السيمر / الثلاثاء 01 . 03 . 2016
ناجح العبيدي
انتهت القمة الأوروبية الأخيرة مساء الجمعة 19 شباط/فبراير 2016 بنتيجة يصعب تسويقها كنجاح. فقد حصل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون على مايريد عندما وافق بقية القادة الأوروبيين على مضض على منح بريطانيا وضعا خاصا داخل الاتحاد الأوروبي. هذا “الامتياز” ما كانت ستحصل عليه بريطانيا لولا الأزمة التي تعصف حاليا بالاتحاد وتهز أركانه. وفي هذه القمة أيضا كرر مسؤولون أوروبيون وفي مقدتهم البولندي “دونالد توسك” رئيس المجلس الأوروبي (أعلى منصب في الاتحاد) والالماني “مارتين شولتس” رئيس البرلمان الأوروبي مخاوفهم من فشل المشروع الأوروبي ، بل وواصلا التحذير من احتمال “الانهيار” أو “التفكك” أو “الخطر الداهم” الذي يخيم على الاتحاد الأوروبي بحسب تعبيرهم .
صحيح أن مثل هذه التحذيرات ترددت سابقا على خلفية تفاقم الازمة اليونانية مثلا ، ولكن الوضع الحالي يؤكد بوضوح أن الاتحاد الأوروبي يعيش بالفعل أسوأ أزمة منذ قيامه قبل أربعة وعشرين عاما. وتواجه مؤسساته خطر فقدان القدرة على اتخاذ القرار وهذا ما ظهر في القمة الأوربية الأخيرة التي تجاهلت الملف الأخطر ، وهو أزمة اللاجئين وأجلته إلى قمة خاصة مقبلة مع تركيا.
موجة هجرة بالتزامن مع مد يميني
وسط استمرار موجة تدفق اللاجئين لا يزال الاتحاد أبعد ما يكون عن اعتماد سياسة مشتركة للتعامل مع هذا التحدي. فعلى الرغم من عقد عدة قمم لبحث هذه الأزمة يبقى الحل الأوروبي مجرد حلم بعيد المنال. القرار الوحيد الذي اتخذ والقاضي باعادة توزيع 160 ألف لاجئ لم ينفذ على الاطلاق. وفي هذه الأثناء تجاوز عدد اللاجئين في عام 2015 وحده حاجز المليون ومن المتوقع وصول مليون لاجئ جديد وربما أكثر هذا العام في مؤشر على تفاقم هذه الأزمة التي وصفها وزير الخارجية الأميركي كيري بأنها “تهديد وجودي” لأوروبا. في خضم هذه الأزمة تحاول كل دولة أن تنجو بنفسها عبر السماح لللاجئين بعبور الحدود إلى دول أخرى في خرق واضح لاتفاقية دبلن. ولا يعود هذا الموقف إلى المخاوف الجدية من الأعباء والتبعات السياسية والاجتماعية والثقافية لتدفق مئات الآلاف من اللاجئين فحسب، وإنما أيضا إلى تغير المزاج الشعبي في معظم البلدان الأوروبية حيث تنجح الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية في تحقيق مكاسب انتخابية و سياسية، بل ووصل بعضها إلى سدة الحكم، كما حصل في بولندا والمجر. وأدى ذلك إلى تعميق هوة الخلافات بين الدول الأعضاء حيث بدأ القادة الأوروبيون بكيل الاتهامات إلى بعضهم البعض في لهجة تخاطب غير معهودة سابقا. وترافق ذلك مع تراجع واضح في الدور القيادي والسلطة المعنوية للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل زعمية أكبر دولة في الاتحاد والتي أثارت غضب الكثير من البلدان بقراراها المفاجئ بفتح الحدود في شهر أيلول/سبتمبر الماضي.
أسلاك شائكة بدل حدود مفتوحة
شكل قرار ميركل دافعا للكثير من الهاربين من وليات الحروب والباحثين عن حياة أفضل إلى الانضمام إلى أفواج المهاجرين ضمن موجة نزوح لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية والتي يصعب التكهن بتداعياتها الجيوسياسية والحضارية. وإزاء ذلك لم تجد بعض الدول طريقة ناجعة سوى العودة لتحصين حدودها. وكانت الحكومة اليمينية في المجر سباقة إلى بناء أسوار من الاسلاك الشائكة على حدودها وقلدتها لاحقا سلوفينيا وكرواتيا. والحبل على الجرار. وهكذا بدأ الستار الحديدي بالعودة بشكله الجديد إلى أوروبا وذلك بعد اكثر من 25 عاما من سقوط جدار برلين الشهير. كما بدأت السويد والدنمارك والنمسا بفرض إجراءات الرقابة والتفتيش على حدودهما. وهذا يعني عمليا تعطيل معاهدة شنغن حول التنقل الحر ، أحد أهم إنجازات الاتحاد الأوروبي . وهو يشكل أيضا تهديدا مباشرا لأسس التكامل الاقتصادي داخل أوروبا. فأي تفتيش على الحدود سيعني أيضا انتظار السلع على الحدود لساعات وأيام طويلة الأمر الذي سيكبد الشركات الأوروبية خسائر باهظة تصل لعشرات وربما مئات المليارات.
ويجب القول هنا بإن تقويض معاهدة شنغن وكذلك اتفاقية دبلن حول اللاجئين بدأ عمليا مع قرار ميركل بالسماح للاجئين بالمجئ إلى ألمانيا بغض النظر عن البلد الذي تم تسجيلهم فيه أولا. القرار أثار ولا يزال يثير فوضى كبيرة وساهم بشكل واضح في تعميق الخلافات بين الدول الأعضاء حيث تحاول بعض الحكومات معاقبة برلين وأخذ “الثأر” منها بناء على حسابات قديمة. فقد هددت دول في شرقي أوروبا بأنها ستقوم بنقل اللاجئين القادمين اليها بواسطة قطارات خاصة مباشرة إلى ألمانيا الأمر الذي يزيد من الضغوط على ميركل. ومع يأس المستشارة الألمانية من التوصل لحل أوروبي مشترك بدأت بالتركيز على الدعوة إلى تحصين الحدود الخارجية للأتحاد وخاصة في اليونان وإيطاليا، وكذلك التعاون مع تركيا بأمل الحد من تدفق اللاجئين. وكان من الواضح من البداية أن رهن حل أزمة اللاجئين بتعاون تركيا ورئيسها الاسلامي أردوغان ينطوي على مخاطرة كبيرة.
تركيا: محاولة انضمام بأقدام اللاجئين
تلقف أردوغان الفرصة السانحة وبدأ بذكاء باستغلال ورقة اللاجئين للضغط على أوروبا للحصول على تنازلات سياسية واقتصادية. فهو لا يكتفي بالثلاثة مليارات يورو التي تعهد الاتحاد الأوروبي بدفعها لمساعدة أنقرة في تحمل أعباء أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري تستضيفهم بلاده، بل يريد مبالغ أكبر. والأهم من ذلك فرضت تركيا شروطها بالتعجيل ببدء مفاوضات انضمامها إلى الاتحاد الأوربي، هذا إضافة إلى محاولة تمرير أردوغان أجندته المثيرة للجدل في سوريا وشراء السكوت الأوروبي حيال القصف المتواصل على المناطق الكردية بذريعة محاربة الارهاب. ومن الواضح أن الرئيس التركي يرى في مأساة اللاجئين فرصة لإنهاء العزلة التي أوقع فيها تركيا نتيجة سياسته في التدخل في سوريا والعراق ومصر وغيرها. ويجب القول بوضوح بإن موجة النازحين المارين عبر الأراضي التركية يمكن أن تغير جذريا في طبيعة العلاقة بين تركيا وأوروبا. بل وبدأ سياسيون أوروبيون بالتلميح إلى التصرفات العنجهية لـ “سلطان” تركيا الجديد الذي يحاول الإيحاء بأن أوروبا من دونه ستكون في ورطة كبيرة. ولو نجح أردوغان في تمرير أجندته وتساهل الأوروبيون في الموافقة على انضمام بلاده، فإن ذلك بالتأكيد سيكون بمثابة “رصاصة الرحمة” للاتحاد الأوروبي الذي لن يستطيع تحمل دولة بحجم تركيا يعيش فيها نحو ثمانين مليون نسمة (ما يعادل تقريبا عدد سكان ألمانيا) ويحكمها حزب إسلامي يعمل حثيثا على تحجيم إرث أتاتورك العلماني. ومع أن هذا السيناريو لم يُحسم بعد ، إلا أن ملف انضمام تركيا سيضع الاتحاد الأوروبي أمام اختبار عسير ، لا سيما وأنه يضم أصلا قوى تتحفظ على المشروع الأوروبي ، وفي مقدمتها بريطانيا.
بريطانيا: طريق خاص يثير حسد الآخرين
تنفس القادة الأوروبيون المشاركون في القمة ألاوروبية الأخيرة الصعداء بعد التوصل إلى صفقة مع بريطانيا. والهدف منها هو تشجيع أغلبية البريطانيين للتصويت إلى جانب بقاء بلادهم في الاتحاد في الاستفتاء المقرر في منتصف العام الحالي. بيد أن الصفقة تضمنت أيضا تنازلات كبيرة لصالح بريطانيا، وخاصة فيما يتعلق بالمهاجرين. ولكنهم هذه المرة ليسوا وافدين من الشرق الأوسط وإفريقيا وإنما من دول شرقي أوروبا الفقيرة نسبيا. فرغم الرفض الأولى لمعظم الدول الأعضاء للمطالب البريطانية إلا أنهم أضطروا أخيرا للموافقة على السماح لبريطانيا بتقليص المساعدات الاجتماعية للوافدين من بلغاريا ورومانيا وبولندا وغيرها وعدم مساواتهم بالمواطنيين البريطانيين في هذا المجال. والأهم من ذلك هو منح بريطانيا ما يشبه حق الفيتو للاعتراض على القوانين والقرارات التي تتخذها المؤسسات الأوروبية الأمر الذي يعني توسيع صلاحيات الدول الوطنية على حساب صلاحيات الاتحاد. وفي حقيقة الأمر فإن الصفقة مع لندن ستعني من دون شك إبطاء عملية التكامل السياسي داخل الاتحاد. ولا يستبعد أن تحذو مستقبلا دول أعضاء أخرى حذو بريطانيا وتطالب بوضع خاص لها. وينذر ذلك بظهور خلافات وانقسامات جديدة تضاف إلى التحديات الكبيرة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي.
وقد أدى عجز الاتحاد الأوروبي في التعامل مع هذه التحديات إلى تعريض المشروع الأوروبي برمته لانتكاسات خطيرة وتراجعه خطوات كبيرة إلى الوراء. وبحسب تقديري فإن ذلك يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى الضعف الذي اعترى دور ألمانيا ومستشارتها ميركل في قيادة أوروبا وكذلك إلى التراخي الذي طرأ على محور برلين- باريس والذي شكل دائما القوة الدافعة لتوحيد صفوف أوروبا. وفي ظل هذه الظروف يواجه الاتحاد الأوروبي خطر العودة إلى مجرد تكتل اقتصادي تتحول فيه فكرة الوحدة الأوروبية ومشروع توحيد القيم والسياسات إلى مجرد شعار بعيد عن الواقع. وبهذا المعنى يمكن فهم التحذيرات من خطر انهيار الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن بعض الجيران يأخذون ذلك على محمل الجد. فعلى الرغم من أن سويسرا ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي إلا أنها وبحكم الجيرة المباشرة لا تريد ترك التطورات للصدفة، بل تستعد لكل الاحتمالات سياسيا وعسكريا أيضا. فقد قام الجيش السويسري في شهر أيلول/سبتمبر الماضي بمناورات كبيرة شارك فيها الآلاف من الجنود وتم خلالها “محاكاة انهيار” الاتحاد الأوروبي افتراضيا وما يمكن أن تتخلله من اضطرابات سياسية واجتماعية.