الرئيسية / مقالات / عِنْدَما سَقَطَ البَرْلمَانُ

عِنْدَما سَقَطَ البَرْلمَانُ

السيمر / الأربعاء 04 . 05 . 2016

نــــــزار حيدر

كلّما مرّت أزمةٌ بالعراقِ خلّفت وراءها المزيد من الشِّقاق والنِّفاق والتمزُّق والتشتُّت، ما يُساهم في ضياع اتّجاهات البوصلة وإِضعاف المجتمع وابعادهِ عن أهدافهِ وتطلّعاتهِ وآمالهِ.
والأزمةُ الاخيرةُ هي نموذجٌ جديدٌ لهذه الحالة، فلقد تابعتُ عن كثب آراء العراقيّين أينما كانوا فلم أجد اثنَين قد اتّفقا على شَيْءٍ لا في التّوصيف ولا في الاستنتاج ولا في الحلول، فكلها توزّعت على زاويةٍ دائريةٍ مقدارها (٣٦٠) درجة اي انّ بإمكانك ان تقرأها وانت تدور وتلفّ حول نفسكَ!.
لماذا؟!.
قبل الجواب، أودّ ان أُبيّن ملاحظاتي التّالية؛
١/ بعضهُم ظهر علينا ليقدّم نَفْسَهُ محلّلاً استراتيجياً، وعندما تسمع لهُ او تقارن بين ما يقولهُ الآن وما قالهُ قبل أسابيع مثلاً ستكتشف التّناقض الواضح في كلامهِ بين ليلةٍ وضُحاها، وهذا النّوع من (المحللّين الاستراتيجيّين) يعتمد في توصيف نَفْسهِ وتسويقها على ضعف ذاكرتنا او بسبب انّنا لا نُقارن عادةً بين الامس واليوم، ولذلك يصدقهُ البعض على انّهُ اكتشف شيئاً جديداً، وهو في الحقيقة ليس اكثر من توصيف واجترار وعرض عضلات يَتَّخِذ من الواقع الجديد، وليس من رؤية، منطلقاً لهُ.
٢/ آخرون استغرقوا في توصيف جذور الأزمة، من دون ان يُلامسوا الواقع لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ.
طبعاً، من المفيدِ والضّروري ان ترجع الى الجذور والاسباب ولكن ليس من الصّحيح ان تقف عندها لأنّك ستضّيع الحاضر والمستقبل بانشغالك بالماضي والتكلّس عِنْدَهُ.
٣/ البعض الثالث على العكس منهم فتراهم يريدون القفز الى الامام بحثاً عن حلولٍ جذريّةٍ بِلا مقدّمات ومن دون الأخذ بنظر الاعتبار الواقع المرير الذي تكرّس على مدى (١٣) عاما، ولذلك هو مثالي لا يقدر على تقديم رؤية واقعيّة.
٤/ امّا القسم الأخير فهم الانتقائيّون، فهم مع الدّستور اذا خدمهُم وضدّهُ اذا تعرّض لمصالحهِم، وتهمّهم هيبة الدّولة اذا كان الامر لصالحهِم فينظرون لها من ثقب الباب او حتى من خلالِ (قنفةٍ) ولا يعيرونها ايّ اعتبارٍ اذا تقاطعت مع أجنداتهِم حتى اذا تمثّلت بارواح النّاس وأعراضهم ودمائهم ونصف العراق المحتلّ، وهكذا، فاتّجاهاتهم تدور حول انفسهِم تحديداً!.
نعود لنجيب على السّؤال أعلاهُ؛ لماذا؟.
أولاً؛ بسبب إِنعدام الرّؤية عندنا، وهذا سببهُ اختلاف المنطلقات التي تدفعنا للسّير باتّجاهات مُختلفة!.
كلُّ المنطلقات حاضرة [الحزب، الكتلة، الاتّجار بالدّين والمذهب، الاسرة، العشيرة، المناطقيّة] كلّ شيء الا الوطن فهو الغائب ابداً، وبذلك ضاع القاسم المشترك الواحد فتعدّدت المنطلقات وتعدّدت الرّؤى حدّ التّناقض والتّصادم!.
فَلَو سألْتنا ما الذي نريدهُ؟ فستسمعُ عدداً لا يُعدُّ ولا يُحصى من الاجوبةِ!.
في هذه الاثناء تذكّرتُ موقفاً ظريفاً ومحرجاً في آنٍ لوفد المعارضة العراقيّة ايّام النّضال ضدّ نظام الطّاغية الذليل صدّام حسين، عندما زار واشنطن بُعيد الانتفاضة الشّعبانية الباسلة ليطلب من الادارة الأميركيّة إقامة منطقة آمنة في جنوب العراق على غرار ما فعلهُ الحلفاء في الشّمال.
كان ذلك في العام (١٩٩٣) فبعد اجتماعهِم بوزير الدّفاع وقتها في مبنى البنتاغون أرشدهُم الوزير الى غرفةٍ خاصّةٍ للاجتماع بعددٍ من الضبّاط الفنييّن المتخصّصين، ليرسم الوفد لهُم على الخارطة الكبيرة المثبّتة على الحائط حدود المنطقة الآمنة التي في ذهنهِم.
أمسكَ الاوّل بالعصا ومرّرها على الخارطة راسماً تصوُّرهُ لحدود المنطقة الآمنة، وقبل ان يُكمل قاطعهُ الثاني مقترحاً تغيير الحدود لتشمل مساحاتٍ أُخرى، فيما قاطعهُ الثّالث بالاثناءِ ليقترحَ حدوداً مُختلفةً لها، وهكذا الرّابع والخامس الى سابعهُم!.
تحيّر الضُّبّاط من المشهد، فبادرَ أَحدهُم قائلاً للوفدِ؛
أَعتقد انّ من الأفضل ان تتّفقوا فيما بينكم في المرّة القادِمة لنتمّكن من العمل سويّة من أجلِ تحقيق الأهدافِ المشتركةِ!.
وانا أجزم فَلَو كان عدد أعضاء الوفد (٧٠) او (٧٠٠) لتقدّموا بعددٍ من التصوّرات عن حدود المنطقة الآمنة تساوي عددهُم!.
نفسُ الحالةِ نراها الآن إِزاء الأزمة الحاليّة وكلّ أزمةٍ تمرُّ بالبلد.
دائماً لا ندري ماذا نريد!.
والملفت للنّظر في الحالةِ العراقيّة انّ جلّ العراقييّن لا يعرفونَ ماذا يريدون، السّياسي منهم وغير السّياسي، ومَن يظنُّ في نَفْسهِ انّهُ محلّل استراتيجي ومفكّر عبقري، والآخر البسيط المتواضع في معلوماتهِ!.
ثانياً؛ التّحدّي بالنّسبة للعاقل فرصة جديدة للتطوّر والتّقدم او على الأقل للانتباهِ الى موطئ قدمهِ، امّا بالنّسبةِ لغيرِ العاقلِ فكلُّ تحدٍّ بمثابة سبب آخر يُضاف الى أسبابِ تأخّرهِ وتراجعهِ.
هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، فانّ في وقت التّحدّي يحرص العاقل على ان يصغي للآخرين أَكثر من حرصهِ على الكلام، فقد يجد عند الآخرين ما يساعدهُ على مواجهة التّحدّي، امّا غير العاقل فتجدهُ أحرص ما يكون على الكلام والثّرثرة وقتَ التّحدّي منه في ايّ وقتٍ آخر، يصرخ وهو لا يدري ماذا يريد، ولذلك يضيّع على نَفْسهِ فرصاً كثيرةً يُمكن ان تقدحَ في ذهنهِ فكرةً او رأياً أو منفذاً وطريقةً.
وقت الأزمةِ الكلّ يتحدّثون!.
من جانبٍ ثالث، فانّ العاقل يبذل كلّ جهدهِ من أجل حصر التّحدّي في دائرتهِ وعنوانهِ وهو يبذل أقصى جهدهِ للحيلولة دون توسيع تداعياتهِ ليشمل جوانبَ أُخرى، امّا غير العاقل فانّهُ يتصرّف بطريقةٍ تساهمُ في توسيع دائرة التّحدّي وبالتّالي إنتشار تداعياتهِ بشكلٍ يُساهم في إنفلات الامور من بين يديهِ!.
انّهم يوسّعون الخرقَ على انفسهِم!.
والمتتبّع لما يجري الآن في ظلّ الأزمة الحاليّة يلحظ انّنا تورّطنا بما يورّطُ غير العاقل نَفْسَهُ فيه زمن التّحدّي!.
ثالثاً؛ بمجرّد ان تفجّرت الأزمة الجديدة اذا بالسيناريوهات العجيبةِ والغريبة والأخبار الكاذبةِ والصّور والافلام المفبركة تنتشر في كلّ مكانٍ انتشارَ النّارِ في الهشيمِ حتّى عزتنا في كلّ مكانٍ.
جلّها سيناريوهات لا تصلح حتّى ان تكونَ لفيلمٍ هنديٍّ او مسلسلٍ تركيٍّ!.
وصدق الله تعالى الذي قال {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}.
طبعاً، فانّ من الطّبيعي ان تنطلق ماكينة الدّعاية والتّضليل في وقتِ الأزمةِ فهناك جهات عديدة تتربّص بِنَا لتوظيفها بأسوأ الطّرق والوسائل والأدوات، الا انّ من غير الطبيعي شيئين؛
الاوّل؛ هو ان نُساهم نحن في خلقِ هذه السّيناريوهات المفضوحة وكتابتها او على الأقلّ في نشرِها والتّرويج لها، وبذلك نكون مصداقاً لقولِ أمير المؤمنين (ع) {وَاللهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ، وَيَهْشِمُ عَظْمَهُ، وَيَفْرِي جِلْدَهُ، لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ ماضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ}.
الثّاني؛ ان نصدّق كلّ ما يصلنا من دونِ تريّث او تثبّت او حتّى سؤالٍ واستفسارٍ من أصحاب الشّأن والخِبرة، لدرجةٍ انّني سمعتُ بعض (الخبراءِ الاستراتيجيّين) يتحدّثون عن رؤيتهم العبقريّة للازمةِ بالاعتمادِ على مثلِ هذه الاكاذيب والفبركات! فاذا كانَ (الخبراءُ) تخدعهُم الاكاذيب فما بالكَ بالمواطن البسيط والعادي؟ ولذلك تحوّلنا بالمجموع الى مصداقِ قول أمير المؤمنين (ع) {أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}.
ولعلّ من الحقائق التي اتّضحت لنا في ظلّ الأزمة الحالية وكلّ أزمةٍ أخرى، هو انّ هناك عصابات (انترنيتيّة) في إنذار (ج) جاهزة لإطلاق صواريخَها من الاكاذيب والافتراءات والسيناريوهات المفبركة هدفُها تحقيق خبطَ عشواء في المجتمع وتضييع صُلب الموضوع وتشتيت الرُّؤية وصناعة الفوضى الإعلاميّة الخلّاقة التي لا تُبقي ولا تذر!.
وانّ أَكثرَ ما يُضحكُ الثّكلى هو انّك عندما تسأل المواطن، بل حتى (الخُبراء) عن مصدر معلومتهِ او نصوص السيناريوهات التي يتناقلها والتي تحوّلت عِنْدَهُ الى ما يشبه حجر الزّاوية في بناءِ رؤيتهِ، يجيبُك انّهُ قرأها في الواتس آب او في الفايبر او على الفيس بوك!.
انّها مأساةٌ ما بعدها مأساة، وهي مصيبةٌ عظيمةٌ في دينِنا وعقولِنا وطريقةِ تفكيرِنا!.
إِنّنا في تيهٍ حقيقيٍّ!
فإلى متى؟!.

اترك تعليقاً