السيمر / الأربعاء 14 . 09 . 2016
هاتف بشبوش
من أحزان المنفى يتصوّر المرء نفسه بعد كل هذه الحرية و هذا الطيران الذي طار به كي يتخلّص من أنظمة جائرة في بلده وحطّ الرّحال في منفاه الصّقيعي ، يجد المنفي نفسه مثل الكناري الذي أكله القطّ ، متأرجحاً بين أداني العالم و أقاصيه ،لم يكن هنا كأيّ نسمة عليلة تحرّك ستائره، وكأنّه في صندوقٍ مغلقٍ بالرّصاص. ولذلك راح عبد الكريم يعاني ويقول صامتاً ( لقد أرهقني الوله ) . على من هو مرهق ، وعلاّم هذا الوله ، على تلك المدينة التي جعل لها أوّل سطرٍ في الديوان لما قاله أبو الطيب المتنبي عنها ( تركنا من وراء العيس نجدا….. ونكبنا السماوة والعراقا) .
مدينة السماوة , مدينة البوح و الظل و الحزن , وشهوات الحرية التي تجسّدت في الكثير ينمّ من غادروها إلى المنافي ، السماوة بالنسبة إليه هي مثل ذلك الذي ينظر إلى حبيبته وهي مدبرة في الطريق ، يظلّ ينظر إليها حتى لا يستطيع أنْ يرَها ، هي تتلاشى لكنّها باقية و لكن في الجانب الآخر من هذا الكون الشاسع، فيبقى مع الصمت وفضاء الإلتباس ، ثم يستمرّ في نفس النص :
يأخذ بيدي
كما يودعه الفرات
ملامساً غاباتِ القصبِ
ورماد حكايات الطين المفخورْ
قريبا من فضاء الزقورةِ
من المطر
وبيت ابي
من مدار النورْ
جنوباً..
هي تلك المدينة
هي تلك الأناشيد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(لاشيء يحدث بعد الآن ولن تكون ثمّة استقبالية وأنّ الزمن الذي فارقه السرور لعدم استقدام المستقبل عمد إلى استقدام الماضي …..شوبنهاور) .
مالذي يفعله الشاعر وهو في لحظات الإنكماش والإنزواء مع الذاكرة التي تولد في لحظات يكون فيها المرء لم يستطع أنْ يعدّ خساراته التي لا تحصى ، الخسارات في البعد النفسي وليس شيء آخرّ ، لأنَ الذي يؤرّق الشاعر هو ما تركه هناك في تلك الزقورة التي يذكرها في أكثر من مرة ، الزقورة هي محطة السماوة القديمة ، هي ملتقى القطار الصاعد إلى البصرة والقطار النازل إلى بغداد ، هي بالنسبة إليه الرابط بين الجنوب والوسط والعاصمة بغداد الأحبّ إلى قلبه ، هي المكان الذي يدوّي به صوت القطار محذّرا بالوداع ، و في نفس الوقت هي المكان الذي يصدحُ بلقاء الأحبةِ بعد فراق طويل ، هي الذاكرة التي تذهب وتجيء مع عربات القطارات المدويّة في ذلك الزمن الجميل الذي بقي عالقا في مخيلة الشاعر عبد الكريم ، هي المكان الذي يذكّره بالريل و حمد ، هي وهي وهي لماّ تزل تعني الكثير . أما سيقان القصب الواهنة هي الأخرى تبدو له الآن على هيئة أعمدة من نور ، لا يمكن كسرها ، إنها اليوم المنار والنور الذي يهتدي به الشاعر نحو شيئيات الماضي الذي تماثله بشكلٍ أقوى في المستقبل الواعد بأحلام باتت مستحيلة، إنها أحلام عصيّة المنال لكن الشاعر يُحاول جاهدا أن يدانيها بالقرب من نفسه العليلة لا أكثر . إنها خارج مقومات الإرادة ولذلك راح الشاعر يستشهد لنا بنصه البديع أدناه عن خارجيات ما يأمله كمُحبّ قد أضناه الخجل والأغاني الحزينة المتعلّقة في مصائر الإنسان ( تفاصيل خارج التقويم العادي)……
أشهدُ
أن الشهرَ الثالثَ عشرَ
يؤرخُ الموتَ
وحكاية الخبز الحزين
يؤرخُ خجلَ الشهداءِفي دقيقة الصمتِ
والأغنية ُ
تفقدُ هاجسها
في الحروبِ الخاطئة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أراد الشاعر أن يخبرنا عن الموت وما يحلّ بنا نتيجة هذا الغول القاتل لأفراحنا وأتراحنا ، وعن الأيام العجاف التي يشحّ بها الخبز وتكثر المجاعة والتضحية بالنفس التي تؤسّس إلى تسمية الشهداء في الحروب الخاطئة التي لا طائل منها غير القتل لأجل القتل والإنتقام، فيقف هنا عبد الكريم الرائع فيقول حتى الشهداء يخجلون من دقيقة الصمت الشهيرة التي تعبر عن مدى تخليدنا للشهيد ، عن الأسى والحزن العميقين . حتى الأغاني ليس لها طعم يذكر ،بل إنها سوف تندثر في وقتها كما اندثرت عشرات الأغاني في زمن القادسية اللعينة والحروب العبثية التي لا طائل منها ، بينما الأغاني التي تشدّ العزم في الدفاع عن الوطن أثناء الحروب الصحيحة تبقى على مرّ العصور . وهذه نراها لدى الرّوس فهم من سطر أجمل الأغاني في تلك الحروب ضدّ النازية وتحرير أوربا وشعوب العالم من الفاشية وإجرام هتلر .
أما الشهر الثالث عشر ربما أراد به الشاعر أن يقول لنا أنّ زمن الحروب العبثية هي خارج التقويم ، لا تحسب من تأريخ الشعوب و حضاراتها لأنه زمنُ خارج مدرات الحياة السعيدة وخارج أطر ما ينبغي أن نعيشه في الزمن الصحيح و المكان الصّحيح. زمن لايعرف أن يرسم لنا غير وجوه الموتى الشهداء الذين أغاضوا الأحياء الصامتين والشياطين الخرساء ، شهداء يصعدون إلى الأعالي وآخرون ماضون برتابة الحياة والركوع للسلطان والطاغية . ولذلك لم يكتفِ عبد الكريم بكلامه وحديثه عن الشهداء الحقيقيين في الحروب العادلة ولو اني لاأتفق مع أيّ حرب ، لأنها في النتيجة لا تجلب غير الدّمار والثكالى النادبات الصائحات ، لنر ماقاله مرّة أخرى بخصوص الشهداء في نصّه ( الصعود العالي حيث مغارة الغزلان) …
قاماتهم
رشيقةُ الكبرياء
عالية
وعلى اكتافهم
يتركُ التأريخُ قبلاته.
مبكراً
زرعوا وردات الجوري
في نعاس صورهم المفقودة
يشبهون وطنهم الأسمر
حلوين
مثلهُ
يتنزهون في تحيات الألفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد كلّ ممات لا بدّ للحياة أن تعوّض عن أعداد قتلاها ، أن تعوّض عن أيامها السوداء التي لا تعزف غير الأنين والألم و هدهدة الأمّ النائحة . لا بدّ لها أن تعزف لحنا آخرا ، هذه هي الحياة حينما تنتمي إلى الجذور بنظر عبد الكريم كما في أزهار ورد الجوري الأصيلة ، أما المقلّدة فهي سريعة النمو لكنها باهتة في ريعانها وألوانها . هذه هي الحياة التي نعيشها ، مرة تقودنا إلى هاوية الظلام ومرّة أخرى تصعد بنا إلى النجوم كما في الشذرة البديعة أدناه ( إرتسامات لظل الِقمرٍ بغدادي) ….
وأعودُ..
خافتَ الظلّ!
للكأس الذي يهامسُ الليلَ
بإرتسامات وجهكِ
وأنتِ القادمة
من خارطةِ الوجد البعيد
ياقمري ، ياعشب الروح
ورائحة العيد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنها تلك الأيام التي كانت تجري مثل الأنهار على سجيتها، خالدة شامخة، تجري وتجري المياه و لا تتوقف لكنها في النتيجة تنتهي عند المصب فما من قادم ٍمن نبع ،إلاّ و يكون لهُ مصبا يستقر فيه فتنتهي رحلته تراجيديّاً أو رومانسياً. ولذلك راح عبد الكريم يصوّر لنا و هو أمام مثول الكأس ، تلك الحبيبة القمرية التي تنتهي عند روحه . حتما ستأتي لأنها مثل العيد الذي يأتي رغما عنّا في كلّ عام وعام وعلى امتداد الأزمنة السادرة التي لا تتوقّف عند حدّ، ولذلك هناك قول مأثور من الشعر العامي ( إلك جانت يحلو الطول جيات …شعجب تبخل علينة بجية العيد) بإعتبار انّ العيد هو يوم اللقاءات ، يوم لم الشمل ، يوم التعارف ، يوم الزيارات بين الأقارب و الأحبة ، يوم التصافي والنقاء فلامجال فيه غير أن يكون للحب والحبيب ( إحنة إلمن معيدين …غير عله مودك…. ….مايحله هذا العيد إلاّ بوجودك…. كاظم إسماعيل كاطع) ،و من منّا لا يذكر الأغنية الشهيرة بحنجرة كوكب الشرق أم كلثوم ( ياليلة العيد آنستينا) .
لوعات نابعة بصدق و بكل ما تتريد الإختراق نحو ما هو أفضل لبني البشر في كل شئ و أوّلهم هو الحب،بدون الحب لا يمكن للإنسان والشعوب أن تبني حضاراتها ،ولذلك ظهر هذا الحبّ على شكل عيد عالمي إسمه ( فالانتاين). كلّ الأشياء زائلة سوى الحب، الحب لربما هو حب الطبيعة،حب العمل،حب الفكر،،حب الوطن و هكذا دواليك، لكن مغزى ما كتبه الشاعر عبد الكريم هنا هو الحب العاطفي الخالص لمن نحبها ، لمن تنتظر فارس أحلامها ، هذا هو الحب الذي يأخذ منّا شططا حتى يرمينا في غياهب العذاب أو يعطينا ما نشتهي و نستطيب ، وهذا يأتي حسب ما يرسمه القدر أحيانا وما لدينا من سلطانٍ عليه .
يستمرّ الشاعر مع روحه وهمسها في الحب الحقيقي الخالص لها في فلقته الرائعة أدناه (و تهمِسُ روحي ) :
وتهمِسُ لكِ روحي
مرتين
مرةً أحبكِ
وأخرى( ياعين )
لكِ أن تعبثي
بقلبي
وتغلقي ممراتِ الصيفِ
وحريق التين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
( ليست لديّ أي قناعات رائجة بإستثناء إيماني بقداسة القلب وبصدق الخيال ….جون كيتس) .
الثيمة الجميلة أعلاه هي لعبة اللواعج التي تشبه البندول برنينه صاعدا أو نازلا، اللعبة التي لا يمكن الخلاص منها، كلاهما ( الحب وحريق التين ) يمسك بطرفي الحبل و يشدّد أنّ على الروح التي باتت تعتصر من ألم الجوى و ما من معين. هكذا كان حالنا أيّام زمن الرومانسية المفقودة هذه الأيام فتارة يصيب السهم منّا مأخذا و تارة يصيب الهدف، أيّامُّ رغم مراراتها لكنها كوّنت لنا العصب الرئيسي لتلك الذكريات الجميلة سواءً في السياسة أم في الهوائيات التي تتطاير مع كل نسمةِ حبٍ جعلتنا نتأرق في الليالي الحالكة أو جعلتنا في دوخة من أمرنا في النهارات العراقية لأجل فتاةٍ دخلت القلب عنوة حتى حفرت فيه إسمها الذي لا يمحى حتى شعارٍ آخر .
كلمة عن الشاعر…
عبد الكريم هداد، ألق دائم، شعرية صارخة، صوت يتحدّى، يحترم القصيدة التي تخدم الجمال ، يخاطب قلوب الناس كما جان جاك روسو ، حنجرة قادمة من السماوة إلى أروقة هذا العالم الذي بات غرفة صغيرة ينشد بها كلّ ما يريده عن اليسار أو عن ما يحتويه دماغه من الروائع التي لا يمكن لها أن تبقَ مخزونة فتؤلم، لا بدّ لها أن تنطلق كي تتخذ صرختها فيموت الصمت.
عبد الكريم نشيط متحرك عبر السنوات، يستثير فينا ذكريات الماضي والطفولة التي لا تضاهى . حينما يرحل الحب عنه فإنه يعود حتما في سحابة أخرى ، عبد الكريم لا يعلّق خيباته على تفاصيل الآخرين ، يرضى لنفسه أن يكون مقتولا في الحب دون أن يغيض الآخرين ،من الممكن أنْ أتصور العتمة و الضباب حين أقرأ لعبد الكريم الشاعر، لما عاشه من حقائق هو بطلها، هذا الضباب لا يبرح أن يطول فيرجع منقشعاً لأن عبد الكريم لا ينتمي إلى عالم الغشاوة هو ينتمي إلى حيث يات الجدل المستمر. في فساد الزمن نرى عبد الكريم يوغل في صميم العبث الشوبنهاوري بل إلى أعلى مستويات الضيق فيه لما مرّ به من ملمات هذا الزمن و غدر الأحبة الذين ما كان يحتسب لهم أن يملؤوا صفحاته بالسواد.
عبد الكريم يفتتن بإغراء الروح على غرار (غوته ) الألماني الشهير حين يقول ( أيتها اللحظة الجميلة لا تذهبي) . عبد الكريم يبقى شاعر الحب ، على نهج حب ماركس لزوجته جيني ، يبقى شاعر الفقراء والمعدمين وضدّ قاعدة آدم سميث القبيحة في الإقتصاد الرأسمالي ( كل شيء لنفسك ولا شيء للآخرين ) ، حيث نرى عبد الكريم يجسد عكس ذلك من طبعهِ وفكره الإشتراكي…. هو يذوب …ينصهر…يتماهى….. فيقول ( كل شيْ للآخرين ولاشيء لنفسك) .