه المشروع السعودي الصهيوني الأمريكي. الإعلام قدس أقداس الصهيونية، قدس الأقداس السعودي. منع المنار والميادين خط في إستراتيجية خطرة: تقدم السعودية الحرب الدينية بدلاً من الصراع مع الصهيونية، تسعى إلى قيادة الإسلام السني في العالم، تتشوق إلى الحرب على إيران، وتنفذ ما لا تستطيع تنفيذه إسرائيل مباشرة. وتستخدم الجامعة العربية في هذا المشروع بالمال والتهديد.
مهدت هذه الإستراتيجية طوال عقود بتغيير أوضاع جغرافية ديمغرافية عمرانية: رسمت الخليج المعولم بديلاً عن بلاد الشام والعراق ذات العمق الحضاري، والحركات السياسية والمجالس النيابية والأحزاب، والإيمان بالقومية العربية. وأهلت لهذا الاستبدال بالمشاريع البيئية، وشراء المخطوطات والقطع الأثرية العربية، وترميم العمارة التقليدية بمعايير الحماية العالمية، بينما كانت تدمّر هوية بلاد الشام المعمارية وتسلم أبنيتها التاريخية لوزارة الأوقاف كمؤسسات خيرية لا كإرث تاريخي. واستفادت من الوضع الاقتصادي الذي دفع الخبرة العربية إلى الهجرة إلى الخليج فحرم بلادها من تراكم مهني وعلمي. وحكمت إعلاماً واسعاً لتخريب الذوق والثقافة، حمله إعلاميون وممثلون وكتاب سيناريو ومخرجون عرب. واستخدمت نفوذ الصفقات لمنع رادع دولي على جرائمها في الجزيرة العربية وخارجها.
ضرورة إعلام ثقافي سياسي
يستلزم هذا التخريب مشروعاً واسعاً يواجهه. لذلك لابد من نظام اتصالات جديد يواكب نظاماً مالياً جديداً، وحلفاً سياسياً، ومنظومة إعلامية تعتمد التعددية المتنورة التي تحمي الفكر من الوهابية الإرهابية والاستبداد. لابد من نهج يقدّر مكانة الثقافة في التعبئة الروحية، ويعي أن الكفاءة ضرورة سياسية تستخدم فنون الصورة والريبورتاج وبلاغة الأداء في الخطاب، وحوار الأنداد. يواجه الحرب الثقافية على المواطنين بكشف البطولة المخزونة في الناس، بطولة الجنود والضباط والمدنيين الصابرين على القذائف والبرد والفساد. في الصراع، الفراغُ الفكري خيانة. والاستخفاف بالتعبير مهانة. الصمود العسكري والمدني أرفع بكثير من “عيش الطبيعة” و”عيشها غير”!!.
يفترض أن يكون الإعلام في مستوى الجبهة المقاتلة التي تجمع الجيش السوري والطيران الروسي ومقاومي حزب الله وإيران. لكن الإعلام عنصر واحد في مشروع الدفاع الوطني، الذي يجب أن تتكامل فيه السياسة والاقتصاد والثقافة، ويشيد بنية علمانية حقيقية تنفض الفكر الوهابي من الكتب المدرسية، وتستعيد الأبنية التاريخية والمقابر من المؤسسة الدينية وتحميها كذاكرة عامة، ولا تفصل السياسة عن الاقتصاد. أليس من العار أن تقطع روسيا علاقاتها التجارية بتركيا وتمتلئ مخازن سورية بالبضائع التركية والسعودية؟!.
——————
هوامش
1- طالب الملك السعودي فيصل الرئيس الأمريكي جونسون بأن تهاجم إسرائيل مصر هجوماً خاطفاً تستولي به على أهم الأماكن حيوية في مصر، “لتضطرها بذلك إلى سحب جيشها من اليمن، وإشغال مصر بإسرائيل عنا زمناً طويلاً لن يرفع بعدها أي مصري رأسه خلف القنال ليحاول إعادة مطامع محمد علي وعبد الناصر في وحدة عربية، بل نعطي لأنفسنا مهلة طويلة لتصفية أجساد المبادئ الهدامة، لا في مملكتنا فحسب بل وفي البلاد العربية، ومن ثم بعدها لا مانع لدينا من إعطاء المعونات لمصر وشبيهاتها من الدول العربية اقتداء بالقول: ارحموا شرير قوم ذل. وكذلك لاتقاء أصواتهم في الإعلام.
سورية هي الثانية التي يجب ألا تسلم من هذا الهجوم، مع اقتطاع جزء من أراضيها. كيلا تتفرغ هي الأخرى فتندفع لسد الفراغ بعد سقوط مصر.
لابد أيضاً من الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة، كيلا يبقى للفلسطينيين أي مجال للتحرك. وحتى لا تستغلهم أية دولة عربية بحجة تحرير فلسطين. وحينها ينقطع أمل الخارجين منهم بالعودة، كما يسهل توطين الباقي في الدول العربية.
نرى ضرورة تقوية الملا مصطفى البرزاني شمال العراق، بغرض إقامة حكومة كردية مهمتها إشغال أي حكم في بغداد يريد أن ينادي بالوحدة العربية شمال مملكتنا في أرض العراق سواء في الحاضر أو المستقبل، علماً بأننا بدأنا منذ العام الماضي (1965) بإمداد البرزاني بالمال والسلاح من داخل العراق، أو عن طريق تركيا وإيران.
يا فخامة الرئيس، إنكم ونحن متضامنين جميعاً، سنضمن لمصالحنا المشتركة ولمصيرنا المعلق بتنفيذ هذه المقترحات أو عدم تنفيذها، دوام البقاء أو عدمه. أخيراً أنتهز هذه الفرصة لأجدد الإعراب لفخامتكم عما أرجوه لكم من عزة وللولايات المتحدة من نصر وسؤدد ولمستقبل علاقتنا من نمو وارتباط أوثق وازدهار”. الوثيقة بتاريخ 27 ديسمبر 1966 رقم 342 وثائق مجلس الوزراء السعودي. نشرها أيضاً حمدان حمدان في “عقود من الخيبات”. ومواقع إلكترونية.
كتب سامي شرف سكرتير عبد الناصر: “كنت في زيارة إحدى البلدان العربية الشقيقة سنة 1995 وفي مقابلة مع رئيس هذه الدولة تناقشنا في الأوضاع في المنطقة، وكيف أنها لا تسير في الخط السليم بالنسبة للأمن القومي وحماية مصالح هذه الأمة، واتفقنا على أنه قد حدث منذ أن سارت القيادة السياسية المصرية بدفع من المملكة النفطية الوهابية والولايات المتحدة الأمريكية على طريق الاستسلام وشطب ثابت المقاومة من أبجديات السياسة في مجابهة الصراع العربي لصهيوني. ولما وصلنا لهذه النقطة قام الرئيس العربي إلى مكتبه وناولني وثيقة وقال لي: يا أبو هشام أريدك أن تطلع على هذه الوثيقة وهي أصلية، وقد حصلنا عليها من مصدرها الأصلي في قصر الملك فيصل. ولما طلبت منه صورة قال لي يمكنك أن تنسخها فقط، الآن على الأقل. وقمت بنسخها.. أردت بهذا التعليق أن أؤكد أن عدوان 1967 كان مؤامرة شارك فيها بعض القادة العرب.
ذكر السيد سامي شرف فيما بعد أن الرئيس الذي أطلعه على الوثيقة هو الرئيس حافظ الأسد.
2 – الضالون، جان ميشيل فيرنوشيه، 2013 بالفرنسية.
3 – السبب الحقيقي في إعدام الشيخ نمر النمر: يفهم الإعدام بإستراتيجية السعودية لاستفزاز إيران كي ترد بشكل يبرر عدواناً عسكرياً سعودياً على إيران. لن يكون الانتصار فيها سهلاً، لكن السعودية قد تجر إليها بلاداً عربية وغير عربية، لن تشارك فيها قطر والكويت إلا تحت الضغط. ويمكن أن تشارك فيها الولايات المتحدة وباكستان وتقفز إليها تركيا التي ترى إيران إمبراطورية صفوية تمنع أحلام أردوغان بإمبراطورية عثمانية. تأمل السعودية من رد فعل إيراني إلى هيجان في الكونغرس يدفع إلى تدخل أمريكي لتتخلص السعودية من إيران إلى الأبد. منذ زمن تستفز السعودية إيران: تدخلت عسكرياً في البحرين، جهدت للإطاحة بالأسد، فجرت السفارة الإيرانية في بيروت وقتل الملحق الثقافي فيها، قتل إيرانيون في الحج، قتل آلاف الشيعة في نيجيريا واعتقال الشيخ الزكزكي، وتهنئة الرئيس النيجيري على ذلك، التحريض على قتل الشيعة في باكستان وأفغانستان وذبح طفلة في التاسعة من العمر. تضبط إيران ردها. لكن الخطر في العواطف الشعبية. السعودية كالحيوان الجريح لأن أكثر مخططاتها فشل. ويغضبها الاتفاق النووي مع إيران. لكن الانفجار الطائفي لايهدد فقط إيران بل القفقاس وجنوب آسية، ولايعتقد أن روسيا والصين ستكونان حياديتين فيه كما كانت سنة 2003. شيرين هنتر، Shireen Hunterأستاذة باحثة في جامعة جورجتاون، مدرسة الخدمات الخارجية LobeLog – foreign policy.
جهينة نيوز